أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الأحد، 21 مارس 2021

موازنات الفقهاء وتلفيقات المعاصرين



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فالفقيه الحق ينظر إلى المسائل الفقهية المنضوية تحت موضوع واحد نظرة متكاملة، أي أن حُكمَه في مسألة تعالج جانبًا من موضوعٍ ما يتأثّر بحكمه على مسألة أخرى تعالج جانبًا آخر في الموضوع نفسه. وعليه، فربَّما خفّف حكمه في مسألة ثم تدارك ما قد ينشأ عن هذا التخفيف من مفاسد محتملة بوضع اشتراطات وتشديدات في مسألة أخرى متعلّقة بالموضوع من جهة أخرى.

فمثلًا أبو حنيفة، رحمه الله، لَمّا لم يشترط عبارة الولي ولا موافقته لصحّة نكاح المرأة فإنّه شدَّد وبالغ في شروط الكفاءة التي يُسمح بموجبها للولي بفسخ عقد مولّيته إذا نكحت من غير موافقته. وبذلك أحدث نوعا من التوازن بين حق المرأة في اتخاذ قرار النكاح، وحق الولي في دفع الضرر عن نفسه وعن مولّيته فيما لو قررت الزواج بغير كفء.

وبعكس ما فعل أبو حنيفة فعل مالك، فتساهل في شروط الكفاءة وجعلها قاصرة على الدين فقط لكنه في المقابل اشترط عبارة الولي وموافقته. وتوسّط باقي الأئمة بين المذهبين.

مثال آخر: لَمّا لم يشترط مالك الشهود لصحة النكاح فإنه اشترط الإعلان بخلاف الجمهور الذين اشترطوا الشهود ولم يشترطوا الإعلان. وبهذا يحدث التوازن على المذهبين في إخراج النكاح عن السرية إلى دائرة العلنية.

مثال ثالث: لَمّا بالغ الحنابلة في إبطال العقود بالنوايا الفاسدة فإنهم في المقابل تساهلوا في اعتبار الشروط التي يُسمح للعاقدين أو أحدهما باشتراطها زيادة على مقتضى العقد وتوسعوا في قبولها إذا حققت مصلحة لهما أو لأحدهما وكذلك قال المالكية بلزوم الوعد في بعض الفروع.

أما الحنفية والشافعية فلمّا بالغوا في الاعتداد بالظاهر في العقود وعدم التعويل على النوايا والبواعث فإنهم في المقابل بالغوا في المنع من الشروط التي قد يشترطها أحد المتعاقدين وإبطالها حتى لا تُستغلّ هذه الشروط في التحيُّل على الشرع، والتوصُّل بها إلى الممنوعات.

وهكذا ديدن الفقهاء، على تفاوتٍ بينهم، الموازنةُ في معالجة الموضوعات المركّبة من مسائل شتّى حتى لا تميل كفّة على كفّة. وما يُخشى أن يفوت من مصالح، أو ينشأ من مفاسد، من الحكم في مسألة يُستدرك أو يُتلافى في الحكم في مسألة أخرى ذات علاقة بالمسألة الأولى.

ولكن مع فشوّ التلفيق في عصرنا الحاضر تُنوسيت موازنات الفقهاء، وأُخذ بالأسهل عند كل منهم وتُرِك الأشد فاختلت المعالجات الفقهية للموضوعات التشريعية في صورتها الكلية.

فكثير من قوانين الأسرة مثلا لا تشترط الولي، ومع ذلك تتساهل في اشتراط الكفاءة في الوقت نفسه. وفي هذا تضييع للتوازن بين مصالح المرأة ومصالح الولي.

وغالب المشتغلين من "فقهاء الثروة" في هيئات المصارف الإسلاربوية، يحكمون بظاهر العقود ولا يحكِّمون البواعث ولا يبطلون الذرائع على طريقة الشافعي وأبي حنيفة، ومع ذلك يتوسعون في تجويز الشروط والوعود الملزمة على طريقة أحمد في الشروط وعلى طريقة مالك في الوعود. وهذا نوع من العبث واللعب في المعالجات التشريعية للقضايا الفقهية، لأن من بالغ في منع الحيل والذرائع تساهل في الشروط، ومن بالغ في ترك الذرائع تشدد في الشروط. واقتفاء خطة تخالف المذهبين في شق المنع وتوافقه في شق الجواز إخلال بالتوازن الذي من شأنه منع الحيل والشروط الفاسدة.

ومن أجلى الأمثلة على ذلك عقد المرابحة للآمر بالشراء (الذي سمّاه القدماء بالمواصفة، أو اشتري لي كذا حتى أُربحك كذا) الذي هو ذريعة واضحة للتحيُّل على تحريم الربا بالتربّح من الإقراض باسم البيع الآجل من غير تحمّل تبعات البيع والتجارة، ولذلك جزم جماهير فقهاء السلف بتحريمه، كما حققناه في بحث مستقل. ولَمّا كان الشافعي لا يلتفت في الحكم بالصحة على العقد إلى الذرائع والتحايلات فقد صار إلى إبطال هذا العقد إذا اقترن بالشرط ونص على ذلك، فجاء بعض المعاصرين فأخذ من الشافعي شطر كلامه في عدم الالتفات إلى باطن هذا العقد من حيث هو ذريعة إلى الربا، وترك الشطر الآخر الذي هو في منع الشرط الملزم. واستبدل به ما أقره الإمام مالك من لزوم الوعد في بعض الفروع الفقهية، فلفَّق بين المذهبين في هذه المعاملة، مغفلا أن من نظر إلى الظاهر وأغفل الحيل كالشافعي أبطل الشروط، ومن قال بلزوم الوعد في بعض المسائل كمالك شدَّد في اعتبار البواطن ومنع الحيل.

وهذا التلفيق هو من النوع الممنوع شرعا، وهو الذي ينشأ منه في مسألة "حقيقة مركّبة" لا يقول بها أحد من المجتهدين كما ذكر السبكي والقرافي وغيرهم، ومثَّلوا له بمن يتزوَّج من غير ولي ولا شهود ولا صداق، فهذه الصورة المركبة في النكاح لم يقل بجوازها أحد.

والمنع من هذا النوع من التلفيق يشمل المقلِّد والمجتهد سواء، لأن الصورة المركبة التي يُذْهَب إليها ممتنعة بالإجماع، والممنوع بالإجماع ممنوع على جميع المكلفين: مقلِّدين ومجتهدين.

هناك تعليق واحد:

  1. مقالة مقاصدية رائعة وإن كانت لم تخلو من جزم بظنيات وعمومات قد لا يسلم بها القارئ

    ردحذف