أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

السبت، 24 ديسمبر 2011

خواطر في المطلق والمقيد

موضوع المطلق والمقيد موضوع دقيق للغاية وينبغي تحريره جيدا ، وهو ما قد يحوج الباحث إلى الخروج عن طريقة الطرح الأصولي المعتادة في كتب الأصول. وللوصول إلى تحرير مناسب في هذا الموضوع فإن لي الملاحظات الأربع الآتية؟

أولا: ما الفرق بين حمل المطلق على المقيد وحمل العام على الخاص؟ مع انتشار التمثيل بهما على السواء في هذا الباب عند الأصوليين متقدميهم والمتأخرين، كما في {حرمت عليكم الميتة والدم} و {إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا} مع أن "الدم" عام لا مطلق (اسم جنس) و"دما مسفوحا" أيضا عام مخصوص (نكرة في سياق النفي {قل لا أجد...الآية})، وكذا "في الغنم في أربعين شاة شاة" و"في سائمة الغنم زكاة"، فهذه الأمثلة المشهورة للمسألة وغيرها هي من قبيل حمل العام على الخاص لا المطلق على المقيد؟ فهل كان الأصوليون ـ سيما المتقدمين ـ  لا يفرقون بين المطلق والعام والمقيد والخاص، بل يجرونهما مجرى واحدا؟ أم أن ما زعمه القرافي من تأثير الفرق بين الكلية والكلي في هذه المسألة صحيح؟ حيث إن حمل العام على الخاص الموافق له في الحكم يندرج في مسألة "إفراد بعض أفراد العام بالذكر" ـ والأكثرون على أن هذا ليس بمخصص خلافا لأبي ثور ـ ولا يصح التمثيل به على مسألة حمل المطلق والمقيد. وما أراه بادي الرأي في هذه المسألة أن حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد كليهما سواء، وأما مسألة إفراد بعض أفراد العام بالذكر، فهي حيث كان إفراد الخاص بالذكر لا مفهوم له (مفهوم لقب أو قيد غير معتبر) كما في مسألة "أيما إهاب دبغ فقط طهر" وقوله في شاة ميمونة "دباغها طهورها" فلا يصح حمل العام في الحديث الأول على مأكول اللحم فقط استدلالا حديث ميمونة ـ كما نسب لأبي ثور ـ لأن ذكر الشاة في الحديث الثاني (الخاص) مفهوم لقب فلا منافاة بين النصيين، وهذا بخلاف مسألة "في الغنم في أربعين شاة شاة" و"في سائمة الغنم زكاة"، لأن قيد السائمة في الحديث الثاني له مفهوم يدل على نفي الزكاة عما عدا السائمة (مفهوم صفة) وهو يعارض عموم النص الأول فيخصصه. قال السبكي في رفع الحاجب (3 / 351):

إذا أفرد الشارع فردا من أفراد العام بالذكر ، وحكم عليه بما حكم على العام لم يخصصه ؛ ' خلافا لأبي ثور ، مثل ' ما في صحيح مسلم من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أيما إهاب دبغ فقد طهر ' ، وقوله عليه السلام في شاة ميمونة : ' دباغها طهورها ' الشرح : ' لنا ' : أن المخصص لا بد أن يكون بينه وبين العام تعارض ، و ' لا تعارض 'بين الكل والبعض في الحكم إذا حكم عليهما بحكم واحد ، ' فليعمل بهما ' .وأبو ثور ومتابعوه ' قالوا ' : مفهوم تخصيص الفرد بالذكر كما في : ' دباغها طهورها 'نفى الحكم عن المخالف ، و ' المفهوم يخصص العموم ' .' قلنا ' إنما يخصص العموم من المفاهيم ما تقوم به الحجة ، فأما ' مفهوم اللقب 'كالشاة ، فإنه ' مردود ' كما سيأتي إن شاء الله تعالى .وأنا أقول : إن أبا ثور لا يستند إلى أن مفهوم اللقب حجة ؛ فإن غالب الظن أنه لايقول به ، ولو قال به لكان الظاهر أنه يحكى عنه ، فقد حكى عن الدقاق وهو دونه ، ولكنه يجعل ورود الخاص بعد تقدم العام قرينة في أن المراد بذلك العام هذا الخاص، ويجعل العام كالمطلق ، والخاص كالمقيد ، وليس ذلك قولا منه بمفهوم اللقب فافهمه أهـ

ثانيا: ما هو مأخذ القول بحمل المطلق على المقيد؟

هل هو مأخذ لغوي؟ أي أنه جرى سنن العرب في الكلام أن أحدهم إذا تكلم بالمطلق في موضوع ما ثم تكلم بالمقيد في موضوع آخر فإنه يجب حمل المطلق على المقيد؟ (وهذا ربما يعسر إثباته)

أم هو مأخذ عادي؟ لأن عادة الناس في كلامهم ذكر العام والمطلق قاصدين به الخاص والمقيد وإن غفلوا عن ذكر التخصيص والتقييد أحيانا

أم هو مأخذ قياسي؟ وحينئذ يشترط فيه توفر شروط إجراء القياس، سواء أكان قياس علة أو شبه

أم هو مأخذ حديثي؟ بسبب توقع نسيان أحد الرواة للقيد وذكر آخر له؟ وحينئذ فالأمر خاضع لمسألة زيادة الثقة عن المحدثين، وهذا خاص بأدلة السنة لا الكتاب.

أم هو مأخذ أصولي تأويلي؟ للجمع بين الدليلين المتعارضين بتأويل المطلق بالمقيد؟ حيث إن المفهوم المخالف للمقيد يعارض دليل الإطلاق، وكلاهما ظني والقول في تعارضهما كالقول في تخصيص العموم بالمفهوم.

والأمثلة التي يذكرها الأصولييون متنوعة: بعضها يندرج تحت المأخذ القياسي كمسألة الرقبة في كفارة الظهار وكفارة القتل، ومسألة غسل اليدين في الوضوء والتيمم. فالقول في هذه المسائل يتوقف على تحقق شروط القياس وهي أقيسة شبهية يصعب إثباتها. وبعضها يندرج تحت المأخذ الحديثي: كما في النهي عن الإمساك بالذكر في اليمين، ومسألة جعلت الأرض لي مسجدا وترابها طهورا" ومسألة إحداهن أو أخراهن أو أولاهن بالتراب، والقول في هذه المسائل يتوقف على الترجيح بين الروايات أو الكم باضطرابها أو قبول زيادة الثقة إذا تحققت شروط القبول. وهذه صناعة حديثية. وبعض الأمثلة مأخذه أصولي تأويلي؟ راجع إلى التوليف بين مدلول المفهوم المخالف للقيد ومقتضى الإطلاق أو العموم. ولا ينبغي هنا وضع قاعدة عامة بل لكل مسألة مذاق خاص تتوقف على قوة العموم والإطلاق وعلة الحكم الشامل لهما وطبيعة القيد في المقيد هل هو معتبر أم لا، وإذا كان معتبرا هل هو مخيل (مناسب بحيث يظهر من ورائه حكمة) أم لا، وغير ذلك من الاعتبارات، ويحسن التمثيل هنا بمسألة قيد السوم في الغنم لوجوب الزكاة فقيد السوم هو قيد مناسب لحكم الزكاة لأنه يتضمن معنى إعفاء المعلوفة من الزكاة لزيادة الكلفة وهذا أمر معقول.

ثالثا: تفصيل الحالات بذكر اتحاد السبب والحكم واختلافهما تفصيل غير مطرد في المسائل المندرجة وإنما انبثق خصوصا عن مسألة حمل المطلق على المقيد في مسألة كفارة القتل والظهار التي كثر جدل الحنفية والشافعية حولها. والسبب في كونه غير مطرد أنه لا يصلح إجراؤه في الأحكام المبتدأة التي لا تتوقف على أسباب، كتحريم جر الثوب خيلاء مثلا، وكذا في الأخبار التي لا تتضمن أحكاما أصلا، مع أن حمل المطلق على المقيد كما يمكن أن يكون في الإنشاءات ممكن أن يكون في الأخبار كقولك جاء الطلاب وقولك بعد ذلك جاء الطلاب المجتهدون، فيحمل العام من كلامك على الخاص، وليس ثمة سبب هنا ولا حكم. نعم يمكن أن تقول أن السبب هنا ليس هو السبب الأصولي، والحكم هنا هو الحكم اللغوي الذي هو أعم من الحكم التكليفي، لكن هذا فيه خروج عن الاصطلاح الشائع  من غير حاجة داعية وهو غير محمود. والأولى من وجهة نظري أن نقول:

المطلق والمقيد إما أن يتحدا أفي موضوعهما أو يختلفا

فإذا اختلفا فلا حمل بالإجماع

وإذا اتحدا إما أن يتحدا من كل وجه كما في "حرمت عليكم الميتة والدم" و "دما مسفوحا" فيحمل المطلق على المقيد عند القائلين بالمفهوم

وأما أن يتحدا من وجه دون وجه كما في كفارة القتل والظهار واليدين في الوضوء والتيمم وغير ذلك فالأصل عدم الحمل إلا أن يكون بدليل خارجي كالقياس.

رابعا: في بحث هذه المسألة وغيرها الأولى من وجهة نظري استقراء المسائل التي قيل فيها بحمل المطلق على المقيد من كتب الفقه المقارن ثم وسبرها ثم تقسيمها ثم تشييد القواعد، وذلك حتى لا يكون البحث تنظيريا نجري فيه التقسيمات أولا ثم نؤصل القواعد بعد ذلك ثم نبحث عن الأمثلة.

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011

منهج التعلم والتفقه في نظر ابن الجوزي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:

فقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس صيد الخاطر (ص: 183):

"ينبغي لمن له أنفةٌ أن يأنَفَ من التقصير الْمُمْكِن دفعُه عن النفس، فلو كانت النبوة مثلًا تأتي بكسب؛ لم يجز له أن يقنع بالولاية، أو تصوَّر أن يكون مثلًا خليفة، لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صحَّ له أن يكون مَلَكًا، لم يرض أن يكون بشرا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العِلم والعَمل"

قلت ـ أيمن: وهذا هو ما يدندن حوله كثير من المختصين بما بات يعرف في وقتنا الحاضر بعلوم النجاح أو علوم تطوير النفس من التفكير عاليا والتصويب بعيدا والجموح في التهديف (Thinking big).

ثم قال رحمه الله تعالى:

"وقد علم قِصَر العمر، وكثرة العلم: فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسِّطًا، لا يخفى عليه بذلك منه شيء، وإن صحَّ له قراءة القراءات السبع، وأشياء من النحو، وكتب اللغة، وابتدأ بأصول الحديث من حيث النَّقل، كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث، كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك، وقد رتَّبَتِ العلماءُ من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب.

ولينظر في التواريخ، ليعرف ما لا يُستغنى عنه، كنسب الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأقاربه به وأزواجه وما جرى له".

قلت: وهو بهذا يدعو إلى البدء بالمنقولات (القرآن، السنة، اللغات، السيرة)، ولكنه يدعو في ذلك إلى التوسط وعدم الإغراق وإفناء العمر في فن واحد، وقد أشار إلى ذلك بقوله قبل أن يذكر هذا المنهج المتوازن:

"أمّا العالم، فلا أقول له: اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه، بل أقول له: قدِّمِ المهم؛ فإن العاقل من قدر عمره، وعمل بمقضتاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب، فإن وصل، فقد أعد لكل مرحلة زادًا، وإن مات قبل الوصول، فنيتُه تسلك به. فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلًا بسماع الحديث ونسخه، ليحصل كل طريق، وكل رواية، وكل غريب، وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة، خصوصًا إن تشاغل بالنسخ، ثم لا يحفظ القرآن، أو يتشاغل بعلوم القرآن، ولا يعرف الحديث، أو بالخلاف في الفقه، ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة".

ثم استأنف منهج التعلم رحمه الله تعالى فقال:

"ثم ليقبل على الفقه، فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه، فيطلبه من مظانِّه، كتفسير آية وحديث وكلمة لغة. ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، وليعلم أن الفقه عليه مدار العلو".

قلت: وهو في هذا يدعو إلى دراسة الفقهين معا المذهبي والمقارن ويشدِّد على الاهتمام بمسائل الخلاف، مع عدم الاعتماد على كتب الفقهاء في النقل والتفسير واللغة بل يعود إلى مظان ذلك في التفسير يطلبه من كتبه والحديث من أهله وكذا اللغة، وهذا والله منهج رصين لأنه أولا يوصي بدراسة الخلاف في المراحل الأولى وهذا أدفع للتعصب المذهبي وأجدى في توسيع المدارك وتقليب المسائل والآراء وفهم النصوص. وثانيا: لأنه يطلب العودة إلى المصادر الأصلية لا التابعة، وهذه هي قمة الموضوعية والدقة العلمية. وانظر إليه كيف طلب التشاغل والاهتمام بأصول الفقه مع دراسة الخلاف، لأن الناظر في الخلاف من غير تبصر بالأصول يضيع. ثم هو يوصي بالفقه ويجعله الغاية من التعلم، وعليه "مدار العلو" والفقه هنا قد يكون بالمعنى الخاص (أي العلم بالأحكام العملية واستنباطها) وهو الظاهر، أو بالمعنى العام (أي العلم بالنصوص وتدبرها واستباط مراد الشارع منها) وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".

ثم قال رحمه الله:

"ويكفيه من النظر في الأصول [يقصد أصول الدين وعلم الكلام] ما يستدل به على وجود الصانع، فإذا أثبته بالدليل، وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز، وأثبت إرسال الرسل، وعلم وجوب القبول منهم؛ فقد احتوى على المقصود من علم الأصول".

وهو في هذا يزهِّد فيما سُمي بعلم أصول الدين وعلم الكلام وعلوم العقيدة، وهو حقيق بالتزهيد فيه، لأنه لا يزيد طالبه علما ولا إيمانا بل يفتح عليه أبواب الشبه ويقسِّي القلوب ولا يوصل إلى يقين، كما قال الغزالي، رحمه الله، في الإحياء: "فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحرِّكه الدواهي والصواعق، وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مُرسَلٍ في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا، إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقَّفه تقليدا كما تلقَّف نفس الاعتقاد تقليدا".

ثم قال رحمه الله تعالى:

"فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم، فليكن من الفقه، فإنه الأنفع".

قلت: وهو تأكيد آخر على فضل الفقه والفهم والتدبر

ثم قال رحمه الله:

"ومهما فسح له في المهل، فأمكنه تصنيفٌ في علم، فإنه يخلِّف بذلك خلفه خلفًا صالحًا. مع اجتهاده في التسبب إلى اتخاذ الولد".

قلت: وهو هنا يدعو إلى التصنيف وذلك بعد إحكام الآلات والنظر في جملة العلوم، وهو إذ يوصي بالتسبب إلى الخلف العلمي (علم ينتفع به). يدعو إلى التسبب إلى الخلف المادي (ولد صالح يدعو له).

ثم قال رحمه الله تعالى:

"ثم يعلم أن الدنيا معبرة، فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل، فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه. فإذا تعرض لتحقيق معرفته، ووقف على باب معاملته، فَقَلَّ أن يقف صادق إلا ويجذب إلى مقام الولاية، ومن أُريد وُفِّق، وإن لله عزَّ وجل أقوامًا يتولى تربيتَهم، ويبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدبًا؟ ويُسمَّى العَقْل، ومُقَوِّمًا، ويُقال له: الفَهْم، وَيتولى تأديبهم وتثقيفهم، ويُهيء لهم أسباب القرب منه؛ فإن لاح قاطع قطعهم عنه، حماهم منه، وإن تعرَّضت بهم فتنة؛ دفعها عنهم. فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد".

قلت: وهو هنا أخيرا يشير إلى الثمرة النهائية للعلم وهي العمل والمعاملة ويؤخرها عن كل ما تقدم ويجعل مجموع ما حصله من علوم وفقه دالا عليها، لأنه من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق كما قالوا، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. ثم أشار إلى مقام الولاية الناشئ عن العلم والعمل والصدق والإخلاص مع الله ولله فيهما، وأشار إلى التوفيق الإلهي لذلك.

رحمه الله تعالى ما أحسن ما قال على وجازته، وما أنفع ما نصح به على اقتصاده.

الاثنين، 31 يناير 2011

حمل المطلق على المقيد- رؤية مختلفة

ليس للتفريق بين حمل المطلق على المقيد، وحمل العام على الخاص، فائدة عملية تُذكر في نظري، وقد كان المتقدمون يسمون المطلق عاما، ولم يكن هذا يحدث عندهم بلبلة واضطرابا.

