الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:
فقد قال الإمام مالك رحمه الله في أربع مسائل:
«إنه لشيء استحسنه وما علمت أحدا قاله قبلي». وهي:
1. قوله بجريان الشفعة في الشجر.
2. قوله بجريان الشفعة في الثمار.
3. قوله بثبوت القصاص بالشاهد واليمين.
4. قوله في دية أنملة الإبهام نصف عقل الأصبع، وفي باقي الأنامل ثلث عقل الأصبع، وعقل الأصبع كاملا عشر من الإبل.
وقوله في هذه المسائل: «إنه لشيء استحسنه وما علمت أحدا قاله قبلي» استشكله بعض العلماء. قال الزرقاني: في شرحه على خليل (6/ 318):
«كون الإمام استحسن أربعا استشكله صاحب المسائل الملقوطة بقول المتيطي "الاستحسان في العلم أغلب من القياس". وقال مالك: إنه "تسعة أعشار العلم" وقال ابن خويز منداد في جامعه: عليه عوَّل مالك وبنى عليه أبوابا ومسائل من مذهبه. وإذا كان كذلك فكيف يصح قصر ذلك على أربع مسائل؟! أجاب بأن المراد بذلك أنه صرح بلفظ الاستحسان في هذه المواضع خاصة اهـ.
قلت [الزرقاني]: ولا يخفى ضعفه، وإنما الجواب: أنه وإن استحسن في غيرها لكن وافقه غيره فيه أو كان له سلف فيه بخلاف هذه الأربعة فإنه استحسنها من عنده ولم يسبقه غيره بذلك لقوله وما علمت أحدا قاله قبلي. وهذا ظاهر فتأمله، قاله الشيخ أحمد بابا».أهـ كلام الزرقاني.
قلت - أيمن - وجواب الزرقاني وأحمد بابا مشكل من جهة أخرى، وهو أن ظاهر الجواب يدل على أن مالكا يستجيز مخالفة الإجماع قبله، لقوله ما علمت أحدا قاله قبلي.
ويمكن الجواب عليه بأنه لم يخالف الإجماع وإنما لم يجد في المسألة مقالة لقائل من قبل، أي أنه هو من افتجر الحديث فيها والسابقون كانوا ساكتين عنها فلم يُعلم لهم فيها على وجه الخصوص رأي موافق أو مخالف. وفي هذا دليل على أن الإمام مالكا يستجيز إحداث قول في مسألة لم يوقف على قول خاص للمتقدمين فيها، وإن اندرجت في أقوالهم في مسائل أخرى أعم منها، فتكون كأنها من النوازل، مع أنها ليست كذلك على وجه التحقيق.
ومثل هذا الإحداث للآراء في مسائل داخلة في عموم كلام المتقدمين، شيءٌ عابه ابن حزم، رحمه الله، على أبي حنيفة ومالك والشافعي، رضوان الله عليهم، مدّعيا خرقهم الإجماع قبلهم في مئات المسائل. وغالب ما زعمه من خرق الإجماع إنما هو من هذا القبيل والله أعلم، أو حيث لم يتحقق في المسألة إجماع معتبر على ما يرونه يصح في الإجماع، وهم وإن لم يكونوا معصومين من الخطأ في دعاوى الإجماع فقربهم من زمن النص ومعاصرتهم للعلماء المتقدمين يجعلهم أكثر صوابا في معرفة الإجماع والخلاف من ابن حزم الذي غاية اعتماده على كتب الآثار كمصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة ونحوها. وكتب الآثار لم تنقل كثيرا من آراء العلماء في طبقة التابعين وأتباعهم وعلماء الامصار. والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق