أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الأحد، 18 أغسطس 2024

«إنه لشيء استحسنه وما علمت أحدا قاله قبلي»

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد: 

فقد قال الإمام مالك رحمه الله في أربع مسائل: 

«إنه لشيء استحسنه وما علمت أحدا قاله قبلي». وهي:

1. قوله بجريان الشفعة في الشجر.

2. قوله بجريان الشفعة في الثمار.

3. قوله بثبوت القصاص بالشاهد واليمين.

4. قوله في دية أنملة الإبهام نصف عقل الأصبع، وفي باقي الأنامل ثلث عقل الأصبع، وعقل الأصبع كاملا عشر من الإبل.

وقوله في هذه المسائل:  «إنه لشيء استحسنه وما علمت أحدا قاله قبلي» استشكله بعض العلماء. قال الزرقاني: في شرحه على خليل (6/ 318):

«كون الإمام استحسن أربعا استشكله صاحب المسائل الملقوطة بقول المتيطي "الاستحسان في العلم أغلب من القياس". وقال مالك: إنه "تسعة أعشار العلم" وقال ابن خويز منداد في جامعه: عليه عوَّل مالك وبنى عليه أبوابا ومسائل من مذهبه. وإذا كان كذلك فكيف يصح قصر ذلك على أربع مسائل؟! أجاب بأن المراد بذلك أنه صرح بلفظ الاستحسان في هذه المواضع خاصة اهـ.

قلت [الزرقاني]: ولا يخفى ضعفه، وإنما الجواب: أنه وإن استحسن في غيرها لكن وافقه غيره فيه أو كان له سلف فيه بخلاف هذه الأربعة فإنه استحسنها من عنده ولم يسبقه غيره بذلك لقوله وما علمت أحدا قاله قبلي. وهذا ظاهر فتأمله، قاله الشيخ أحمد بابا».أهـ كلام الزرقاني.

قلت - أيمن - وجواب الزرقاني وأحمد بابا مشكل من جهة أخرى، وهو أن ظاهر الجواب يدل على أن مالكا يستجيز مخالفة الإجماع قبله، لقوله ما علمت أحدا قاله قبلي. 

ويمكن الجواب عليه بأنه لم يخالف الإجماع وإنما لم يجد في المسألة مقالة لقائل من قبل، أي أنه هو من افتجر الحديث فيها والسابقون كانوا ساكتين عنها فلم يُعلم لهم فيها على وجه الخصوص رأي موافق أو مخالف. وفي هذا دليل على أن الإمام مالكا يستجيز إحداث قول في مسألة لم يوقف على قول خاص للمتقدمين فيها، وإن اندرجت في أقوالهم في مسائل أخرى أعم منها، فتكون كأنها من النوازل، مع أنها ليست كذلك على وجه التحقيق.

ومثل هذا الإحداث للآراء في مسائل داخلة في عموم كلام المتقدمين، شيءٌ عابه ابن حزم، رحمه الله، على أبي حنيفة ومالك والشافعي، رضوان الله عليهم، مدّعيا خرقهم الإجماع قبلهم في مئات المسائل. وغالب ما زعمه من خرق الإجماع إنما هو من هذا القبيل والله أعلم، أو حيث لم يتحقق في المسألة إجماع معتبر على ما يرونه يصح في الإجماع، وهم وإن لم يكونوا معصومين من الخطأ في دعاوى الإجماع فقربهم من زمن النص ومعاصرتهم للعلماء المتقدمين يجعلهم أكثر صوابا في معرفة الإجماع والخلاف من ابن حزم الذي غاية اعتماده على كتب الآثار كمصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة ونحوها. وكتب الآثار لم تنقل كثيرا من آراء العلماء في طبقة التابعين وأتباعهم وعلماء الامصار. والله أعلم.

الأحد، 4 أغسطس 2024

الفرق بين تأويل النص بالعلة بما يؤدي إلى رفع العمل بحكمه، وتأويله بالعلة بما يؤدي إلى تخصيص عمومه.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه وبعد:

فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو"  وقد قال بظاهر هذا الحديث جماعة من أهل العلم فمنعوا من السفر بالقرآن إلى أرض العدو على وجه العموم.