أما التفريق بين العام عموما استغراقيا (=العام)، والعام عموما بدليا (=المطلق) فذو جدوى ضئيلة في تعزيز ملكة الاستنباط لدى المتعلم؛ وذلك لأنه أمر فطري تشترك فيه اللغات ولا يحدث لبسا لدى العامي فضلا عن المتكلم. فالطفل الصغير يفرِّق بين قولك: "أعطني كتابا" وقولك: "أعطني الكتب". نعم هناك بعض لبس قد يحدث مع المفرد المعرف بأل هل هو عام عموما استغراقيا أو هو للجنس مجردا (للطبيعة كما يقول النحويون)، أو هو يدل على معرفة معهودة ذهنيا، لكن التفريق بين هذه المعاني سهل جدا بالنظر إلى سياق الكلام والقرائن المحتفة به، لذلك لا أذكر ـ على قلة باعي ـ أن الفقهاء اختلفوا في مسألة بسبب الخلاف في معنى أل في آية ما أو حديث..

أما فيما يتعلق بالتقسيمات المنطقية غير العملية التي وضعها الأصوليون في مجال حمل المطلق على المقيد، فهي ـ من وجهة نظري القاصرة ربما ـ توسُّعٌ غير محمود أوقعهم في كثير من الاضطراب والتعقيد وتكلف الأمثلة وضعفها.

وقد كنت وعدت بإيراد رؤية نقدية لهذه التقسيمات في وقت لاحق ولكن يبدو أني مضطر لتوفية جانب من هذه الرؤية في هذا المقام كبرهان على ما ذكرت، علما بأن ما أقول هنا حري بالتأمل والنقد لا سيما في هذه المرحلة البدائية من البحث.

أولا: في هذه القسمة المقترحة لا بد من الاقتصار في تعريف المطلق على أنه اللفظ الخالي عن القيد (التعريف العام، وهو تعريف اللغويين وبعض الأصوليين). وهذا ينبني عليه عدم السير مع من اصطلح على المطلق بأنه الدال على فرد شائع في الجنس.

ثانيا: وحتى لا يظن أنا نشجع الخلط بين الشائع والمستغرق فعند بحث العام ينبغي على الأصولي أن يُنوَّه بأنه نوعان: عموم الاشتمال وعموم البدل أو الصلاحية، ويفرق بينهما، مع الإشارة إلى أن عموم البدل يسمى عند قطاع عريض من الأصوليين بالمطلق ولكن منعا لتعدد الاصطلاحات وتداخلها يختار عدم استعمال لفظ المطلق بهذا المعنى بل بمعناه الواسع أي اللفظ (أي لفظ) الخالي عن القيود اللفظية.

ثالثا: أهم ما ينبني على اصطلاحي العام والمطلق من مسائل أصولية مسألةُ الجمع بين الأدلة الواردة في موضوع واحد، وهو ما نود بيانه بقسمة جديدة تخالف جزئيا ما شاع في كتب الأصول، فنقول:

إذا ورد دليلان يشتملان على عموم وخصوص في موضوع واحد (أقصد بالموضوع الواحد نفس المسألة محل التناول) فإما أن يتفقا في الحكم أو يتعارضا (ظاهريا).

- فإن تعارضا وكان أحدهما عاما والآخر أخص فهذا هو تخصيص العام، وبموجبه يتم استثناء الخاص من حكم العام. مثلا "حرمت عليكم الميتة"، و"أحلت لنا ميتتان (السمك والجراد) ودمان..."، فهنا يخصص عموم لفظ الميتة فيحمل على الميتات ما عدا السمك والجراد. وأرجو أن ينتبه هنا إلى شيء مهم جدا كثيرا ما يقع اللبس على المتعلمين بسبب عدم فهمه جيدا، وهو نسبية العموم والخصوص. فلفظ "الميتة" عام بالنسبة إلى لفظ "ميتة السمك"، ولفظ "ميتة السمك" عام كذلك بالنسبة لميتة نوع محدد من السمك: كسمك القرش مثلا. وعليه فقولنا هذا عام وهذا خاص هو أمر نسبي لا مطلق، فالعام هو خاص بالنسبة لما هو أعم منه، والخاص هو عام بالنسبة لما هو أخص منه.

- وإن اتفق الدليلان أو اللفظان ـ أي في الموضوع والحكم ـ فإما أن يتفقا في الإطلاق والتقييد أو يختلفا:

* فإن اتفقا بأن كان كلاهما مطلقا أو كان كلاهما مقيدا فهنا لا إشكال ولا تعارض بل هذا من باب توارد الأدلة على المدلول الواحد لتأكيده.

