ليس للتفريق بين حمل المطلق على المقيد، وحمل العام على الخاص، فائدة عملية تُذكر في نظري، وقد كان المتقدمون يسمون المطلق عاما، ولم يكن هذا يحدث عندهم بلبلة واضطرابا.
أما التفريق بين العام عموما استغراقيا (=العام)، والعام عموما بدليا (=المطلق) فذو جدوى ضئيلة في تعزيز ملكة الاستنباط لدى المتعلم؛ وذلك لأنه أمر فطري تشترك فيه اللغات ولا يحدث لبسا لدى العامي فضلا عن المتكلم. فالطفل الصغير يفرِّق بين قولك: "أعطني كتابا" وقولك: "أعطني الكتب". نعم هناك بعض لبس قد يحدث مع المفرد المعرف بأل هل هو عام عموما استغراقيا أو هو للجنس مجردا (للطبيعة كما يقول النحويون)، أو هو يدل على معرفة معهودة ذهنيا، لكن التفريق بين هذه المعاني سهل جدا بالنظر إلى سياق الكلام والقرائن المحتفة به، لذلك لا أذكر ـ على قلة باعي ـ أن الفقهاء اختلفوا في مسألة بسبب الخلاف في معنى أل في آية ما أو حديث..
أما فيما يتعلق بالتقسيمات المنطقية غير العملية التي وضعها الأصوليون في مجال حمل المطلق على المقيد، فهي ـ من وجهة نظري القاصرة ربما ـ توسُّعٌ غير محمود أوقعهم في كثير من الاضطراب والتعقيد وتكلف الأمثلة وضعفها.
وقد كنت وعدت بإيراد رؤية نقدية لهذه التقسيمات في وقت لاحق ولكن يبدو أني مضطر لتوفية جانب من هذه الرؤية في هذا المقام كبرهان على ما ذكرت، علما بأن ما أقول هنا حري بالتأمل والنقد لا سيما في هذه المرحلة البدائية من البحث.
أولا: في هذه القسمة المقترحة لا بد من الاقتصار في تعريف المطلق على أنه اللفظ الخالي عن القيد (التعريف العام، وهو تعريف اللغويين وبعض الأصوليين). وهذا ينبني عليه عدم السير مع من اصطلح على المطلق بأنه الدال على فرد شائع في الجنس.
ثانيا: وحتى لا يظن أنا نشجع الخلط بين الشائع والمستغرق فعند بحث العام ينبغي على الأصولي أن يُنوَّه بأنه نوعان: عموم الاشتمال وعموم البدل أو الصلاحية، ويفرق بينهما، مع الإشارة إلى أن عموم البدل يسمى عند قطاع عريض من الأصوليين بالمطلق ولكن منعا لتعدد الاصطلاحات وتداخلها يختار عدم استعمال لفظ المطلق بهذا المعنى بل بمعناه الواسع أي اللفظ (أي لفظ) الخالي عن القيود اللفظية.
ثالثا: أهم ما ينبني على اصطلاحي العام والمطلق من مسائل أصولية مسألةُ الجمع بين الأدلة الواردة في موضوع واحد، وهو ما نود بيانه بقسمة جديدة تخالف جزئيا ما شاع في كتب الأصول، فنقول:
إذا ورد دليلان يشتملان على عموم وخصوص في موضوع واحد (أقصد بالموضوع الواحد نفس المسألة محل التناول) فإما أن يتفقا في الحكم أو يتعارضا (ظاهريا).
- فإن تعارضا وكان أحدهما عاما والآخر أخص فهذا هو تخصيص العام، وبموجبه يتم استثناء الخاص من حكم العام. مثلا "حرمت عليكم الميتة"، و"أحلت لنا ميتتان (السمك والجراد) ودمان..."، فهنا يخصص عموم لفظ الميتة فيحمل على الميتات ما عدا السمك والجراد. وأرجو أن ينتبه هنا إلى شيء مهم جدا كثيرا ما يقع اللبس على المتعلمين بسبب عدم فهمه جيدا، وهو نسبية العموم والخصوص. فلفظ "الميتة" عام بالنسبة إلى لفظ "ميتة السمك"، ولفظ "ميتة السمك" عام كذلك بالنسبة لميتة نوع محدد من السمك: كسمك القرش مثلا. وعليه فقولنا هذا عام وهذا خاص هو أمر نسبي لا مطلق، فالعام هو خاص بالنسبة لما هو أعم منه، والخاص هو عام بالنسبة لما هو أخص منه.
