أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تعليم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تعليم. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 1 يونيو 2020

رسائل الماجستير والدكتوراه في الدراسات الشرعية: أيُّ بديل؟!



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد: 

فالعلومُ النقلية، كعلوم الشريعة من فقهٍ وأصوله وحديث وتفسير، تتّصف بقدر كبير من الثبات. وحجمُ التغيُّر والتطوّر فيها لا يقارن البتة بالعلوم الدنيوية من اقتصاد واجتماع وطبٍّ وهندسة إلى آخر ما هنالك. وذلك لأنها بطبيعتها تقوم على النقل وخدمته، والنقل، الذي هو الشرع، ثابتٌ مكتملٌ في ذاته: {اليوم أكملت لكم دينكم}، واضحٌ محكمٌ في معظم مدلولاته: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها"، قديمٌ معمِّرٌ في وجوده، ولذلك تتابعت على تبليغه، وتفسيره، وشرحه، وتنزيله على مقتضيات الزمان والمكان ملايينُ العقول على امتداد التاريخ الإسلامي، ولذلك لا عجب أن أفتى كثير من علماء العصور المتأخِّرة بغلق باب الاجتهاد، ووصفوا بعض علوم الشرع بأنها نضجت، وبعضها الآخر بأنها نضجت واحترقت، ممّا يعني ألا مجال لمزيد من الكتابة فيها إلا لمتكلِّف. ومن هنا فعندما قال ابن العربي (ت543هـ)، كلمته المشهورة في مقدمة عارضة الأحوذي: "ولا ينبغي لحصيفٍ أن يتصدّى إلى تصنيفٍ أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، أو يبتدع وصفا ومبنى... وما سوى هذين الوجهين، فهو تسويد الورق، والتحلّي بحلية السرق". استدرك بعد ذلك قائلا: "فأمّا إبداع المعاني فهو أمر معوز في هذا الزمان، فإن العلماء قد استوفوا الكَلِم، ونصبوا على كل مشكل العَلَم، ولم يبق إلا خفايا في زوايا، لا يتولَّجها إلا من تبصّر معاطفها، واستظهر لواطفها ... ". 

قلت: قال هذا الكلام وهو من علماء القرن السادس الهجري فكيف الحال الآن ونحن في القرن الرابع عشر الهجري، مما يعني أن "الخفايا في الزوايا" التي ذكرها لا شك قد استنفدت.

ثمّ لا يخفى أن المستحِقّ لقبَ العالم في الإسلام ليس قاصرًا على الباحث في علوم الشرع، المشيِّد لأركان هذه العلوم، المجدِّد في بنيانها، المبتكر في عرضها وتحليلها، بل هو يشمل أيضًا الحافظ لهذه العلوم، المبلِّغ إياها لغيره، ولو لم يتعمّق في الاستنباط منها وفي توظيفها. ولو أَجَلْنا النظر في تراجم آلاف العلماء الذين تزخر بسيرهم كتب التاريخ والطبقات لوجدنا أنّ قلة قليلة منهم قدّموا، أو كتبوا، ما يمكن وصفه بأنه "إضافة علمية" فعلية بالمعايير البحثية المعتمدة في العلوم الدنيوية هذه الأيام، بل غالب ما خلّفوه من التأليف هو من قبيل البحوث الثانوية التي تهدف إلى التجميع أو الترتيب أو الاختصار أو الشرح الميسّر للفهم. وحجمُ النقول عمّن سبق في مؤلفاتهم هذه يشغل حيِّزا واسعا منها يكاد يشملها كلَّها إلا قليلا. 

والذي أرمي إليه من هذا التقديم أنّه من الصعوبة بمكان في العلوم النقلية إيجاد موطئ قدم للتأليف الابتكاري في الموضوع والجوهر. ولو كان لا يوصف عالما إلا من قدَّم مقاربة جديدة في التأليف لكان عدد علماء الإسلام قليلًا جدًّا. 

وفي مستهل العصر الحديث مع بدايات القرن العشرين وجدنا جُلّ كتابات علماء الشريعة تتركّز في تجديد شكل العلوم، فألَّفوا عشرات الكتب التي تعرض علوم الشريعة من الفقه وأصوله وعلوم الحديث والقرآن والاعتقاد، بلغة عصرية ميسرة، وطباعة أنيقة، هي أنسب لمتعلمي هذا الزمان.

ثمّ مع فَْرْنَجة أنظمة التعليم في عهد الاستعمار وافتتاح الجامعات، وفي ضمنها كليات التعليم الشرعي، وصيروة الكتابة العلمية شرطا للتخرّج من هذه الكليات في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، نشأ توجُّهٌ جديد في التأليف في العلوم الشرعية يقوم على الدراسة المتخصِّصة لموضوعات فرعية في هذه العلوم. وهذه الظاهرة لم تكن بهذا الاتساع قبل هذه المرحلة، بل كان أكثر ما يؤلُّف في القديم، وقبل مرحلة الجامعات، موسوعيًّا يتناول الفقه كله أو أصول الفقه كله أو علوم الحديث أو العقيدة كلها، وهكذا...، وأمّا مع هذه المرحلة فقد صار الباحث يعمد إلى عنوان فرعي ما أو باب معين في الكتب القديمة، فيتناوله بالبحث مستقرئًا ما قيل فيه ومقارنا ومرجِّحا. 

وفي مرحلة لاحقة، وبعد أن انخرط معظم المشتغلين بالعلوم الشرعية في السلك الأكاديمي للجامعات، ظهرت الحاجة إلى مؤلفات أكثر إيجازا وأدقّ محتوى من الرسائل العلمية في الماجستير والدكتوراه، وذلك لغايات الترقيات العلمية. ومن هنا بدأ الأساتذة يتوجهون إلى الكتابة في عناوين موضوعات جزئية دقيقة في مختلف العلوم الشرعية يمكن استيعاب الموضوع منها بالعرض والمقارنة والتمثيل والترجيح بكتابة خمسين صفحة أو نحوها. 

وبمرور الزمان ومع كثرة الخرِّيجين بحكم الزيادة الطبيعية لأعداد المسلمين، وفشوّ التعليم الشرعي الأكاديمي وانتشاره، استُهلكت العناوين الكبيرة التي يمكن أن تُكتب فيها الرسائل، وقلَّت كثيرًا كذلك العناوين الفرعية الدقيقة التي يمكن أن تكتب فيها البحوث القصيرة المحكّمة. 

ومع هذا الانحسار للعناوين والمواضيع غير المطروقة بالتأليف نشأت وبدأت بالتفاقم أزمةُ الوقوف على عناوين تمكن الكتابة العلمية فيها بنوعٍ من الجِدّة، ولو في الجمع والترتيب والمقارنة، وصار شُحّ العناوين مقلقًا جدًّا للأكاديميين الشرعيِّين عامّة، ولطلبة الماجستير والدكتوراه خاصّة الذين هم في أوائل مشوارهم البحثي. 

وهذه الأزمة لا تزال تتفاقم سيّما مع مئات (أو ربما آلاف) الخريجين الذين تقذف بهم الجامعات في أرجاء العالم الإسلامي في كل عام. ولا بد لعقلاء هذه الأمة من الوقوف إزاء هذه الأزمة وقفة تأمّل بغية إيجاد الحلول. وهذا المقال إنما هو محاولة في هذه الاتجاه وفي الوقت نفسه دعوةٌ إلى التباحث والتفاكر حول أسباب هذه الأزمة ونتائجها وطرق علاجها. 

