مما بان خطأه بمرور الزمان اجتهادات بعض الفقهاء القدماء بتعليل جريان الربا في الذهب والفضة بأنهما من الموزونات لا بأنهما أثمان، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، لأن قياس هذا القول ومقتضاه أن الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس هذه الأيام لا يجري فيها الربا لأنها ليست من الموزون أو المكيل، وعليه يجوز مبادلة النقد الورقي بأكثر منه إلى أجل كما تفعله البنوك في زماننا.
وهذا مما يكاد يكون هناك إجماع بين المعتبرين في الفتوى الآن على أنه حرام، وأن الخلاف في جوازه شاذ غير معتبر، ولو أباح العلماء تبادل النقد الورقي بأكثر منه إلى أجل ورخصوا فيه بناء على قياس قول الحنفية والحنابلة لانتهى حكم الربا من أساسه لأن مبادلة الذهب بالذهب والفضة بالفضة وسائر المنصوص عليه يكاد لا يقع هذه الأيام إلا نادرا، وغالب المبادلات بل 99% منها إنما هو بالنقود المعاصرة.
ومن ثم وجب على حنفية هذا الزمان وحنابلته أن يتراجعوا ويتوقفوا عن تعليل جريان الربا في الذهب والفضة بأنهما من الموزونات، وان يعترفوا بخطأ قدماء المذهب في تقرير هذه العلة ولاسيما أنهم اعتمدوا في إبطال علة خصومهم من المالكية والشافعية التي هي "الثمنية" بكونها علة قاصرة على الأصل لا تجري في فروع أخرى غير الذهب والفضة، وقد بان مع الوقت أنها ليست قاصرة بل جدت أثمان غير الذهب والفضة، بل حلت محلها.
ولا يقال هنا إن اختلافهم في العلة المذكورة إنما هو في ربا البيوع، أما ربا الديون فوجود الزيادة في جنس المال فيه مع الأجل تكفي في تحريمه. وهذا متحقق في ربا المصارف والربا في الأوراق النقدية عموما، ولذلك لا ضرر من عدم القول بعلة الثمنية في تحريم ربا البيوع.
وذلك لأنه لا معنى لتحريم إقراض المال بجنسه متفاضلا مع إباحة ذلك بالبيع، كأن تقول: يحرم أقرضتك كيلو ذهب بكيلين إلى أجل، ويجوز بعتك كيلو ذهب بكيلين إلى أجل، أو أن تقول يحرم أقرضتك ألف دولار بألفين إلى أجل ويجوز أبيعك ألف دولار بألفين إلى أجل، لأن النتيجة واحدة والحقيقة واحدة وهي مبادلة ربوي بجنسه متفاضلا إلى أجل، ولذلك حرم ربا البيوع لأنه ذريعة لربا الديون بل هو عينه إذا كان نسيئة. نعم أجاز جماهير الفقهاء بعيرا ببعيرين إلى أجل، وإنما ذلك لأن الأبعرة تتفاوت في قيمتها تفاوتا كبيرا بخلاف الأثمان، فمن المعقول أن يحرم إقراض بعير ببعيرين إلى أجل ويجوز بيع بعير ببعيرين إلى أجل. والحاصل أن مبادلة الأوراق النقدية بمثلها قرضا وبيعا (وهما سواء فيما لا تتفاوت أفراده تفاوتا كبيرا) ينبغي أن يلحق بمبادلة الذهب بالذهب لا بمبادلة بعير ببعير، وهذا الإلحاق إنما هو بعلة الثمنية، ومن لا يقول بهذه العلة - كالحنفية والحنابلة - لا يمكنه الإلحاق. وهو خطأ لا ينبغي التردد في الموقف منه.
والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق