أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

هل ستنجح دعوات التزام المذهبية الفقهية في العصر الراهن!

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فقد قال أبو محمد ابن حزم، رحمه الله، (الرسائل  2/ 229):

«مذهبان ‌انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان، مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سُرّاع إلى الدنيا والرياسة، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به. على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم، وكذلك جرى الأمر في أفريقية لما ولي القضاء بها سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما أُنشر».

قلت: أيمن: ولا يخفى أيضا أثر السلطان نظام الملك والأيوبيين والمماليك في نشر المذهب الشافعي. وكذلك دور الدولة البويهية في نشر المذهب الجعفري الشيعي. وأخيرا دور الدولة السعودية في نشر المذهب الحنبلي.

والحاصل هو أن دعم الأنظمة السياسية له دور كبير في ترسيخ المذهب الفقهي؛ لأنه بمثابة القانون السائد والمعمول به تدريسا وإفتاء وقضاء، ومن ثم تكون فرص الارتزاق للمشتغلين بالفقه عن طريق غيره من المذاهب ضيقة.

ولما اسُتوردت القوانين الغربية في مطلع القرن العشرين إلى معظم بلاد المسلمين وأقصي الفقه، أو وضع ملفقا بين المذاهب في مجالات محددة، انكسرت سورة المذهبية، وخفّت حدتها كثيرا وبرز بقوة اتجاه فقه الدليل المتحرر من التمذهب كليا أو جزئيا.

وهذ الأيام نشهد رجعة قوية إلى التمذهب في أوساط طلبة العلم تمدرسا وإفتاء، ودعوات كثيرة إلى ذلك هنا وهناك،  لكن معظم ذلك، في نظري، إنما هو ردة فعل على ما أثارته حركات فقه الدليل بسطحية بعض أطروحاتها، وفظاظة كثير من أتباعها في النقد في الغالب الأعم. 

وأتوقع أن يزداد التوجه المذهبي قوة وعصبية في الفترة القادمة ولا سيما مع بدء تبني بعض الأنظمة السياسية  الحالية له، كبحا لما نتج وما قد ينتج عن التخلي عنه من انتشار توجهات وفتاوى دينية سياسية خطرة ومقلقة لهذه الأنظمة، تنشأ عن حرية الرأي التي يتيحها  فك إسار التمذهب.

لكن من دون أن تتبنى هذه الأنظمة التمذهب في التوظيف في سلك التعليم والإفتاء والقضاء، وهو ما بدأت به بعضها فعلا، لا يُتوقع أن تنجح محاولة إعادة نفخ الروح في التمذهب، فالعامل الاقتصادي  - الذي تتحكم به الدولة - في نهاية المطاف هو المحدد الأكبر للتوجه الفقهي والمذهبي الذي تكتب له السيادة والغلبة في أي بلد. ولو تخلي عن هذا العامل فالطبيعي هو أن تتنوع التوجهات وتتعدد المسالك الفقهية في البلد الواحد، لأنه في مجاري العادات يعسر جمع الخلق أو معظمهم على رأي واحد من غير رغبة أو رهبة.

والله أعلم.

الجمعة، 5 أغسطس 2022

خطأ تعليل جريان الربا في الذهب والفضة بكونهما من الموزونات

مما بان خطأه بمرور الزمان اجتهادات بعض الفقهاء القدماء بتعليل جريان الربا في الذهب والفضة بأنهما من الموزونات لا بأنهما أثمان، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، لأن قياس هذا القول ومقتضاه أن الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس هذه الأيام لا يجري فيها الربا لأنها ليست من الموزون أو المكيل، وعليه يجوز مبادلة النقد الورقي بأكثر منه إلى أجل كما تفعله البنوك في زماننا.

وهذا مما يكاد يكون هناك إجماع بين المعتبرين في الفتوى الآن على أنه حرام، وأن الخلاف في جوازه شاذ غير معتبر، ولو أباح العلماء تبادل النقد الورقي بأكثر منه إلى أجل ورخصوا فيه بناء على قياس قول الحنفية والحنابلة لانتهى حكم الربا من أساسه لأن مبادلة الذهب بالذهب والفضة بالفضة وسائر المنصوص عليه يكاد لا يقع هذه الأيام إلا نادرا، وغالب المبادلات بل 99% منها إنما هو بالنقود المعاصرة.

ومن ثم وجب على حنفية هذا الزمان وحنابلته أن يتراجعوا ويتوقفوا عن تعليل جريان الربا في الذهب والفضة بأنهما من الموزونات، وان يعترفوا بخطأ قدماء المذهب في تقرير هذه العلة ولاسيما أنهم اعتمدوا في إبطال علة خصومهم من المالكية والشافعية التي هي "الثمنية" بكونها علة قاصرة على الأصل لا تجري في فروع أخرى غير الذهب والفضة، وقد بان مع الوقت أنها ليست قاصرة بل جدت أثمان غير الذهب والفضة، بل حلت محلها.

ولا يقال هنا إن اختلافهم في العلة المذكورة إنما هو في ربا البيوع، أما ربا الديون فوجود الزيادة في جنس المال فيه مع الأجل تكفي في تحريمه. وهذا متحقق في ربا المصارف والربا في الأوراق النقدية عموما، ولذلك لا ضرر من عدم القول بعلة الثمنية في تحريم ربا البيوع.

وذلك لأنه لا معنى لتحريم إقراض المال بجنسه متفاضلا مع إباحة ذلك بالبيع، كأن تقول: يحرم أقرضتك كيلو ذهب بكيلين إلى أجل، ويجوز بعتك كيلو ذهب بكيلين إلى أجل، أو أن تقول يحرم أقرضتك ألف دولار بألفين إلى أجل ويجوز أبيعك ألف دولار بألفين إلى أجل، لأن النتيجة واحدة والحقيقة واحدة وهي مبادلة ربوي بجنسه متفاضلا إلى أجل، ولذلك حرم ربا البيوع لأنه ذريعة لربا الديون بل هو عينه إذا كان نسيئة. نعم أجاز جماهير الفقهاء بعيرا ببعيرين إلى أجل، وإنما ذلك لأن الأبعرة تتفاوت في قيمتها تفاوتا كبيرا بخلاف الأثمان، فمن المعقول أن يحرم إقراض بعير ببعيرين إلى أجل ويجوز بيع بعير ببعيرين إلى أجل. والحاصل أن مبادلة الأوراق النقدية بمثلها قرضا وبيعا (وهما سواء فيما لا تتفاوت أفراده تفاوتا كبيرا) ينبغي أن يلحق بمبادلة الذهب بالذهب لا بمبادلة بعير ببعير، وهذا الإلحاق إنما هو بعلة الثمنية، ومن لا يقول بهذه العلة - كالحنفية والحنابلة - لا يمكنه الإلحاق. وهو خطأ لا ينبغي التردد في الموقف منه.

والله أعلم.