أمّا الأسباب فأستطيع من خلال ما تقدم أن أوجزها في الآتي: 

1. الثبات النسبي الذي تتمتع به العلوم الشرعية في معظمها مما يجعل توليد مواضيع قابلة للبحث وإعادة النظر محدودًا جدًّا. 

2. قدم العلوم الشرعية واستقرارها وكثرة الناظرين والكاتبين فيها على مدار التاريخ مما ضيق المجال أمام مزيد من الكتابة فيها إلا مع التكرار الكثير. 

3. كثرة خريجي الدراسات الشرعية وزيادة الالتحاق منهم بالدراسات العليا في سبيل تحسين أوضاعهم الاجتماعية والمادية، وهذه الزيادة في العدد قابلها تناقص شديد في عدد المواضيع غير المطروقة التي تستحق البحث والتأليف. 

وأمّا النتائج فأهمّها الآتي: 

1. في ظل شحّ المواضيع بدأت مؤسسات التعليم العالي بالتساهل في قبول مشاريع الخطط، ممّا أدّى إلى انتشار ظاهرة التكرار والنقل في البحوث الشرعية مع الإشارة والعزو أحيانا ومن دونها في أحيانٍ أخرى. وهذا بدوره جعل معظم هذه البحوث يتَّسم بالضعف وقلّة الجدوى بحيث لا تحقّق الغاية التي اشترط إنجاز هذه البحوث من أجلها استكمالا لمتطلبات الدرجة العلمية، سواء الغاية المتمثلة بالفائدة التي تنعكس على الباحث نفسه بتقوية تحصيله وشحذ ملكته العلمية أم المتمثلة بالفائدة التي تعود على المجتمع عامّة بإمداده ببحوث نوعية تسير بالعلوم خطوات إلى الأمام. على أنّه ينبغي أن يُلاحظ هاهنا أنّ كثرة المؤلفات (التكرارية) مضرة بالعلوم كما قال ابن خلدون، وذلك لأنها تشتت المتعلم والباحث عن الفائدة وتضله عن الوصول إلى البحث النوعي الذي يضيع بين عشرات البحوث الأخرى التي تحمل نفس العنوان أو عنوانا مقاربا، حتى أضحينا في هذا الزمن في تحدٍّ بالغ وجُهدٍ جهيدٍ في الوصول إلى الكتابات الرصينة بفرزها وتمييزها عن فيض الكتابات الأخرى التكرارية الضعيفة في الموضوع نفسه، وأصبح العلم - كما قيل - نقطةً كثَّرها الجاهلون.

2. وفي ظل شحّ المواضيع أيضا صارت مؤسسات التعليم تقبل البحث في موضوعات هامشية تافهة أو قليلة الجدوى محدودة الفائدة والأثر على الباحث نفسه أو على المجتمع، لا لشيء إلا لأنها غير مطروقة. 

3. ازدياد الضغط النفسي على طلبة الدراسات العليا وعلى القائمين على الكليات الشرعية فيما يتعلق بإيجاد العناوين وإقرار مشاريع الخطط. 

4. ضياع وقت وجهد كبيرين على الطالب في التنقيب عن عناوين تستحق البحث، وكذا ضياع وقت المؤسسات العلمية وجهد أساتذتها في دراسة العناوين الكثيرة التي يقدِّمها الطلاب وتتبُّع أصالتها وجِدّتها واستحقاقها البحث، ولا سيما مع ضعف فهرسة المؤلفات التي تكتب في العلوم الشرعية وتصنيفها، وصعوبة الوصول إليها عناوين ومحتويات.

وأمّا الحلول فأقترح الآتي: 

1. إعادة النظر في صلاحيّة نظام التعليم الجامعي الذي استوردناه من الغرب وطبقناه في بلادنا في مجال العلوم الشرعية. هل هو مناسب لطبيعة هذه العلوم؟! وإذا كانت الغاية الكبرى لأي مؤسسة تعليمية شرعية هي تخريج العالم الرباني، فهل من شرط العالم أن يكون باحثا مبتكِرًا في التأليف، وهل من بحث موضوعا فرعيًّا دقيقًا هنا أو هناك في رسالة الماجستير أو الدكتوراه، حتى مع افتراض تجديده وابتكاره فيما بحث، أهلٌ لأن يكون عالما، ومن ثَمّ معلِّما في مؤسسات التعليم العالي من جامعات ومعاهد. إنّ من المفارقات في نظام التعليم الحالي في الدراسات العليا ولا سيما الدكتوراه أنه يركِّز على المنجز البحثي، بينما في الواقع العملي الوظيفي نجد أن أكثر خريجي الدكتوراه لا يعملون في مجال البحث بل في مجال التعليم أو الدعوة أو الإدارة ونحو ذلك، وكثيرٌ منهم يكون آخر عهده بالبحث رسالته للدكتوراه، وإن كتب بعضهم شيئا فبحوث جزئية تقليدية قليلة الدَّسم لأغراض الترقيات والمشاركة في المؤتمرات. وهم لا يلامون في ذلك لأنّ الجمع بين التعليم والبحث ليس سهلا، سيما مع تعقيدات الحياة الأخرى في هذه الأعصار، بل إن ممّا لاحظته في مسيرتي الأكاديمية في مؤسسات مختلفة لما يقارب العشرين سنة هو أن التفوّق في البحث والنشاط المكثف فيه لدى الأستاذ مظنة لضعف أدائه في مجال التعليم، وقليل من الأساتذة من يبرِّز في التعليم والبحث معا. وممّا يمكن أن نقترحه من تعديلات على نظام التعليم الحالي في الدراسات العليا في العلوم الشرعية ما يأتي: 

(‌أ) جعل مقرر الرسالة اختياريًّا في مرحلة الماجستير، ويُعوّض عنه في المقابل بدراسة مقررات علمية تكوينية. مع اشتراط التفوق العلمي في تأهل الطالب لأخذ مقرر الرسالة نفسه وتزكية الأساتذة له بناء على تقييم موضوعي للبحوث الفصلية التي قدمها في المقررات أثناء دراسته التكوينية، وإلا جبر على دراسة المقررات التكوينية دون مقرر الرسالة. وهذا الحلّ تعمل به بعض الجامعات بشكل أو بآخر. ومن شأنه توجيه طالب الماجستير، غير الراغب بالبحث، أو ضعيف القدرة فيه، إلى مجالات مهنية يحتاجها سوق العمل ليس البحث أو إتقانه من مستلزماتها، فما كل من أراد الرقي في السلك الأكاديمي يبغي أن يكون باحثا أو يلزمه ذلك، أو ينوي أن يواصل إلى مرحلة الدكتوراه. 

(‌ب) تقليل أعداد المقبولين في الدكتوراه واشتراط أن يكونوا ممّن أنهى الماجستير بالرسالة لا بالمقررات وحدها، مع تقييم بحثه للماجستير وجعل جودته شرطا للقبول في مرحلة الدكتوراه. 

(‌ج) التوسّع في السماح لحملة الماجستير في التدريس في مؤسسات التعليم العالي في مرحلة البكالوريوس إذا كانوا مؤهّلين للتعليم تأهيلا جيّدًا. وتوجيه حملة الدكتوراه إلى تعليم طلاب الدراسات العليا، وإلى العمل في مراكز البحث العلمي. وهذا من شأنه تقليل التركيز على المؤهّل البحثي للتدريس في مؤسّسات التعليم العالي؛ إذ لا معنى لجعل المهارة المتقدِّمة في البحث شرطًا في التأهل لتعليم طلاب البكالوريوس في الدراسات الشرعية، بل ثمة مهارات أخرى أولى بالحاجة والاعتبار، كالتحصيل العلمي والتفوق فيه، وإتقان أساليب التدريس، والمهارة في تكنولوجيا التعليم. 

2. وضع الكليات والمؤسّسات الشرعية مشاريع بحثية كبرى وتقسيمها وتوزيع العمل فيها على عدد من طلاب الدراسات العليا. وهذا تقوم به بعض الجامعات، وهو لا شك يخفِّف من عناء إيجاد مواضيع فرعية مستقلة تصلح لبحوث الماجستير والدكتوراه، لسببين: أحدها أنّ المشاريع الكبرى أيسر إيجادًا لقلة التوجه إليها بالكتابة مقارنة بالعناوين الصغرى التي استهلكتها رسائل الماجستير والدكتوراه وبحوث الأساتذة، والسبب الثاني: أنّها تحتمل عددًا لا بأس به من الباحثين ربما العشرات منهم. لكن يظل عبء الإشراف على هذه المشاريع ووضع خطط دقيقة ومناهج موحّدة لإنجازها تحدّيًا لا بأس به أمام القائمين على المؤسسات التعليمية. 

3. استبدال الرسالة سواء الدكتوراه أم الماجستير بمجموعة من البحوث الدقيقة المحكمة ولو في موضوعات متفرقة. لأن هذه الموضوعات الدقيقة أوفر عددا وأعظم عائدًا. ومن حسنات هذه الطريقة تقليل الحشو في الرسائل العلمية، لأن كثيرا من الباحثين يضطر للحشو في موضوعه الضيق لغاية الاستجابة إلى متطلبات المؤسسة التعليمية والأعراف الأكاديمية التي تشترط حجمًا معيّنا لرسالة الماجستير والدكتوراه. 

4. التوجّه نحو البحوث الشرعية الميدانية الخليطة، حيث ينقسم البحث إلى جزئين جزء نظري وهذا قد لا يشتمل على إضافة علمية، والآخر جزء ميداني في مجال الأسرة أو الدعوة أو الإعلام أو القضاء أو الإفتاء أو الأوقاف ...الخ. مع ملاحظة أن إعداد هذه البحوث بجودة يتطلب تدريب طلاب الدراسات العليا في العلوم الشرعية على مهارات البحث الميداني كطرق جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها. 

5. التوجّه نحو البحوث البينية بين التخصصات بحيث يتناول الطالب موضوعًا واحدًا من زاويتين: زاوية الشرع، وزاوية علم آخر، كعلم النفس مثلا، أو علم الاجتماع، أو الاقتصاد، أو الإدارة، أو الإعلام، أو القانون، ونحو ذلك. وهذا النوع من البحث ليس سهلا؛ لأنه يتطلب الإلمام الجيد بالشريعة من جهة، وبالعلم الآخر من جهة أخرى، لكنّه مع ذلك يفتح آفاقا واسعة للبحث التكاملي بين علوم الشرع والعلوم الأخرى. 

6. استبدال مقرّر الرسالة، ولا سيّما في مرحلة الماجستير، بمشروع يسفر عن منتج شرعي ليس بالضرورة أن يكون قائمًا على البحث، كابتكار وسيلة تعليمية شرعية حديثة متطورة، أو إنتاج مادة إعلامية شرعية كفلم وثائقي، أو تصميم برمجية شرعية ما، أو موقع إلكتروني ذي محتوى شرعي متجدد... الخ. والقصد هنا توسيع مجال الإنتاج الابتكاري لا ليكون مقتصرا على الكتابة العلمية بل يشمل أي إنتاج سمعي أو بصري أو حاسوبي من شأنه أن يخدم الشريعة الإسلامية. وفي نظري مثل هذه المنتجات أولى بالاعتبار من تحقيق مخطوط قديم غير ذي أهمية مثلا، أو كتابة رسالة غالبها النقل عن الآخرين باللفظ أو المعنى. 

هل لديك مقترحات أخرى؟ اكتبها في التعليق لو سمحت.

الخميس، 19 ديسمبر 2019

قاعدة مهمّة في طلب العلم: خمسة أسباب ترجِّح الرّضى بعدم الفهم على تطلُّب الفهم


أو بعبارة أخرى: خذ ما تفهم الآن، ودع عنك ما يصعب فهمُه إلى حينه. 

يجهد بعض المتعلِّمين في محاولة فهم كلّ كبيرة وصغيرة في الدرس الذي يسمعه، أو الكتاب الذي يقرؤه، ظانًّا أنّ هذه هي سبيل التعلُّم الأمثل. وهذا لو تُؤمِّل لوُجِد ضارًّا بحال أكثر المتعلِّمين لأسباب عدّة: 

أولًا: أنّه يؤخِّر التقدُّم في التعلُّم كثيرًا، ويطوِّل سبيله؛ إذ بعض المسائل أو الأفكار أو الأقوال قد تحتاج إلى ساعات أو أيام أو أسابيع أو حتى شهور، من الجهد والبحث والسؤال لأهل الاختصاص حتى تُفهم حقّ الفهم على مراد واضعيها. ومَثَلُ الواقف عند هذه المسائل في الوصول إلى الغرض من العلم المدروس أو الكتاب المقروء، ومَثَل المعرِض عنها، كمثل السلحفاة والأرنب إذا تسابقا من غير أن ينام الأرنب في الطريق. 

السبب الثاني: أنّ فهم مثل هذه المسائل غالبًا ما يعتمد على فهم مسائل أخرى تمهيدية لم يمرّ بها المتعلم بعدُ بسبب ضَعف طُرُق التعليم لعدم مراعاتها مبدأَ تدرُّج المسائل والعلوم، كما هو الحال في أكثر الجامعات التي تدرِّس بنظام الساعات، أو بسبب سوءِ وضع الكتاب المقروء واختلال ترتيبه، ولكنّ المتعلِّم سيمرّ بهذه المسائل التمهيدية لاحقًا في الدروس، أو فيما يستقبله من فصول الكتاب. وعليه، فكثير من المعضلات التي قد يواجهها طالب العلم في مُبتدَأ حضور الدروس، أو مستهلّ الخوض في دراسة علم من العلوم، أو كتاب من الكتب، تنكشف له شيئًا فشيئًا مع تقدُّمه في الدروس أو مضيه في القراءة، أي أنّه سيفهمها بأثرٍ رجعي، دون الحاجة إلى بذل كثير من الجهد ابتداءً. 

السبب الثالث: أنّ محاولة المتعلِّم فهمَ كلِّ كبيرة وصغيرة يورثه الملال نظرًا للمشقة التي يجدها في ذلك، ولاسيما إذا لم يجد من يسعفه بالشرح والتفهيم عاجلًا. وهذا من شأنه أن يُقلِّل من مستوى حماسه ودافعيته للتعلُّم بمرور الوقت، وغالبًا ما يؤدي به إلى الانقطاع عن التعلم أو عن قراءة الكتاب بعد أن كان متحمِّسا لذلك منذ البداية. 

السبب الرابع: أنّ التوقُّف عند هذه المسائل بحثًا عمّا - أو عمّن - يشرحها ويُفهمُها يقطع تتابع العلم، ويشتِّت الطالب، وزملاءه في الدرس، ويُزعج المعلِّم، ويصرف عن مواصلة قراءة الكتاب. وداءُ العِلم تركُ المتابعة والمولاة وفقدُ التركيز بالانصراف إلى غير ما المتعلم بصدده من واضح المسائل التي هي جوهر العلم ومعظمُه، إلى معلِّم آخر يسأله، أو كتاب آخر يطرقُه، أو متصفِّحٍ إنترنتيٍّ يُجوجله. وتركُ الموالاة إذا كان مُفسدًا الوضوءَ والصّلاةَ قاطعا لهما فإنّه لبناء العلم أفسد وعنه أقطع. 