وقال محمد بن الحسن رحمه الله: إنما هذا في سفر السرية التي لا شوكة لها وأما العسكر العظيم الذي يؤمن معه أن تصل أيدي المشركين إلى المصاحف فلا بأس. 

وهذا هو تخصيص عموم النهي بالعلة المفهومة منه، لأنه استثنى العسكر العظيم من العموم وقصر النهي على الأفراد والسرايا التي لا شوكة لها.

وأما الطحاوي رحمه الله فقد قال: "إن هذا النهي كان في ذلك الوقت لأن المصاحف لم تكثر في أيدي المسلمين. وكان لا يؤمن إذا وقعت المصاحف في أيدي العدو أن يفوت شيء من القرآن من أيدي المسلمين، ويؤمن من مثله في زماننا لكثرة المصاحف وكثرة القراء".

ومسلك الطحاوي هذا هو ما يطلق عليه بعضهم: النسخ بالتعليل، أو انتهاء الحكم لانتهاء علته، أو رفع الحكم لارتفاع علته، أو تغير الحكم بتغير الزمان. وحاصله تخصيص عموم النص الزماني/التطبيقي بعلة قائمة وقت النص فقط، غير ممتدة في الأزمان. وهو مسلك خطير لأن فتحه يؤدي للتجرؤ على رفع الأحكام بالتعليل، ولذلك كثيرا ما يستخدمه العلمانيون والحداثيون وكل قاصد لتعطيل الشريعة. ومع هذا ورغم خطورة هذا النوع من النظر الاجتهادي ووعورته، فهو منهج مسلوك وتطبيقاته كثيرة في فقه السلف والأئمة وليس بصواب المنع منه مطلقا، وإنما - بالنظر إلى أمثلته في فقه السلف - يجوز عندنا بشروط:

1. أن يكون صادرا عمن له أهلية الاجتهاد.

2. أن تكون علة الحكم منصوصة أو مستنبطة قوية الظهور.

3. أن تكون علة الحكم منفردة لا تشاركها أو تعارضها علة أخرى مناسبة توافق الظاهر القاضي بالعموم اللفظي أو التطبيقي.

4. أن يقطع، أو يغلب على الظن، أن العلة انتهت بمرور الزمان.

وإذا طبقنا هذه الشروط على اجتهاد الطحاوي رحمه الله المذكور آنفا لوجدناه يخرم الشرط الثالث، لأن النص يحتمل تعليله بأن المخافة من أن تنال أيدي المشركين المصحف لا لقلة المصاحف وقت النص فحسب بل لأنهم يدنسونها مغايظة للمسلمين، وعلى هذا منع الفقهاء الذمي من شراء المصحف وقالوا يجبر على بيعه. وهذه العلة جارية مع ظاهر النص ولا تقتضي رفعه وانتهاءه، وهي مناسبة جدا كتلك التي زعمها الطحاوي، فتقدم عليها لترجحها بموافقتها للظاهر أو تشاركها في تعليل الحكم فيكون معللا بأكثر من علة.

ومع هذا، فبالنظر إلى زماننا وقد انتشرت المصاحف في أصقاع الأرض وأمكن الوصول إليها من الكفار وشراؤها بيسر وسهولة مباشرة أو عن بُعد، فيمكن القول بأنه إذا لم يغلب على ظن المسلم الذي يسافر بالمصحف أنه يمكن أن تصل أيدي المشركين إليه لتدنيسه فإنه يجوز له حمله إلى بلاد الكفار وإلا فلا. وهذا النمط من النظر الفقهي هو من التعليل بعين الحكمة لا بمظنتها التي علل بها محمد بن الحسن رحمه الله (كون السفر في عسكر عظيم له شوكة). وهذا النمط لعله الأليق بحال زماننا، وهو اجتهاد وسط بين اجتهادي محمد والطحاوي، عليهما رحمة الله، يجعل الحكم دائرا مع حكمته وجودا وعدما، وإن اقتضى ذلك تخصيص العموم.

والله أعلم وأحكم.

أيمن صالح

https://t.me/alfikh/4033