الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:
ظاهرة "رواية الحديث بالمعنى" اشتط فيها طرفان:
أحدهما: المستشرقون وأتباعهم من الحداثيين الذين اتخذوا هذه الظاهرة الملازمة للنقل الشفاهي مدخلا للطعن في الاحتجاج بالسنة النبوية والتشكيك بها.
والآخر: قوم - من المعاصرين - أرادوا الرد على هؤلاء فزعموا أن الرواية بالمعنى في الحديث جاءت في أضيق نطاق، وجعلوا الأصل هو أن الحديث منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم بنفس حروفه وألفاظه.
والذي أراه - وأزعم أنه مذهب جماهير الفقهاء - هو أن الحق وسط بين هذين الطرفين، وهو أن الحديث منقول في أكثره بالمعنى لا باللفظ.
ويدل على ذلك أمور:
أحدها: ما تفيده الروايات عن السلف وجمهور الرواة في تجويز الرواية بالمعنى من كثرة ذلك وشيوعه عن كثير منهم. قال ابن كثير: "جوَّزذلك [أي الرواية بالمعنى] جمهور الناس سلفاً وخلفاً، وعليه العمل، كما هو المشاهد في الأحاديث الصحاح وغيرها، فإن الواقعة تكون واحدة، وتجيء بألفاظ متعددة، من وجوه مختلفة متباينة". [الباعث الحثيث، ص141]
ومن النقول الكثيرة عن أئمة الرواية ونقلة الحديث في تجويز الرواية بالمعنى وكثرتها وشيوعها [ينظر: كتب علوم الحديث ككفاية الخطيب والمحدث الفاصل للرامهرمزي وجامع بيان العلم لابن عبد البر] ما يأتي:
عن واثلة بن الأسقع، رضي الله عنه، قلنا له، يا أبا الأسقع، حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه وهم، ولا تزيد، ولا نسيان قال: "هل قرأ أحدكم الليلة من القرآن شيئا، فقلنا: نعم، وما نحن له بالحافظين جدا، إنا لنزيد الواو والألف وننقص قال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألون حفظه، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن لا يكون سمعناها منه إلا مرة واحدة، حسبكم إذا ما حدثناكم بالحديث على المعنى.
وعن أبي سعيد الخدري قال: «كنا نجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم عسى أن نكون عشرة نفر نسمع الحديث، فما منا اثنان يؤديانه على حرف، غير أن المعنى واحد».
وعن الشعبي قال: قلت لابن العباس: إنك تحدثنا بالحديث اليوم، فإذا كان من الغد قلبته قال: فقال وهو غضبان: «أما ترضون أن نحفظ لكم معاني الحديث، حتى تسألونا عن سياقتها».
وعن أبي حمزة قال: قلت لإبراهيم النخعي: " إنا نسمع منك الحديث، فلا نستطيع أن نجيء به كما سمعناه، قال: أرأيتك إذا سمعت تعلم أنه حلال من حرام؟ قال: نعم، قال: فهكذا كل ما نحدث".
وعن محمد بن سيرين، قال: كنت أسمع الحديث من عشرة المعنى واحد واللفظ مختلف.
وقيل للحسن: يا أبا سعيد، إنك تحدثنا بالحديث اليوم وتحدث من الغد بكلام آخر؟ فقال: لا بأس بالحديث إذا أصبت المعنى. وقال غيلان للحسن: يا أبا سعيد الرجل، يحدث بالحديث فلا يحدثه كما سمعه يزيد فيه وينقص، فقال الحسن: إنما الكذب على من تعمده. وقيل للحسن: إنك تحدثنا بالحديث أنت أجود له سياقاً منا، قال إذا كان المعنى واحداً فلا بأس. وقال عمرو بن عبيد : «ما سمعت من الحسن حديثا مرتين قط إلا بلفظتين مختلفتين والمعنى واحد».
وعن عمرو بن مرة، قال: إنا لا نستطيع أن نحدثكم الحديث كما سمعناه، ولكن عموده.
وعن جعفر بن محمد، قال: إن رجلين يأتيان من أهل الكوفة فيشددان علي في الحديث، فما أجيء به كما سمعته، إلا أني أجيء بالمعنى.
وعن عبد الرزاق قال: قلت لسفيان الثوري: حدثنا بحديث أبي الزعراء كما سمعت، قال: يا سبحان الله، ومن يطيق ذلك، إنما نجيئكم بالمعنى.
وعن الفريابي، يقول: سمعت سفيان، يقول: لو أردنا أن نحدثكم بالحديث كما سمعناه - وقال ابن برهان: كما سمعنا - ما حدثناكم بحديث واحد.
وعن زيد بن الحباب، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول: إن قلت لكم: إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني.