- وإن اتفق الدليلان أو اللفظان ـ أي في الموضوع والحكم ـ فإما أن يتفقا في الإطلاق والتقييد أو يختلفا:
* فإن اتفقا بأن كان كلاهما مطلقا أو كان كلاهما مقيدا فهنا لا إشكال ولا تعارض بل هذا من باب توارد الأدلة على المدلول الواحد لتأكيده.
* وإن اختلفا بأن كان أحدهما مطلقا (خاليا عن قيد) والآخر مقيدا فيُنظر (ثلاثة احتمالات):
- إن كان اللفظان مختلفين في موضوعهما من كل وجه، مثل: لفظ الأيدي في "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"، و "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"، فهنا لا يحمل المطلق على المقيد بالإجماع، إذ الموضوع المحكوم فيه مختلف في الآيتين والحكم كذلك، والمشترك بينهما هو فقط لفظ "الأيدي". وهذا لا عبرة به.
- وإن كان اللفظان متفقين في موضوعهما من كل وجه:
فإما أن يكونا في سياق واحد أو لا.
#فإن كانا في سياق واحد مثل قوله تعالى: "والذاكرين الله كثيرا والذاكرات" فيُحمل المطلق (الذاكرات) على المقيد (الذاكرين الله كثيرا) إجماعا، ولا شك في أن الحمل هنا من باب اللغة وقد ذكر بعضهم لذلك شواهد كثيرة من اللغة لا مجال لذكرها.
#وإن لم يكونا في سياق واحد فكذلك يُحمل المطلق على المقيد عند الجمهور إذا كان للقيد مفهوما مخالفا كما في مثال الدم والدم المسفوح، وعند الحنفية تفصيل لسنا بصدد بيانه هنا دفعا للتعقيد لا تضعيفا لمذهبهم في هذه المسألة بل خلافهم في جانب منه قويٌ مُتَّجِه.
- وإن كان اللفظان متفقين في موضوعهما من وجه دون وجه، كاللفظ "رقبة" في كفارة الظهار واللفظ "رقبة مؤمنة" في كفارة القتل، إذ كلاهما في موضوع التكفير لكن لأفعال مختلفة، فالمختار أن لا حمل للمطلق على المقيد إلا أن يصح قياس أحد الحكمين على الآخر.
وعليه فالمسألة هنا ليست لغوية دلالية بل قياسية تخضع لتحقق شروط القياس في المسألة محل البحث، وتختلف من مثال لآخر بحسب قوة القياس وضعفه.
هذا المأخذ في التقسيم لحالات الجمع بين العام والأخص، وحمل المطلق على المقيد هو الذي نراه أكثر سلاسة وعَمَليَّةً من التقسيمات المعتادة عند الأصوليين، وذلك لأسباب:
أحدها: أنه يتجاوز إشكالية التفريق بين حمل العام على الخاص وحمل المطلق على المقيد، وهو تفريق لا ثمرة له على التحقيق في باب الجمع بين الأدلة.
والثاني: أنه يتجاوز الفرض الخطأ الذي اعتمد عليه الأصوليون في تقسيم حالات الحمل، وهو افتراض أن لكل حكم سببا، والخلط بين السبب بمعنى الوصف الذي يترتب عليه الحكم، وبين العلة بمعنى الغرض أو المصلحة المقصودة من الحكم. فالأحكام بالنسبة للأسباب نوعان:
أحدهما: ما يقوم على سبب، كوجوب جلد الزاني ووجوب الكفارة ووجوب صلاة الظهر...الخ،
والنوع الثاني: مُبتدأ لا يترتب على سبب معين، كتحريم الخمر وتحريم الزنا وأكل الميتة.
ولما ألزم الأصوليون أنفسهم بتقسيم حمل المطلق على المقيد تبعا للاتفاق والاختلاف في السبب والحكم ألزموا أنفسهم عند التمثيل بإيراد أسباب لأحكام مبتدأة لا تقوم على أسباب أصلا، ولذلك تجدهم مضطربين في ذكر أسباب هذه الأحكام، ويوردون في ذلك الحِكم والمقاصد والمصالح كما في مثال حكم تحريم الدم.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أنه لا يصح اصطلاحا إطلاق السبب على العلة بمعنى المصلحة والغرض والمقصود، بينما تطلق العلة على السبب، فمصطلح العلة في الاستعمال الأصولي أعم من السبب في هذا المقام.
والثالث: أنه مع شيء من التحرير للألفاظ والتحسين في الصياغة والتزيُّد في الأمثلة سيكون هذا التقسيم أسهل في الفهم وأرفق بطالب الأصول بل وأكثر إقدارا له على تمييز المسائل في مجال التطبيق.
والله أعلم.