أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الاثنين، 15 يوليو 2024

الإمام الشافعي وموقعه بين: أهل الألفاظ وأهل المعاني، وأهل الرأي وأهل الحديث


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:

الشافعي، رحمه الله، يمثِّل نمطا مُتَميِّزا من أصحاب الحديث، تجعلنا نميل إلى عزله عنهم وجعله مدرسةً فريدة بذاتها ألَّفَت بين جوانبَ من ثلاث مدارس مختلفة: فقه "أهل الرأي" من الحنفية، وفقه "الطراز الأول من طبقات المحدِّثين"، وفقه أهل الحجاز لا سيَّما شيخه مالك.

ففي مسلكه العلمي مرَّ الشافعي، رحمه الله، بأطوار ثلاثة:

أولها: مقلِّدا لمالك متأثّرا بمذهب أهل المدينة خصوصا، والحجاز عُموما، مدافعا عنه. وهذا عندما كان في الحجاز واليمن وأوائل قدومه إلى العراق.

والثاني: ناطقاً باسم "أهل الحديث"، بالمعنى الضَّيِّق، في مواجهة أهل الرأي من الحنفية. وهذا عندما دوَّن كتبه القديمة في العراق لا سيما الرسالة، وتوسَّع في قَبول ما أثبته أهل الحديث من روايات العراقيين، وأعلن رفضه المرسل إلا بشروط.

والثالث: متميِّزا عن الجميع في الأصول والفروع. وهذا في أواخر عهده لا سيّما عندما استقرَّ في مصر، وَدَوَّن مذهبه الجديد.

وما استقرَّ عليه المذهب الشافعي في الأصول والفروع يمتاز بثلاث خصائصَ رئيسة جعلته مختلفاً عن كلّ الاتجاهات الفقهية السائدة في زمنه: "أهل الرأي"، و"أهل الحديث" بالمعنى الضَّيِّق، و"أهل المدينة".

الأولى: تعظيمُه أخبار الآحاد، والمبالغة في الاعتماد عليها، دون الحاجة إلى عرضها على ظواهر القرآن أو عمل السلف. وهذا وافق فيه "أهل الحديث"، وخالف "أهل الرأي" و"أهل المدينة".

والثانية: قَصْرُه الاجتهاد على قياس غير المنصوص على المنصوص، وإبطالُه جميع ضروب الاجتهاد الأخرى، كالاستحسان([1]) والذَّرائع. وهذا خالف فيه "أهل الرأي" و"أهل المدينة" بطريق مباشرة، وخالف فيه "أهل الحديث" بطريق غير مباشرة، لأنهم كانوا يعتمدون على كثير من فتاوى السَّلف وأقضيتهم التي تقوم على الاستحسان والذرائع.

والثالثة: قِلَّةُ اعتماده واعتباره لآثار الصحّابة والتابعين. وهذا خالف فيه جميع الاتجاهات الأخرى، وبدرجة أساس فقه المحدثين.

والذي يظهر لي في فقه الإمام الشافعي، رحمه الله، هو أنَّه نزَّاعٌ إلى الظَّاهر، مُقتَصِدٌ مُتردِّد في التعليل، جمع بين النَّزعة الظاهرية عند المحدِّثين، والنَّزعة الظاهرية عند أهل الرأي. ولذلك كان هذا الفقه مُقدِّمةً ومَحَطَّةً مهَّدتْ لبروز فقه داود بن علي، رحمه الله، زعيمِ أهل الظاهر، الذي كان شافعيا مُتَعصِّبا ثم تطوَّر ظاهريا متطرِّفا بعد قراءته كتاب الشافعي في إبطال الاستحسان.

______________________________

([1]) من السَّذاجة العلمية بمكان ما زعمه بعض الناس أنَّ الخلاف بين الشافعي من جهة وأبي حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه من جهة أخرى في حُجِّيَّة الاستحسان هو اختلافٌ لفظي، ناجمٌ عن عدم دقَّة المصطلح وقتئذٍ وعدم إدراك الشافعي لذلك. وللشرح والتفصيل موضِعٌ غير هذا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق