أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الثلاثاء، 30 نوفمبر 2021

مأساة تحكيم المقالات في المجلات العلمية

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، وصحبه، ومن والاه، وبعد:

فَيفتقرُ تحكيمُ البحوث والمقالات في المجلات العلمية، ولاسيما العربية المتخصّصة في العلوم الإنسانية، إلى معاييرَ واضحةٍ ضابطة لعملية التحكيم. ومن ثَمَّ لم يكن مستغربًا - بل كثيرًا معتادًا - أن يأتي تقريرُ أحد الحكمين اللذين أُرسلت لهما المقالة العلمية على النقيض تماما من تقرير الحكم الآخر، فيُثني أحدهما على المقالة ثناءً وافرًا، في حين يُبالغ الآخر في ذمّها فلا يجيزها للنشر، أو يجيزها مع تعديلاتٍ جوهريّة، قد تقتضي إعادة كتابة المقالة في معظمها من جديد.

يبدأ الخلل في كثير من الأحيان من إدارة تحرير المجلة حين تُرسلُ البحث إلى حَكَمٍ من خارج التخصّص الدقيق لموضوع البحث، بل ربّما كان أحيانًا خارجًا عن التخصّص العام له. والسببُ جهلُ الـمُرسل بمادّة البحث على وجه الدِّقة، وإلى أي تخصُّص فرعيٍّ تنتمي، أو ربّما كان السببُ مصالحَ شخصيّةً، بأن يتغاضى مديرُ التحرير عن تطلُّب توفّر التخصّص الدقيق في الحَكم؛ لأنه قريب، أو زميل، أو صديق، أو ذو سلطان؛ فينفِّعُه المديرُ بأجرة التحكيم؛ مَيلًا إليه، أو ليكسب يدًا عنده لمنافع يُرجى تبادُلها.

فإذا لم يحصل من ذلك شيء، وأصابت إدارةُ المجلة في اختيار الحكم فيما يتعلق بالتخصّص الدقيق فإنّها ربّما لا تحسن اختياره من حيث مدى ما يتّصِف به من موضوعيّة في النقد؛ ولا سيّما إذا كان ينتحي اتجاها متطرِّفًا في التخصّص؛ إذ في كلِّ تخصّص محافظون تقليديّون يمينيّون، وآخرون تجديديّون مُتَفَتِّحون يساريّون، وقسمٌ ثالث في الوسط لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء: وعند التطرُّف تتهاوى الموضوعيّة في النقد إلى حدٍّ كبير. وأقرب الناس إلى الموضوعيّة أرباب الوسط.

ولو افترضنا اهتداء إدارة المجلة إلى الحكم المتخصِّص المعتدل غير المتطرف فلا يمكن استبعاد الأسباب النفسية المؤثِّرة فيما يمارسه من نقدٍ للآخرين وأعمالهم، ولا سيّما ما يتميّز ويتفوّق من هذه الأعمال. وأعظمُ هذه الأسباب النفسية آفةُ الحسد الذي قال عنه ابن تيمية، رحمه الله: (أمراض القلوب وشفاؤها، ص21): هو «مرض غالبٌ فلا يخلص منه إلا القليل من الناس؛ ولهذا يُقال ‌ما ‌خلا ‌جسدٌ ‌من ‌حسد، لكنِ اللئيم يُبديه، والكريم يُخفيه»، وقال ابن رجب، رحمه الله: (جامع العلوم والحكم، 2/ 260): «‌الحسد ‌مركوزٌ في طباع البشر، وهو أنّ الإنسان يكره أن يفوقه أحدٌ من جنسه في شيء من الفضائل. ثمّ ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام: فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل، ثمّ منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقلٍ إلى نفسه، وهو شرُّهما وأخبثُهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهيّ عنه، وهو كان ذنبَ إبليس حيث كان حسد آدم، عليه السلام، لمّا رآه قد فاق على الملائكة». وهذا الذي قاله الشيخان من تَأصُّل الحسد في قلوب الناس هو ما دلّ عليه ما رُوي عنه، صلى الله عليه وسلم، بسند ضعيف: «كلُّ بني آدمَ حَسود، وبعضٌ أفضلُ في الحسد من بعض...». (السخاوي، المقاصد الحسنة، ص579).

ولأجل آفة الحسد هذه ردَّ علماؤنا كلام الأقران من العلماء بعضهم في بعض، ولم يلتفتوا إليه، حتّى سطّروا في ذلك قاعدةً قالوا فيها: "كلام الأقران بعضهم في بعض يُطوى ولا يُروى"، وقالوا: "المعاصرة حِجاب"، وذلك لأنها تزوي عن المتعاصرين رؤية فضائل بعضهم بعضًا؛ لما استقرّ في نفوسهم من التحاسد والتنافس بحكم المعاصرة. روي عن ابن عبّاس، رضي الله عنهما، أنّه قال: (جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1091): «خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم في بعض؛ فإنّهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة». وقال مالك بن دينار، رحمه الله: (جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1092): «يُؤخذ بقول العلماء والقراء في كلّ شيء إلا قول بعضهم في بعض؛ فَلَهُم ‌أشدّ ‌تحاسدًا من التيوس». وقال الذهبي، رحمه الله: (ميزان الاعتدال، 1/ 111): «‌كلام ‌الأقران، بعضِهم في بعض، لا يُعبأ به، لا سيّما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد. ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أنّ عصرًا من الأعصار سَلِم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصِّدّيقين، ولو شئتُ لسردت من ذلك كراريس».

ومن ثَمَّ كان التحكيمُ محفوفًا بكثير من الآفات التي تدنيه من التعسّف، وتُقصيه عن الموضوعية، بدءًا بآفة تواضع معرفة الحكم بمادة البحث إن كان جاهلا، ومرورًا بآفة احتمال تطرّفه وتحيّزه إن كان عارفًا، وانتهاء بآفة ما قد يثور في نفسه من الحسد الكامن عند وجدانه بحثًا متميّزا يفوق ما يكتبه هو.

وأخطر الحُكّام ليس الجاهل بموضوع البحث المدرك لجهله، لأن هذا يتواضع في النقد ولا يجرؤ عليه إلا في الشكليّات وما عَلِم خطأه قطعًا، وإنما أخطرهم العالمُ الحسود؛ لأنه يتمحّل النقد الموضوعي ويتكلّفه، ويُبدي صواب الباحث، أو ما احتمل الصواب، في لبوس الخطأ المحض مستغلًّا معرفته بالموضوع، ويليه منزلةً في الخطر  -وهم الأكثر توافرًا من الحُكّام في الواقع- الحُكّامُ أنصاف العالمين بالموضوع، الماسّين له مسًّا ضعيفًا أو وَسَطًا، فهؤلاء يتجرؤون على النقد الموضوعي بما لا يحسنون ظانّين أنهم يُحسنون، فيقعون في أخطاءَ في النقد يندى لها جبين المدرك لذلك. وقد قالوا قديمًا: ما أهلك الأديان إلا أنصاف العلماء، وما أهلك الأبدان إلا أنصاف الأطباء.

وأشدُّ من يعاني من التحكيم صنفان من الباحثين: باحثٌ ضعيف لا يفي بمعايير البحث الموضوعية أو الشكلية أو كليهما، ولا سيّما إذا كان بحثه مكرورًا خاليًا من الإضافة العلمية. وهذا الباحث حقيقٌ بالمعاناة؛ لأنّ مادّته رخيصة وبضاعتَه مزجاة، وحقُّه أن يكفّ عن عَرْضِ عَقلِه على الناس بسقيم التأليف الذي يسود به الصُّحُف، فالضرر الحاصل من كثرة السقيم من التأليف لا يقلُّ عن الضرر الحاصل من ندرة الجيّد منه. والصنف الآخر باحثٌ متميِّزٌ لا يجاريه الحَكَمُ معرفةً وعمقًا واقتدارًا، ولا سيّما إذا خلا بحثُه، على قوّته الموضوعيّة، من العيوب الشكليّة. وهذا الباحث ليس حقيقًا بالمعاناة، ويتعسّف أكثرُ الحُكّام في نقد ما يقدّمه من مادّة علمية: إمّا جهلًا، وإمّا حسدًا، أو كليهما.

وضمانةً ألا يتعسّف الحُكّام في النقد، سواءٌ منهم الجاهلون، أم العالمون، أم أنصاف العالمين، فإنّ على هيئات التحرير في المجلات أن تتوافق على معايير لضبط التحكيم وتقييد الحَكم بها قدر الإمكان، فكم من عائبٍ قولًا صحيحًا... وآفتُه من الفهم السقيم. 