السبب الخامس: أنّ كثيرًا ممّا يوقف عنده كثيرًا لصعوبته وإشكاله في الدروس والكتب ولاسيما كتب أصول الفقه، يكون متعلِّقًا بفكرة هامشية غير ذات جدوى في العلم، أو مجرّد استطراد في علم آخر، كالمنطق أو الكلام، أو متعلِّقًا بفكّ عبارة لماتنٍ أو شارحٍ أو مُحشٍّ لم يحسن صوغَها، أو تكون مصحّفة في نسخها أو طباعتها. ولو وُزِنت الفائدة المجتناة من فهم مثل هذه المسائل، وحلِّ هذه الإشكالات بالتعب المبذول في فهمها وحلِّها الذي لو صُرف في فهم مسائل أخرى يسيرة الفهم ولكنها ذات أهمية وأثر في تحصيل ثمرة العلم أو حَوْز زبدة الكتاب المدروس، لكانت هذه الفائدة تافهة بل في غاية التفاهة. فالكسب العلمي أو النفسي الذي يُتحصَّل عليه مَنْ فَهِم هذه المسائل، وحَلّ هذه الإشكالات، لا ينبغي أن يُنظر إليه بمعزل عن الخسارة التي نتجت عن ضياع الجهد والوقت ومن ثم فوات تحصيل مكاسب أخرى أهم. وهو ما يُطلق عليه في علوم الاقتصاد والمال: "الفرصة الضائعة". 

والخلاصة: لا تهتمَّ كثيرًا بما يفوتك فهمُه في درسٍ تحضره، أو كتابٍ تقرؤه، إذا كان المفهومُ عندك من هذا الدرس أو هذا الكتاب أكثر من غير المفهوم، أو كان غير المفهوم هامشيًا؛ وإذا اضطررت إلى قراءة كتب المتأخّرين - ولا أنصح بها - فاقتصر على الشرح ولا تلتفت إلى الحواشي، لأنّه سياتي عليك وقتٌ تفهم فيه ما فاتك فهمه إذا قطعت شوطًا في العلم ورسخت قدمك فيه. وخذ بما قاله تعالى في توجيه المؤمنين في كيفية التعامل مع المتشابهات: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي فاشتغل بهنّ عِلمًا وعملًا {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فاتركهن الآن؛ لأنّه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فقاصد فهم ما لم يتأهّل بعدُ لفهمه زائغٌ ضلَّ الطريق؛ لأنّه إمّا أن يكون باغيًا الفتنة بترويج تأويله الخطأ وفهمه السقيم متابعةً للهوى لا للحقّ، وإمّا جاهلًا يريد أن يتزبَّب قبل أن يتحصرم. فهذه المتشابهات لا يعلمها حقّ العلم إلا قائلها سبحانه وتعالى، ثمَّ من يتركها حتى يرسخ في العلم فيفتح الله عليها بفهمها على وجهها ليكون من الذين {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[آل عمران: 7]. وهذا على رأي من يجعل الوقف في الآية بعد عبارة "الراسخون في العلم" لا قبلها.

الخميس، 21 نوفمبر 2019

استعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي: عوائق وتحديات


هذا عنوان بحث نشر لي حديثا في المجلة الأكاديمية العالمية للعلوم الشرعية، وملخصه هو الآتي:
ملخص:
هدفت هذه الورقة إلى دراسة قضايا هامة متعلّقة باستعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي.
فتطرقت إلى فوائدها وسلبياتها، وعلَّلت ظاهرة تراجع التعليم الشرعي رغم تقدم وسائله وتطورها، وأوضحت العوائق والتحديات التي تحول دون استعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي، والضوابط التي ينبغي التقيد بها عند استعمال هذه الوسائل في التعليم الشرعي.


وقد كان ذلك بمنهجية الوصف والتحليل بعد استقراء عدد من الدراسات التي تناولت استعمال تقنيات التعليم
بوضع عام، وتلك التي تناولت استعمالها في التعليم الشرعي بوضع خاص، وخرجت الورقة بعدد من النتائج والتّوصيات تتعلّق باستعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي ولاسيما في مجال تشخيص العوائق والتحديات التي أدَّت وتؤدّي إلى تقليل قدر استعمال هذه الوسائل في التعليم الشرعي مقارنة بالعلوم الأخرى، وفي مجال رسم ضوابط هادية لاستعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي الاستعمال الأمثل.


لقراءة البحث كاملا أو تنزيله استخدم هذا الرابط:


السبت، 9 نوفمبر 2019

بين الدعوة إلى التمذهب والدعوة إلى اتباع الدليل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه وبعد:

فجماعة "فقه الدليل" ونبذ التقليد والتمذهب يرتكبون خطئا بقولهم: نحن نتبع الكتاب والسنة لا أقوال الرجال، وإنّ هذا هو الواجب على كل مسلم يفقه الدليل وإلا كان من المقلدين الذين ذمهم الله في كتابه.

ودعاة المذهبية من جهتهم يرتكبون خطئا بالإنكار عليهم بقولهم: وأئمة المذاهب يتبعون الكتاب والسنة وهم أعلم بها منكم. ودعوتكم إلى اتباع الكتاب والسنة لا تعني إلا اتباع فهمكم لهما. ووقولكم السابق لا يعدو كونه إنشاء لمذاهب جديدة لا تنحصر، أصحابها أفراد لا يملك أكثرهم أدوات الاجتهاد من لغة ونحو وأصول فقه ومعرفة بالخلاف ومآخذه، أو لا يُسلم لهم بامتلاك هذه الأدوات وإن ظن بعضهم ذلك في نفسه .

أما خطأ جماعة "فقه الدليل" فلأنهم زعموا أنهم يتبعون النص ذاته. وهذا يقتضي بالضرورة أن غيرهم من المتمذهبين لا يتبعه، وأن فهمهم للنص (أو لمجموع النصوص والأدلة في المسائل) هو النص، وهذا غير صحيح، كما أنهم ظنوا باتباعهم الدليل أنهم خرجوا عن التقليد بالكلية بينما أكثرهم مقلد في الحكم ومقلد في تعيين الدليل وفهمه، فتقليدهم مركب لا مفرد، وهو رغم ما ينطوي عليه من زيادة العلم بالمقارنة مع المقلد الذي لا يعلم الدليل إلا أنه يرافقه غالبا جهلٌ من نوع آخر، وهو الظن بنفسه أنه بمعرفة هذا الدليل وفهمه على هذا النحو قد حاز الصواب وأن مخالفه مخطئ غالبا أو قطعا. ثم إنهم لم يتبعوا النص والدليل عندما حكموا بتحريم اتباع مذهب بعينه؛ إذ لا نص في هذه المسألة، وإذا جاز اتباع أكثر من مجتهد في نفس الوقت فمن أين يحرم اتباع واحد بعينه إذا غلب على الظن أن رأيه الصواب كما يظنه أتباع المذاهب في متبوعيهم.

وأمّا خطأ دعاة المذهبية فلأنهم جعلوا "فقه الدليل" بمنزلة إنشاء لمذاهب جديدة. وهذا فيه مبالغة كبيرة لأن المذهب بنيان متكامل من أصول وفروع نصية واجتهادية في كل المجالات من عبادات ومناكحات ومعاملات وجنايات وغيرها، بينما الواقع أن جماعة "فقه الدليل" إنما أبدوا آراء في مسائل محدودة تشكل نسبة ضئيلة من مجموع ما بحثه الأئمة وأتباعهم أصولا وفروعا.

