أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الثلاثاء، 21 أبريل 2020

تعليل القول بجواز أداء صلاة الجماعة عن بُعد (بواسطة البث الفضائي وغيره)


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد: 

فلا شك في أنّ لصلاة الجماعة في المسجد مقاصد لا تحصل إلا بالاجتماع في المكان، ومن أهم هذه المقاصد تعارف المسلمين في الحي وتآلفهم، وتحقيق التساوي بين غنيهم وفقيرهم وخاملهم ووجيههم حيث يقفون في الصف نفسه، هذا فضلا عن أنها شعار للإسلام ومظهر من مظاهر الدعوة إليه وتذكير الغافلين بربهم حيث يرون المصلين ذاهبين وعائدين من المسجد داخلين فيه وخارجين منه، ثم إن المساجد، كما جاء في الحديث، هي أفضل بقاع الله في الأرض، وفي القول بتجويز انعقاد جماعتها خارجها مطلقًا تعطيلٌ لها. قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36-37]، "أذن" في الآية بمعنى أمر وقضى، و"أن ترفع" أي تُبنى وتقام، كما قال ابن عباس، رضي الله عنهما، وغيرُه، و"يُذكر فيها اسمه"، "فيها" أي في داخلها يُذكر عزَّ وعلا بالصلاة والتسبيح ونحوه. 

ومع هذا، أجاز أكثر الفقهاء الاقتداء بإمام المسجد لمن هو خارج المسجد إذا كان مجاورا له عالما بانتقالات الإمام سمعًا أو بصرًا لما جاء من الآثار الصحيحة في ذلك كصلاة عائشة، رضي الله عنها، مع جماعة المسجد وهي في حجرتها الملاصقة للمسجد، وكصلاة المسلمين التراويح بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حجرته. 

فهل يُقاس من كان بعيدًا عن المسجد على المجاور له إذا أمكنه العلم بانتقالات الإمام وسماع صوته، كما يحصل هذه الأيام في الفنادق المحيطة بالحرم حيث توضع في غرفها موصلات للصوت موصولة بالحرم وقت الصلاة، وكما يمكن ذلك الآن باستعمال أجهزة البث المباشر في التلفزيون وغيره. 

ويغدو الجواب على هذا السؤال مُلحًّا الآن في ظل تعطيل الجماعات في المساجد بسبب فايروس كورونا، وفي ظل قدوم شهر رمضان وصلاة التراويح التي لا يقوى كثير من الناس على صلاتها منفردين أو مع جماعة أهله في البيت. 

والعلماء المعاصرون مختلفون في هذه المسألة بين مجيز ومانع، والذي أراه والله أعلم جواز ذلك إذا لم يُتّخذ هذا الأمر عادة فيؤدّي إلى تعطيل المساجد من عُمّارها. ووجه الجواز هو قياس البعيد عن المسجد على المجاور له بجامع علم كليهما بانتقالات الإمام، ولا فرق مؤثِّرا يمنع من هذا القياس، وكل ما قد يرد من قوادح على اقتداء البعيد بالإمام يرد نفسه على اقتداء المجاور للمسجد بالإمام، حيث إن الفرق الوحيد بينهما هو القرب والبعد، وإلا فكلاهما خارج المسجد في مكان ليس له حكم المسجد لا شرعا ولا عرفا. وفرق البعد والقرب هذا بينهما فرقٌ "طردي" غير معتبر ولا مؤثر؛ لأنه لا يخل بالاقتداء ولا بمعنى حصول الجماعة. حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلى قائما فصلوا قيامًا» [متفق عليه]، وفي الحديث إيماء إلى أن الإتمام والاقتداء إنما يحصل مع العلم بالانتقالات ومتابعتها. 

وقد قال ابن قدامة منتقدًا القول بمنع صلاة المأموم العالم بانتقالات الإمام إذا حال بينه وبين الإمام حائل من طريق ونحوه: 

"وإذا كان بينهما طريق أو نهر تجري فيه السفن، أو كانا في سفينتين مفترقتين: ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح أن يأتم به، وهو اختيار أصحابنا ومذهب أبي حنيفة؛ لأنّ الطريق ليست محلا للصلاة فأشبه ما يمنع الاتصال. والثاني: يصح وهو الصحيح عندي ومذهب مالك و الشافعي؛ لأنه لا نص في منع ذلك، ولا إجماع، ولا هو في معنى ذلك؛ لأنه لا يمنع الاقتداء، فإن المؤثر في ذلك ما يمنع الرؤية أو سماع الصوت، وليس هذا بواحد منها. وقولهم: إن بينهما ما ليس بمحل للصلاة فأشبه ما يمنع وإن سلّمنا ذلك في الطريق فلا يصح في النهر فإنه تصح الصلاة عليه في السفينة، وإذا كان جامدًا، ثم كونه ليس بمحل للصلاة، إنما يمنع الصلاة فيه أما المنع من الاقتداء بالإمام فتحكُّم محض لا يلزم المصير إليه ولا العمل به". [المغني 2/ 39]. 