وممّا يُقترح في هذه المعايير ويتعلّق بها ما يأتي:

  1. يُرَدّ البحث قطعًا للسرقة العلمية، ويُدرج الباحث في قائمة سوداء تُعمّم على المجلات الأخرى. ومن وظيفة الحكم أن يجهد نفسه في الكشف عن السرقة العلمية ما استطاع.
  2. يُرَدّ البحث إذا خلا من إضافة علميّة على ما سبقه من دراسات في الموضوع نفسه. ومن أهم واجبات الحكم أن يُقدِّر حجم الإضافة العلمية في البحث، بالرجوع إلى ما كُتب في الموضوع من دراسات سابقة، سواءٌ أشار إليه الباحث أم لم يشر، إذ كثيرًا ما يتعمّد الباحثون عدم الإشارة إلى الدّراسات السابقة اللصيقة بالموضوع إذا لم تكن له إضافةٌ على ما جاء فيها.
  3. لا يُرَدُّ البحث بسبب الأخطاء الشكلية ولو كثرت (كعيوب الطباعة والتوثيق ونحو ذلك)، لأنّ هذا ممّا يسهل تداركه.
  4. لا يُردُّ البحث بسبب الأخطاء العلمية المقطوع بخطئها إذا لم تكن من الكثرة بمكان، أو كانت هامشية، لم يُبن عليها في البحث أفكارٌ مِفصلية، ونتائجُ أساسيّةٌ تصبّ في صُلب الإضافة العلمية المدّعاة.
  5. لا يجوز للحَكم أن يفرض رأيه على الباحث فيما قرّره في بحثه من رأي يحتمل الخلاف، ولو رأى الحكم أنّ هذا الرأي مرجوحٌ أو ضعيف ما دام قد بناه الباحث على أدلّةٍ ومقدّمات، ولو ظنيةً أو محتملة. لأنّ الرجحان والضعف أمران نسبيان. وفي نهاية المطاف يتحمّل الباحث نتيجة آرائه، لا يتحمّلها الحَكم ولا المجلّة. وكم من رأي كان مرجوحًا مستهجنًا في زمان صار راجحًا رائِجًا في غيره.
  6. ينبغي على الحَكم أن يركّز نقده على المنهجيّة المتبعة في وصول الباحث إلى نتائج البحث، والتحقّق من سلامة الإجراءات، ومن ذلك مثلًا: أن يؤشِّر له على الدعاوى غير المبرهن عليها، ويرشده إلى استكمال النقص في استقراء الآراء، أو الأدلّة في المسألة، ويتحقّق من وجود إشكالية حقيقية دقيقة تغّيا البحث حلَّها والإجابة عن أسئلتها، وأنّ ذلك تحقَّق فعلًا.
  7. لا يُقبل من الحَكم نقدٌ لفكرة في البحث يُراد تعديلها إلا ببيان موضعها من البحث بالسطر والصفحة، مع بيان الصواب ووجه التعديل.
  8. ينبغي أن يفصِل الحكم بين ملاحظاته الإجمالية واقتراحاته التحسينية من جهة، والتعديلات التي لا يُقبل نشر البحث إلا بعد إجرائها من جهة أخرى. أي يفصل بين ما كان مجملًا وما كان مفصَّلًا، وفي المفَصَّل من الملاحظات يميِّز بين ما كان تحسينًا وإثراءً، وما كان تصويبًا لخطأ قطعي في المعلومات أو الإجراءات أو الشكليّات، فهذا الأخير يُلزَم الباحث بتعديله، وما عداه يستأنِس به فَيَقبل منه ما يَقبل، ويُهمل منه ما يُهمل، لأن البحث له يُعبِّر عن آرائه ومجهوداته، لا عن آراء الحكم ومجهوداته.
  9. بناء على النقطة السابقة يُقترح أن يشتمل تقرير الحكم على ثلاثة أقسام:

أولًا: الملاحظات الإجمالية.

ثانيًا: الملاحظات التفصيلية الإثرائية.

ثالثًا: الأخطاء العلمية أو المنهجية أو الشكلية (المطلوب تعديلها).

وما كان في القسم الأخير فقط هو ما يُلزمُ الباحث بتعديله دون ما سواه، ولا يُورِد الحكم فيه إلا ما كان خطئًا على وجه القطع، لا ما كان للاحتمال فيه مجال، ويُورِده مع بيان موضعه من البحث ووجه الصواب فيه. ويُعطى الباحث الحقَّ في الردّ على ما يورده الحكم في هذا القسم ممّا لم يقتنع بتعديله، لا لإثبات صواب رأيه، بل يكفي في ذلك بيانُ احتمال رأيه الصواب. ولا يُحَكَّم الحَكَمُ مرّةً أخرى في ردّ الباحث ولا يُطلَع عليه، لأنه انتقل، بعد رد الباحث عليه، من كونه حكمًا إلى كونه خصمًا ونظيرًا، فيفصِل في الخلاف بينهما مديرُ التحرير إن أمكنه، أو تُعرض الملاحظات والردُّ عليها على حَكمٍ آخر للفصل.