كما أخطؤوا بل ناقضوا أنفسهم عندما زعموا أن الممارسة الفقهية التي يقوم به جماعة "فقه الدليل" تتطلب شخصا كامل الأهلية في الاجتهاد حتى تسوغ منه هذه الممارسة، وذلك لأن جماعة "فقه الدليل" لم يخرجوا عن فقه الأئمة في الجملة فهم لا ينشئون أقوالا بل يتخيرون من بين أقوال الأئمة المسلّم لهم بأهلية الاجتهاد بما بدا لهم أنه الراجح والأقرب للنص والدليل. ولا يملك أحد أن يزعم أن هذا الأمر لا يجوز، بل جمهور الأصوليين - من المتمذهبين أنفسهم - على جواز تنقل المقلد بين المذاهب إذا لم يكن تنقلا للهوى وتتبعا للرخص.

فالقول بوجوب اتباع مذهب معين قولٌ يحمل في طياته تناقضا داخليا، لأنه في ذاته قول غير ملتزم بمذهب معين، أي أنه اجتهاد من غير مؤهّل للاجتهاد (مقلد) لتحريم الاجتهاد؛ فأئمة الاجتهاد لم يقولوا بلزوم تقليد مذهب معين والاقتصار عليه ولا حتى تقليد أنفسهم. وإنما أُثر هذا القول عن بعض مقلدي الأئمة، فكأن هؤلاء المقلدة منحوا أنفسهم أهلية الاجتهاد فأفتوا بما هو خارج عن مذاهب الأئمة في هذه المسألة. فلا أقل من أن يوصف هذا الرأي بالشذوذ بتطبيق القواعد المذهبية نفسها.

فإن قيل هو سد لذريعة الفوضى وتتبع الرخص وتصدر غير المؤهلين للترجيح والفتوى ودعوى الاجتهاد.

فالجواب: أنه إنما يحكم بمقتضى سد الذريعة المجتهد دون غيره وأنتم بإقراركم لستم من أهل الاجتهاد. كما أن الأئمة الذين أخذو بمبدأ سد الذريعة لم يقولوا بوجوب اتباع إمام بعينه في جميع المسائل أو حتى معظمها. والحاجة إلى ضبط الفتوى والاجتهاد كانت قائمة في عصرهم كما هي قائمة في عصرنا، بل ربما في زمنهم أكثر لكثرة المشتغلين بالعلم في ذلك الزمان.

ثم إن جماعة "فقه الدليل" يمكنهم مواجهتكم بنفس الدليل (سد الذريعة) وهو أن الدعوة لاتباع إمام بعينه في كل ما يقول، يلزم منه - بحسب الواقع - التعصب للمذهب والموالاة والمعاداة عليه والتفرق المذموم. وشواهد هذا التعصب وآثاره الكارثية في تاريخ المذاهب حتى وقت قريب كثيرة معروفة مشهورة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنه يلزم من هذا القول مفسدة الحرج والتضييق على الناس بإلزامهم وإلزام علمائهم بما لم يدل على لزومه لا نص ولا إجماع ولاعقل، بل جاء النص: بـ "استفت قلبك وإن أفتاك الناس"، وأجمع العلماء - عمليا - قبل نشوء المذاهب على عدم لزوم اتباع مذهب معين في كل ما جاء به أو حتى في غالب ذلك، إلى أن جاء بعض مقلدة المذاهب وهم الأقل فخالفوا ذلك.

والحاصل هو أن ثمة شططا في تقرير هذه المسألة عند كلا طرفيها في هذا الزمان: دعاة المذهبية، ودعاة "فقه الدليل". وفي نظري أن الصواب وسطٌ بين القولين، وهو يتلخص في نقطتين:

1. التمذهب بمذهب معين ليس بحرام إلا على من بلغ رتبة الاجتهاد. وفقه الدليل ليس بواجب إلا على مجتهد. وهذا خلاف قول دعاة "فقه الدليل".

2. فقه الدليل جائز حتى لغير المتأهل للاجتهاد إذا لم يخرج في اختياره وترجيحه عن أقوال الائمة السابقين من أهل الاجتهاد. فإن أتى بما لم يقله أحد من الأوائل فهذا لا يجوز له؛ لأنه وإن جاز له الاختيار والترجيح فلا يجوز له إنشاء فقه جديد لعدم الأهلية الكاملة للاجتهاد. وهذا القول خلاف قول دعاة المذهبية.
والله أعلم.


الأربعاء، 6 نوفمبر 2019

المبادئ السبعة للارتقاء بالتعليم الجامعي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:

فاعتمادًا على ما يُقارب خمسين سَنَةً من البحث العلمي حول كيفية التعليم وكيفية التعلُّم خرج الباحثان آرثر شيكيرينج وزيلدا جامسون (1987م) بمبادئ سبعة للممارسة الجيدة في التعليم الجامعي.

وقد لاقت هذه المبادئ السّبعة قبولا ورواجا كبيرين لدى كافّة الأوساط الأكاديمية ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية لما تستند إليه من أساس علمي متين. ومن ثمَّ أصبحت هذه المبادئ معيارا تُوزَنُ به كافة مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة الأمريكية، فبقدْر حَظِّ المؤسسة التعليمية من الممارسة لهذه المبادئ يكون اعتمادها وتقديرها ورتبتها.

تَنَصُّ هذه المبادئ السبعة على ما يلي[1]:

التعليم الجامعي الجيد يتصف بما يلي:

1. يُشَجِّع على الاتصال بين الأستاذ والطالب:
إن الاتصال المتكرِّر بين الأستاذ والطالب داخل حجرة الصف وخارجها هو أهم عامل في تحفيز الطالب ودفعه نحو التعلُّم. واهتمام الأستاذ بالطالب يساعد الطالب على تخطي العقبات التي تواجهه، ويجعله يستمر في دراسته واجتهاده. ومعرفة الطالب عن قرب ببعض الأساتذة تعزز فيه الوفاء بالتزاماته الفكرية وتدفعه إلى التفكير بقِيَمِهِ الخاصَّة وخططه المستقبلية.

2. يُنَمِّي التبادلية والتعاون بين الطلبة أنفسِهم:
إن عملية التعلُّم تزداد فعالية عندما ينخرط فيها المتعلمون بصفتهم فريقا واحد لا بصفتهم أفرادا، كل فرد منهم يجري في مضمار مستقل عن الآخر. فالتعلم الجيد هو تماما كالعمل الجيد يقوم على التعاون والاشتراك، لا على التنافس والانعزال. إن العمل بصحبة الآخرين يزيد من انخراط الطلاب في العملية التعلُّمية، وعندما يُبادِل الطالب الطلاب الآخرين أفكاره ويستجيب لردود أفعالهم فهذا من شأنه أن يزيد من حدَّةِ فِكْره ويُعمِّقَ فهمَه.

3. يُشَجِّع (( التعليم الفعَّال )):
التَّعلُّم ليس كمشاهدة مباراة لكرة القدم. لا يتعلم الطلاب جيدا بمجرد الجلوس في حجرة الصف والاستماع إلى الأستاذ، ولا بحفظ المادة العلمية المعدَّة سلفًا، ثم رشق الأستاذ بالإجابات. وإنما ينبغي أن يتحدَّث الطلاب، وأن يكتبوا، حول ما يتعلمون، ثم يربطوه بخبراتهم السابقة، ويحاولوا تطبيقه في حياتهم اليومية. يجب عليهم أن يجعلوا ما يتعلمونه جزءا من ذواتهم.