ولا أراه سليمًا الاعتراض على الجواز بالقول إن الاقتداء هيئة عبادية توقيفية وردت فيُقتصر عليها، وذلك لأن هذه المسألة فيما نرى داخلة في معنى ما ورد النص بجوازه من جواز اقتداء المجاور للمسجد بجماعة المسجد إذا علم بانتقالات الإمام، فصارات كدخول الأرز في معنى الشعير والتمر الوارد الإخراج منه في صدقة الفطر. وأما استخدام بث الصوت أو الصورة فهو وسيلة حادثة لا أثر لها في الحكم، تماما كاستعمال مكبرات الصوت التي لم تكن قديما لا أثر لها في جواز اقتداء المجاور أو عدمه، والوسائل يُغتفر فيها ما لا يغتفر في المقاصد، على أن وسيلة البث الصوتي والمرئي أكثر إفضاء إلى مقصد الجماعة من مجرد الاعتماد على سماع المجاور صوت الانتقالات كما فعلت عائشة رضي الله عنها وغيرها في زمن النص. والله أعلم.

الأحد، 5 أبريل 2020

أسباب تغوّل أهل الألفاظ والظواهر على أهل التعليل والمقاصد


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:
فرغم الأهميَّة الكُبرى التي يحظى بها التّعليل في تسديد الاجتهاد وامتثال الحكم (كما أوضحنا ذلك بالتفصيل في بحثنا "فوائد تعليل الاحكام")، فإنّ المتابع للسِّجالات الفقهية والردود العلمية في مطبوعات الكتب وعلى صفحات الإنترنت ومنتديات الفقه والحديث والتفسير، في زمننا هذا، يتجلّى له تغوُّلٌ وتعالٍ لأصحاب مدرسة الألفاظ والظواهر، باختلاف درجاتهم، على أصحاب مدرسة المعاني والتعليل والمقاصد. ومَرَدُّ ذلك، في نظري، إلى أمور: 

منها: ضعف الملكة الفقهيّة في هذه الأعصار عمومًا، وارتفاع العلم وذهاب العلماء والفقهاء، وظهور الخطباء والمغرّدين والوعَّاظ والقُصَّاص بدلًا من العلماء، كما قال، صلى الله عليه وسلم: «إنّكم اليوم في زمان كثيرٌ علماؤه قليلٌ خطباؤه، من ترك عُشْر ما يَعرف فقد هوى، ويأتي من بعدُ زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليلٌ علماؤه، من استمسك بعشر ما يعرف فقد نجا»([1]). وحيث وُجِدت الضَّحالة العلمية، وقلَّ التبحُّر، كان التشبُّثُ باللفظ أكثرَ من المعنى، وبجزئيّات الأدلَّة دون كلّياتها؛ لأنَّ اللفظ قريبٌ وبَيِّن، والمعنى بعيد وعميق، واللفظيُّ أكثر أمنًا، وأقلُّ مخاطرة، والمعنويّ بخلافه. 

ومنها: فورة علم الحديث في هذه الأعصار، وطباعة كثير من كتبه، وتيسُّرُ إتقان صناعة نقد الأسانيد وتخريج الأحاديث نسبيًّا، بسبب ما وفَّرته الفهارس العلمية، ومنحته أجهزة الكمبيوتر، من قدرة على تتبُّع النصوص، والبحث فيها وعنها، بسهولة، ودون كلفة مادّية أو بدنية تُذكر. والمشتغلون بالحديث، وأصحاب المدرسة الحديثية، هم، في أكثرهم، وفي الغالب من أحوالهم، أقرب إلى مدرسة اللفظ منهم إلى مدرسة المعنى([2]). 

ومنها: ضعف مدارس التقليد المذهبي، وبروز اتّجاه التّرجيح واتِّباع الدّليل، وكثيرٌ من دعاة هذا الاتجاه وأنصاره ومُتَّبعيه، ولا أُعمِّم، أكثر قربًا إلى اللفظ منهم إلى المعنى بسبب ضعف الملكات العلمية الاستنباطية لدى قطاعٍ عريض منهم، وكثرة المشتغلين منهم بالحديث ونقد الأسانيد، وتأثُّرهم بأساطين مدرسة اتِّباع الدّليل من المتأخِّرين كالشّوكاني والألباني وتلامذته، وهم ممّن يغلب عليهم اتّباع ظواهر الألفاظ في الجُملة. 

ومنها: دخول كثير من المغرضين من عَلمانيين، ومِمَّن يُدعون مُفكِّرين، وأكاديميين سطحيين، وعلماء سلاطين، في باب «المقاصد». وهؤلاء يُحسب أكثرُهم ظُلمًا على أهل المعاني رغم كون أكثرهم خِلوًا من أدوات الاجتهاد تقريبًا، ويصيرون إلى أفكارٍ وفتاوى يزعمون أنَّها تستند إلى المقاصد ثمَّ يظهر ضعفهم في الدّفاع عنها عند السِّجال الفقهي والمناظرة، بسبب ضعفهم التحصيلي، وانحطاط مكانتهم في علوم الشرع، ممّا شَوَّه الاتجاه المقاصدي برمّته. 

_____________________________

([1]) عزاه الألباني للهروي في ذم الكلام (1/14 - 15)، ولأحمد في المسند (5/155)، وللبخاري في التاريخ (1/ 2/374)، من طرق عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا. وقال في أحد أسانيده: صحيح الإسناد رجاله كلهم ثقات غير الحجاج بن أبي زياد، وهو ثقة كما قال أحمد وابن معين، ثم الذهبي. ينظر: الصحيحة للألباني 6/40، حديث رقم (2510). 


([2]) ينظر: أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه، للمؤلِّف، مجلة الأحمدية، عدد 28، 1434هـ، 2013م.