* وإن اختلفا بأن كان أحدهما مطلقا (خاليا عن قيد) والآخر مقيدا فيُنظر (ثلاثة احتمالات):
  1. إن كان اللفظان مختلفين في موضوعهما من كل وجه، مثل: لفظ الأيدي في "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"، و "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"، فهنا لا يحمل المطلق على المقيد بالإجماع، إذ الموضوع المحكوم فيه مختلف في الآيتين والحكم كذلك، والمشترك بينهما هو فقط لفظ "الأيدي". وهذا لا عبرة به.

  2. وإن كان اللفظان متفقين في موضوعهما من كل وجه:
فإما أن يكونا في سياق واحد أو لا.

#فإن كانا في سياق واحد مثل قوله تعالى: "والذاكرين الله كثيرا والذاكرات" فيُحمل المطلق (الذاكرات) على المقيد (الذاكرين الله كثيرا) إجماعا، ولا شك في أن الحمل هنا من باب اللغة وقد ذكر بعضهم لذلك شواهد كثيرة من اللغة لا مجال لذكرها.

#وإن لم يكونا في سياق واحد فكذلك يُحمل المطلق على المقيد عند الجمهور إذا كان للقيد مفهوما مخالفا كما في مثال الدم والدم المسفوح، وعند الحنفية تفصيل لسنا بصدد بيانه هنا دفعا للتعقيد لا تضعيفا لمذهبهم في هذه المسألة بل خلافهم في جانب منه قويٌ مُتَّجِه.
  1. وإن كان اللفظان متفقين في موضوعهما من وجه دون وجه، كاللفظ "رقبة" في كفارة الظهار واللفظ "رقبة مؤمنة" في كفارة القتل، إذ كلاهما في موضوع التكفير لكن لأفعال مختلفة، فالمختار أن لا حمل للمطلق على المقيد إلا أن يصح قياس أحد الحكمين على الآخر.
وعليه فالمسألة هنا ليست لغوية دلالية بل قياسية تخضع لتحقق شروط القياس في المسألة محل البحث، وتختلف من مثال لآخر بحسب قوة القياس وضعفه.

هذا المأخذ في التقسيم لحالات الجمع بين العام والأخص، وحمل المطلق على المقيد هو الذي نراه أكثر سلاسة وعَمَليَّةً من التقسيمات المعتادة عند الأصوليين، وذلك لأسباب:

أحدها: أنه يتجاوز إشكالية التفريق بين حمل العام على الخاص وحمل المطلق على المقيد، وهو تفريق لا ثمرة له على التحقيق في باب الجمع بين الأدلة.

والثاني: أنه يتجاوز الفرض الخطأ الذي اعتمد عليه الأصوليون في تقسيم حالات الحمل، وهو افتراض أن لكل حكم سببا، والخلط بين السبب بمعنى الوصف الذي يترتب عليه الحكم، وبين العلة بمعنى الغرض أو المصلحة المقصودة من الحكم. فالأحكام بالنسبة للأسباب نوعان:

أحدهما: ما يقوم على سبب، كوجوب جلد الزاني ووجوب الكفارة ووجوب صلاة الظهر...الخ،

والنوع الثاني: مُبتدأ لا يترتب على سبب معين، كتحريم الخمر وتحريم الزنا وأكل الميتة.

ولما ألزم الأصوليون أنفسهم بتقسيم حمل المطلق على المقيد تبعا للاتفاق والاختلاف في السبب والحكم ألزموا أنفسهم عند التمثيل بإيراد أسباب لأحكام مبتدأة لا تقوم على أسباب أصلا، ولذلك تجدهم مضطربين في ذكر أسباب هذه الأحكام، ويوردون في ذلك الحِكم والمقاصد والمصالح كما في مثال حكم تحريم الدم.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أنه لا يصح اصطلاحا إطلاق السبب على العلة بمعنى المصلحة والغرض والمقصود، بينما تطلق العلة على السبب، فمصطلح العلة في الاستعمال الأصولي أعم من السبب في هذا المقام.

والثالث: أنه مع شيء من التحرير للألفاظ والتحسين في الصياغة والتزيُّد في الأمثلة سيكون هذا التقسيم أسهل في الفهم وأرفق بطالب الأصول بل وأكثر إقدارا له على تمييز المسائل في مجال التطبيق.

والله أعلم.