4. يُزوِّد الطلاب بتقييمٍ عاجل:
معرفة الطالب بالقدْر الذي يعلمه والقدر الذي لا يعلمه تجعله أكثر تركيزًا في عملية التعلُّم. ولذلك يحتاج الطلاب دومًا إلى تغذية راجعة حول أدائهم لكي يستفيدوا من موادِّهم الدراسية. في البداية وقبل البدء يحتاج الطلاب لمن يقيِّم لهم حصيلتهم العلمية وكفاءتهم، وفي حجرة الصف لا بد أن تُتاح لهم الفرصة مرارًا كي يوجِّهوا الاقتراحات ويستقبلوها لتطوير أدائهم. وفي مراحل مختلفة أثناء التعليم الجامعي، وفي نهايته، لا بد من إتاحة المجال للطلاب للقيام بتسجيل ما تعلموه، وتعريفهم بما لم يتعلموه بعد، وكيف يمكنهم تقييم أنفسهم في هذا المجال.

5. يُؤكِّد على أداء المهمَّات في أوقاتها:
الوقت مضافا إليه الجهد يساوي التَّعلُّم. إنه لا بديل عن أداء المهمّات الدراسية في أوقاتها. أنْ يتعلم المرء كيف ينظِّم وقته مهمٌّ جدًا للطلاب والمحترفين على حد سواء. وفي هذا الصدد يحتاج الطلاب إلى مساعدة لتعليمهم كيف يديرون أوقاتهم إدارة فاعلة. إن تخصيص فترات معقولة من الوقت لأداء المهام يعني تعلُّما جيِّدا من قِبَل الطلاب وتعليما جيِّدا من قِبَل الأساتذة. والكيفية التي تصوغ فيها المؤسسة التعليمية توقّعاتها المرحلية المنشودة من الطلاب والأساتذة والإداريين من شأنها أن تضع أساسا لأداء راقٍ من قِبَل الجميع.

6. يَتَوَقَّع نتائج عالية:
تَوَقَّعِ المزيد تحصلْ على المزيد. توقُّعُ الأساتذة والمؤسسة التعليمية نتائجَ عالية لأداء الطلاب مهمٌّ جدا، سواء أكان الطلاب من غير المؤهّلين تأهيلًا جيّدًا، أو من أولئك الذين لا يحبّون بذل الجهد في التعلُّم، أو من المتفوّقين والمجتهدين. فَمِثْلُ هذا التوقُّع سيكون كالنُّبوءة التي تتحقَّق إذا ما اعتقد بها صاحبها، وسيدفع هذا التوقّع الأساتذة والإداريين إلى بذل جهود إضافية لتحقيقه.

7. يُراعي تنوُّع المواهب واختلاف طرائق الناس في التعلُّم.
هناك طرق متعددة يسلكها الناس كي يتعلموا، وينضم الطلاب إلى المؤسسة التعليمية وهم يتمتعون بمواهبَ مختلفة وأنماطٍ متعدِّدَة للتعلّم. فالطالب اللامع في حجرة المناقشة ربما لا يحسن شيئًا في غرفة المختبر أو المرسم، والطالب المبدع في الأعمال اليدوية ربما لا يكون كذلك في الجانب النظري. إذن، لا بدَّ من إتاحة الفرصة للطلاب لإظهار مواهبهم، وجعلهم يسلكون الطريق المناسب لهم في عملية التعلُّم، وبعد ذلك يمكن دفعُهم لسلوكِ طُرُقٍ جديدة في التعلم لا تبدو سهلة.

هذه هي المبادئ السبعة التي وضعها أصحابها أساسا لتطوير وتقييم أداء أي مؤسسة تنخرط في التعليم الجامعي. وتتمتع هذه المبادئ بالعموم المفرط، ولا تشتمل في ثناياها على أيَّة إجراءات عَمَلِيَّة وتطبيقية يمكن امتثالها لتحقيق هذه المبادئ، وهذا شيء مقصود لواضعي هذه المبادئ لأنهم أرادوا لهذه المبادئ أن تنسجم مع أيَّة مؤسَّسة تعليمية سواء أكانت تُعلِّمُ موادَّ نظريةً أم مهاراتٍ مِهْنِيَّةً أم تمزج بين التعليم النظري والمهْني. ويأتي الدور بعد ذلك على كل مؤسسة أن تضع من الإجراءات العملية والوسائل التطبيقية ما تضمن به تحقيق أكبر قدر ممكن من كل مبدأ من هذه المبادئ السبعة. فهذه المبادئ هي مجرَّد موجِّهات عليا للتعليم العالي فحسب.

وفي سبيل تمتُّع المؤسسة التعليمية بأكبر قدْرٍ ممكن من هذه المبادئ فإني أقترح ما يلي:

أولا: دراسة هذه المبادئ وفهمها ثم تَبَنِّيها من قِبَل العاملين في المؤسسة والدارسين.
وفي هذا الصدد يمكن القيام بما يلي:

أ. تخصيص جلسات وعلى كافة المستويات (اجتماع رؤساء الأقسام، اجتماع كل قسم) للحوار والنقاش حول هذه المبادئ بغية فهمها فهما أعمق.

ب.البحث عن متخصصين في العلوم التربوية لإلقاء المحاضرات وعقد ورش العمل للعاملين في المؤسسة في سبيل تعزيز فهم هذه المبادئ عندهم.

ج. عقد جلسات "عَصْف ذهني" (=brain storming) مع الطلبة والأساتذة على حد سواء في سبيل إيجاد وسائل لتفعيل هذه المبادئ.

ثانيًا: وضع خطة سنوية عامة من قبل الإدارة ثم من قبل رؤساء الأقسام ثم من قبل كل محاضر تتضمن الوسائل التي سيتبعها كل منهم من خلال موضعه الوظيفي لتفعيل هذه المبادئ، ومتابعة سير المؤسسة في التقدم نحوها. ثم مراجعة ما نُفِّذ من الخطة في نهاية العام.

يدٌ واحدةٌ لا تُصَفِّق، والجهود الفردية التي قد تُبذَل هنا أو هناك من قِبَل هذا الشخص أو ذاك لتفعيل المبادئ السبعة لن تُؤتي أُكُلَها حتى يكون الأمر عامًّا وكاسحًا وعلى كلّ صعيد، ومن هنا كانت المسؤوليّة الكبرى للرُّقِي بالعَمَليَّة التعلُّميَّة التعليمية تقع على أصحاب القرار لأنّ بيدهم الحل والربط والتدريب والتوجيه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أيمن صالح
عدل في 6 نوفمبر 2019


[1] Chickering, A.W, and Gamson, Z.F. "Seven Principles for Good Practice in Undergraduate Education." AAHE Bulletin, 1987, 39(7), P 3-7.

السبت، 27 أبريل 2019

معالم في منهج التعلم عند الغزالي

الحمد لله والصّلاة
والسّلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

قال الغزالي رحمه الله:

"إن تفرغت من نفسك وتطهيرها، وقدرت على ترك ظاهر الإثم وباطنه، وصار ذلك ديدنا لك وعادة متيسِّرة فيك - وما أبعد ذلك منك - فاشتغل بفروض الكفايات، وراعِ التدريج فيها، فابتدىء بكتاب الله تعالى، ثم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بعلم التفسير، وسائر علوم القرآن من علم الناسخ والمنسوخ والمفصول والموصول والمحكم والمتشابه، وكذلك في السنة، ثم اشتغل بالفروع، وهو علم المذهب من علم الفقه - دون الخلاف - ثم بأصول الفقه، وهكذا إلى بقية العلوم على ما يتسع له العمر ويساعد فيه الوقت. ولا تستغرق عمرك في فن واحد منها طلبًا للاستقصاء فإن العلم كثير، والعمر قصير، وهذه العلوم آلات ومقدمات، وليست مطلوبة لعينها بل لغيرها، وكل ما يطلب لغيره فلا ينبغي أن يُنسى فيه المطلوب ويُستكثر منه". إحياء علوم الدين (1/ 39).

ويؤخذ من هذا أنه، رحمه الله، يوصي بالآتي:

1. تقديم العلم لضروري (فرض العين) على التزود بفروض الكفاية من العلوم.

2. تقديم علم السلوك (تطهير النفس من الآفات الظاهرة والباطنة والتحلي بالفضائل) على طلب العلوم الكفائية.

3. مراعاة التدريج في العلوم بالأخذ بها واحدا ثم الذي يليه فلا يخلط بينها في وقت واحد ولا ينتقل من علم حتى ينتهي غرضه
من الذي قبله.

4. تقديم العلوم النقلية (القرآن والسنة) على غيرها في التحصيل.

5. دراسة علم الفقه المذهبي والابتعاد عن الفقه المقارن (الخلاف).

6. تقديم العلم بالفروع الفقهية على تعلم أصول الفقه.

7. عدم الاستقصاء في أيٍّ من هذه العلوم الكفائية، لأنها آلية ليست مقصودة لذاتها.

وأكثر ما قرره رحمه الله سديد وبعضه قابل للأخذ والرد.

الجمعة، 26 أبريل 2019

الدافعية الذاتية: أهميتها وطرق إثارتها


الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

هذا برنامج فيديو من إعدادي، يهدف إلى التعريف بالدافعية الذاتية للمتعلم وأهميتها في تحصيله العلمي والطرق التي يمكن للمعلم أن يثير فيها هذه الدافعية.

وهو يتكون من ثلاثة أقسام:


الأحد، 17 مارس 2019

12 ميزة للكتاب الإلكتروني على الورقي وفي كل خير





اثنا عشر ميزة للكتاب الإلكتروني على الكتاب الورقي، وفي كليهما خير:

1. خفة المحمل: فيمكن حمل آلاف الكتب الإلكترونية في فلاش مموري بحجم رأس الأصبع.

2. التوفير: فالإلكتروني غالبا مجاني أو رخيص جدا مقارنة بالورقي.

3. إمكانية البحث: الكتب الإلكترونية النصية يمكن البحث فيها ـ كما في الشاملة - بسهولة ويسر وسرعة هائلة لا تقارن مع الكتاب الورقي.

4.التحكم في الخط: يمكنك التحكم بخط الكتاب الإلكتروني النصي نوعا وحجما ولونا بما يناسب قوة ناظريك بخلاف الورقي.

5. الرؤية الليلية: بإمكانك ذلك في الإلكتروني دون إضاءة الحجرة، ولكن ينصح بجعل الإضاءة في الحد الأدنى حفاظا على البصر.

6. الإعارة والهبة: يمكنك أن تعير أو تهدي نسخا لا نهائية من الإلكتروني دون الورقي.

7.الوفرة: لأن النسخ الإلكترونية لا تنتهي ولا تتوقف على إعادة الطبع ولا غير ذلك.

8. المحافظ على البيئة: وذلك بتقليل الاعتماد على الورق المتسبب بقطع الأشجار التي توفر الأكسجين وتحافظ على طبقة الاوزون. 

9. سهولة الأرشفة: الكتب الإلكترونية يمكن ترتيبها في مكتبة إلكترونية بكل سهولة وسرعة، وترتيبها بطرق مختلفة: حسب المؤلف والموضوع والعنوان والكلمات المفتاحية...الخ، ويسهل الوصول إليها بخلاف الكتاب في المكتبة الورقية.

10. سهولة الاقتباس: الكتاب الإلكتروني يمكن الاقتباس منه نصا أو صورة لنص بثوان معدودة بخلاف الورقي الذي تحتاج إلى نسخ النص المقتبس منه يدويا.

11. التفاعلية: الكتب الإلكتروني الحديثة يمكن أن تكون تفاعلية وغنية بأنواع الميديا الرقمية الحديثة كالصور ثلاثية الأبعاد و الصور المتحركة وأفلام الفيديو، والأسئلة التفاعلية التي تصحح تلقائيا، وغير ذلك. 

12. التفنن في التعليق: أغلب القارئات الحديثة للكتب الإلكترونية توفر إمكانية التعليق على نصوصها وحفظ هذه التعليقات وتلوين خطوطها والإشارة إلى الأخطاء الطباعية أو تصحيحها. وغير ذلك.

هذه 12 ميزة للكتاب الإلكتروني على الورقي، إحداها كافية في تفضيله عليه، فكيف بها جميعا. 

ولا أرى فضيلة واحدة للكتاب الورقي على الإلكتروني إلا ما يُسمى هراء بـ "البركة"، والاعتياد. وما مثل من يفضّل الكتاب الورقي على الإلكتروني - في نظري - إلا كمن يفضل ركوب الحمار على ركوب الطائرة؛ لأنه يستمتع بركوب الحمار.

تحياتي لعشاق الكتاب الورقي، والخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.😎

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011

منهج التعلم والتفقه في نظر ابن الجوزي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:

فقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس صيد الخاطر (ص: 183):

"ينبغي لمن له أنفةٌ أن يأنَفَ من التقصير الْمُمْكِن دفعُه عن النفس، فلو كانت النبوة مثلًا تأتي بكسب؛ لم يجز له أن يقنع بالولاية، أو تصوَّر أن يكون مثلًا خليفة، لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صحَّ له أن يكون مَلَكًا، لم يرض أن يكون بشرا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العِلم والعَمل"

قلت ـ أيمن: وهذا هو ما يدندن حوله كثير من المختصين بما بات يعرف في وقتنا الحاضر بعلوم النجاح أو علوم تطوير النفس من التفكير عاليا والتصويب بعيدا والجموح في التهديف (Thinking big).

ثم قال رحمه الله تعالى:

"وقد علم قِصَر العمر، وكثرة العلم: فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسِّطًا، لا يخفى عليه بذلك منه شيء، وإن صحَّ له قراءة القراءات السبع، وأشياء من النحو، وكتب اللغة، وابتدأ بأصول الحديث من حيث النَّقل، كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث، كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك، وقد رتَّبَتِ العلماءُ من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب.

ولينظر في التواريخ، ليعرف ما لا يُستغنى عنه، كنسب الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأقاربه به وأزواجه وما جرى له".

قلت: وهو بهذا يدعو إلى البدء بالمنقولات (القرآن، السنة، اللغات، السيرة)، ولكنه يدعو في ذلك إلى التوسط وعدم الإغراق وإفناء العمر في فن واحد، وقد أشار إلى ذلك بقوله قبل أن يذكر هذا المنهج المتوازن:

"أمّا العالم، فلا أقول له: اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه، بل أقول له: قدِّمِ المهم؛ فإن العاقل من قدر عمره، وعمل بمقضتاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب، فإن وصل، فقد أعد لكل مرحلة زادًا، وإن مات قبل الوصول، فنيتُه تسلك به. فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلًا بسماع الحديث ونسخه، ليحصل كل طريق، وكل رواية، وكل غريب، وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة، خصوصًا إن تشاغل بالنسخ، ثم لا يحفظ القرآن، أو يتشاغل بعلوم القرآن، ولا يعرف الحديث، أو بالخلاف في الفقه، ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة".

