الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه وبعد:
فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو" وقد قال بظاهر هذا الحديث جماعة من أهل العلم فمنعوا من السفر بالقرآن إلى أرض العدو على وجه العموم.
وقال محمد بن الحسن رحمه الله: إنما هذا في سفر السرية التي لا شوكة لها وأما العسكر العظيم الذي يؤمن معه أن تصل أيدي المشركين إلى المصاحف فلا بأس.
وهذا هو تخصيص عموم النهي بالعلة المفهومة منه، لأنه استثنى العسكر العظيم من العموم وقصر النهي على الأفراد والسرايا التي لا شوكة لها.
وأما الطحاوي رحمه الله فقد قال: "إن هذا النهي كان في ذلك الوقت لأن المصاحف لم تكثر في أيدي المسلمين. وكان لا يؤمن إذا وقعت المصاحف في أيدي العدو أن يفوت شيء من القرآن من أيدي المسلمين، ويؤمن من مثله في زماننا لكثرة المصاحف وكثرة القراء".
ومسلك الطحاوي هذا هو ما يطلق عليه بعضهم: النسخ بالتعليل، أو انتهاء الحكم لانتهاء علته، أو رفع الحكم لارتفاع علته، أو تغير الحكم بتغير الزمان. وحاصله تخصيص عموم النص الزماني/التطبيقي بعلة قائمة وقت النص فقط، غير ممتدة في الأزمان. وهو مسلك خطير لأن فتحه يؤدي للتجرؤ على رفع الأحكام بالتعليل، ولذلك كثيرا ما يستخدمه العلمانيون والحداثيون وكل قاصد لتعطيل الشريعة. ومع هذا ورغم خطورة هذا النوع من النظر الاجتهادي ووعورته، فهو منهج مسلوك وتطبيقاته كثيرة في فقه السلف والأئمة وليس بصواب المنع منه مطلقا، وإنما - بالنظر إلى أمثلته في فقه السلف - يجوز عندنا بشروط:
1. أن يكون صادرا عمن له أهلية الاجتهاد.
2. أن تكون علة الحكم منصوصة أو مستنبطة قوية الظهور.
3. أن تكون علة الحكم منفردة لا تشاركها أو تعارضها علة أخرى مناسبة توافق الظاهر القاضي بالعموم اللفظي أو التطبيقي.
4. أن يقطع، أو يغلب على الظن، أن العلة انتهت بمرور الزمان.
وإذا طبقنا هذه الشروط على اجتهاد الطحاوي رحمه الله المذكور آنفا لوجدناه يخرم الشرط الثالث، لأن النص يحتمل تعليله بأن المخافة من أن تنال أيدي المشركين المصحف لا لقلة المصاحف وقت النص فحسب بل لأنهم يدنسونها مغايظة للمسلمين، وعلى هذا منع الفقهاء الذمي من شراء المصحف وقالوا يجبر على بيعه. وهذه العلة جارية مع ظاهر النص ولا تقتضي رفعه وانتهاءه، وهي مناسبة جدا كتلك التي زعمها الطحاوي، فتقدم عليها لترجحها بموافقتها للظاهر أو تشاركها في تعليل الحكم فيكون معللا بأكثر من علة.
ومع هذا، فبالنظر إلى زماننا وقد انتشرت المصاحف في أصقاع الأرض وأمكن الوصول إليها من الكفار وشراؤها بيسر وسهولة مباشرة أو عن بُعد، فيمكن القول بأنه إذا لم يغلب على ظن المسلم الذي يسافر بالمصحف أنه يمكن أن تصل أيدي المشركين إليه لتدنيسه فإنه يجوز له حمله إلى بلاد الكفار وإلا فلا. وهذا النمط من النظر الفقهي هو من التعليل بعين الحكمة لا بمظنتها التي علل بها محمد بن الحسن رحمه الله (كون السفر في عسكر عظيم له شوكة). وهذا النمط لعله الأليق بحال زماننا، وهو اجتهاد وسط بين اجتهادي محمد والطحاوي، عليهما رحمة الله، يجعل الحكم دائرا مع حكمته وجودا وعدما، وإن اقتضى ذلك تخصيص العموم.
والله أعلم وأحكم.
أيمن صالح