ثم استأنف منهج التعلم رحمه الله تعالى فقال:

"ثم ليقبل على الفقه، فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه، فيطلبه من مظانِّه، كتفسير آية وحديث وكلمة لغة. ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، وليعلم أن الفقه عليه مدار العلو".

قلت: وهو في هذا يدعو إلى دراسة الفقهين معا المذهبي والمقارن ويشدِّد على الاهتمام بمسائل الخلاف، مع عدم الاعتماد على كتب الفقهاء في النقل والتفسير واللغة بل يعود إلى مظان ذلك في التفسير يطلبه من كتبه والحديث من أهله وكذا اللغة، وهذا والله منهج رصين لأنه أولا يوصي بدراسة الخلاف في المراحل الأولى وهذا أدفع للتعصب المذهبي وأجدى في توسيع المدارك وتقليب المسائل والآراء وفهم النصوص. وثانيا: لأنه يطلب العودة إلى المصادر الأصلية لا التابعة، وهذه هي قمة الموضوعية والدقة العلمية. وانظر إليه كيف طلب التشاغل والاهتمام بأصول الفقه مع دراسة الخلاف، لأن الناظر في الخلاف من غير تبصر بالأصول يضيع. ثم هو يوصي بالفقه ويجعله الغاية من التعلم، وعليه "مدار العلو" والفقه هنا قد يكون بالمعنى الخاص (أي العلم بالأحكام العملية واستنباطها) وهو الظاهر، أو بالمعنى العام (أي العلم بالنصوص وتدبرها واستباط مراد الشارع منها) وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".

ثم قال رحمه الله:

"ويكفيه من النظر في الأصول [يقصد أصول الدين وعلم الكلام] ما يستدل به على وجود الصانع، فإذا أثبته بالدليل، وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز، وأثبت إرسال الرسل، وعلم وجوب القبول منهم؛ فقد احتوى على المقصود من علم الأصول".

وهو في هذا يزهِّد فيما سُمي بعلم أصول الدين وعلم الكلام وعلوم العقيدة، وهو حقيق بالتزهيد فيه، لأنه لا يزيد طالبه علما ولا إيمانا بل يفتح عليه أبواب الشبه ويقسِّي القلوب ولا يوصل إلى يقين، كما قال الغزالي، رحمه الله، في الإحياء: "فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحرِّكه الدواهي والصواعق، وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مُرسَلٍ في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا، إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقَّفه تقليدا كما تلقَّف نفس الاعتقاد تقليدا".

ثم قال رحمه الله تعالى:

"فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم، فليكن من الفقه، فإنه الأنفع".

قلت: وهو تأكيد آخر على فضل الفقه والفهم والتدبر

ثم قال رحمه الله:

"ومهما فسح له في المهل، فأمكنه تصنيفٌ في علم، فإنه يخلِّف بذلك خلفه خلفًا صالحًا. مع اجتهاده في التسبب إلى اتخاذ الولد".

قلت: وهو هنا يدعو إلى التصنيف وذلك بعد إحكام الآلات والنظر في جملة العلوم، وهو إذ يوصي بالتسبب إلى الخلف العلمي (علم ينتفع به). يدعو إلى التسبب إلى الخلف المادي (ولد صالح يدعو له).

ثم قال رحمه الله تعالى:

"ثم يعلم أن الدنيا معبرة، فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل، فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه. فإذا تعرض لتحقيق معرفته، ووقف على باب معاملته، فَقَلَّ أن يقف صادق إلا ويجذب إلى مقام الولاية، ومن أُريد وُفِّق، وإن لله عزَّ وجل أقوامًا يتولى تربيتَهم، ويبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدبًا؟ ويُسمَّى العَقْل، ومُقَوِّمًا، ويُقال له: الفَهْم، وَيتولى تأديبهم وتثقيفهم، ويُهيء لهم أسباب القرب منه؛ فإن لاح قاطع قطعهم عنه، حماهم منه، وإن تعرَّضت بهم فتنة؛ دفعها عنهم. فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد".

قلت: وهو هنا أخيرا يشير إلى الثمرة النهائية للعلم وهي العمل والمعاملة ويؤخرها عن كل ما تقدم ويجعل مجموع ما حصله من علوم وفقه دالا عليها، لأنه من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق كما قالوا، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. ثم أشار إلى مقام الولاية الناشئ عن العلم والعمل والصدق والإخلاص مع الله ولله فيهما، وأشار إلى التوفيق الإلهي لذلك.

رحمه الله تعالى ما أحسن ما قال على وجازته، وما أنفع ما نصح به على اقتصاده.

الخميس، 30 ديسمبر 2010

الموسوعة الأصولية الإلكترونية - الإصدار الأول

برنامج كمبيوتري مجاني يتميز بما يلي:

1. يضم أشمل وأوسع وأدق قاعدة بيانات لنصوص ومسائل أصول الفقه من الكتب التراثية والكتب المعاصرة

2. لا يكتفي البرنامج بعرض النصوص الأصولية كمواد صلدة كما هي في الكتب، وفي الموسوعات الأخرى (الشاملة مثلا)، بل يقوم على دراسة تحليلة دقيقة للنصوص الأصولية في كتب الأصول المختلفة وفهرسة شاملة لها وفقا لعناصر جزئية في التحليل، ومن هذه العناصر التي تتحلل لها النصوص:

المفاهيم والمصطلحات
أسماء العلماء والأصوليين
عناوين المسائل
الأحاديث
الآيات
الآثار
الاقتباسات
أسماء الكتب المذكورة في النصوص
الأمثلة الفقهية (الفروع)
الضوابط والقواعد

3. التحليل والفهرسة يمكنان البرنامج من التفنن في عرض المادة الأصولية فبنقرة زر واحدة يستطيع المستخدم عرض (وطبع) كل ما ورد في كتب الأصول (مرتبة حسب المذهب أو تاريخ الوفاة..الخ) في مسألة معينة (مثلا: دلالة الأمر بعد الحظر)، مع ملاحظة أن عملية التحليل ستوقف المستخدم على العنصر التحليلي ـ وهو عنوان المسألة هنا ـ في كل كتاب أينما وردت بغض النظر عن الألفاظ التي استعملها المؤلف، والتي قد تختلف من مؤلف لآخر، وكذا بغض النظر عن المكان الذي بحثها فيه المؤلف، وذلك لأنه في أثناء عملية التحليل النصية تم توحيد جميع عناوين المسائل في كتب الأصول (سواء أكانت معنونة في النص الأصلي أم لا). وبنقرة زر واحدة يستطيع المستخدم عرض المسائل التي ذكر فيها اسم عالم معين (مثلا: الصيرفي) بغض النظر عن الطريقة التي ذكر فيها اسمه في الكتاب الأصلي. وقُل مثل ذلك في باقي عناصر التحليل التي ذكرت في النقطة السابقة.

4. تتميز “عناصر التحليل النصي” في البرنامج بألوان متتميزة وارتباطات تشعيبية، بحيث يمكنك في أثناء مطالعة مسألة ما النقر على مصطلح ما ورد فيها تريد معلومات إضافية عنه، فيعرض لك البرنامج في شاشة مستقلة كل المواطن التي عُرِّف فيها هذا المصطلح في كتب الأصول التي يضمها البرنامج.

5. يشتمل البرنامج بالطبع على خدمات البحث النصي وتصفح المسائل والربط بالنسخ المصورة وغير ذلك من الخدمات التي توفرها المكتبة الشاملة.

6. في الإصدار الثاني للبرنامج سوف يقوم القائمون على البرنامج بضم وتحليل النصوص الأصولية الموجودة في الكتب غير الأصولية أساسا ككتب التفسير وشروح الحديث والفقه المقارن.