وعن عبد الرزاق، يقول: قال صاحب لنا لسفيان الثوري: حدثنا كما سمعت، فقال: لا والله ما إليه سبيل، وما هو إلا المعنى.
وعن محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي، قال: سمعت ابن بكير، يقول: ربما سمعت مالكا، يحدثنا بالحديث، فيكون لفظه مختلفا بالغداة والعشي. [هذا مع أن مالكا لا يجيز الرواية بالمعنى، لكن الضبط التام دومًا ليس في القدرة].
وعن علي بن خشرم، يقول: كان ابن عيينة يحدثنا، فإذا سئل عنه بعد ذلك حدثنا بغير لفظ الأول والمعنى واحد.
وعن يحيى بن سعيد، يقول: أخاف أن يضيق على الناس تتبع الألفاظ، لان القرآن أعظم حرمة ووسع أن يقرأ على وجوه إذا كان المعنى واحدا.
وعن أزهر بن جميل، يقول: كنا عند يحيى بن سعيد ومعنا رجل يتشكك، فقال له يحيى: يا هذا، إلى كم هذا؟ ليس في يد الناس أشرف ولا أجل من كتاب الله تعالى، وقد رخص فيه على سبعة أحرف.
وعن محمد بن مصعب القرقساني يقول: إيش تشددون على أنفسكم، إذا أصبتم المعنى فحسبكم.
وعن عبد الله بن سعيد ثنا بن علية عن بن عون قال: كان الشعبي والنخعي والحسن يحدثون بالحديث مرة هكذا ومرة هكذا فذكرت ذلك لمحمد بن سيرين فقال أما انهم لو حدثوا به كما سمعوه كان خيرا لهم.
وقال وكيع: إن لم يكن المعنى واسعا، فقد هلك الناس.
فهذه الروايات لا تدل على تجويز هؤلاء الأئمة للرواية بالمعنى فحسب بل يدل أكثرها على شيوعها وانتشارها وأنه لا سبيل إلى الرواية باللفظ غالبا.
الدليل الثاني: أن العادة المعلومة من أحوال البشر تحيل في النقل الشفاهي غير المكتوب أن يضبط بألفاظه نفسها في الغالب ولاسيما ما يتناقل عبر الأجيال كما في الحديث. ولذلك وقع في كلام الأئمة كسفيان والحسن وغيرهم مع شهرتهم بالحفظ والضبط أنهم لا يطيقون رواية الحديث باللفظ، بل غالب ما يرونه بالمعنى.
الدليل الثالث، وهو أقوى الأدلة: أن غالب الأحاديث الصحاح التي نقلت إلينا - سواء اتحد مخرجها (أي الصحابي) أو تعدد - إنما رويت بألفاظ مختلفة. وقلَّ أن تجد حديثا تعددت رواياته واتحدت ألفاظه. وحسبك في هذا النظر في الأحاديث التي كررها البخاري في صحيحه من طرق مختلفة، وكذلك ما يرويه الإمام مسلم في صحيحه في الباب الواحد من طرق مختلفة، فغالبه إن لم يكن جميعه مختلف في اللفظ قلة وكثرة. وحتى الأحاديث التي قيل بتواترها لا تكاد تسلم من تغيير في الألفاظ وأكثر ما جاء من المتواتر إنما تواتر بالمعنى لا باللفظ كما قاله غير واحد من المحدثين. وحتى حديث" نضر الله امرأ سمع مقالتي فيلغها كما سمعها"، الذي استدل به بعضهم على عدم جواز النقل بالمعنى، ورد بألفاظ مختلفة كـ "رحم الله امرأ" و"رب مبلغ أوعى من سامع"، و"رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، و"رب حامل فقه ليس بفقيه"، وغير ذلك.
قال ابن حجر بعد ما ذكر قصة الثلاثة الذين دخلوا الكهف فأطبقت عليهم الصخرة، وماا فيها من اختلاف الألفاظ والتقديم والتأخير: "وفي اختلافهم دلالة على أن الرواية بالمعنى عندهم سائغة شائعة وأن لا أثر للتقديم والتأخير في مثل ذلك". [فتح الباري لابن حجر 6/ 511)]
وقال السيوطي: "غالب الأحاديث مرويٌّ بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها، فرووها بما أدت إليه عبارتهم فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا، وأبدلوا ألفاظا بألفاظ، ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويًّا على أوجه شتى بعبارت مختلفة".[الاقتراح في أصول النحو، ص74ٍْ].
وقال أبو حيان: "من نظر في الحديث أدنى نظر علم علم اليقين أنهم إنما يروون بالمعنى" [المرجع السابق]
وقال الشيخ محمد رشيد رضا: "لا شك في أن أكثر الأحاديث قد روي بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه العلماء، ويدل عليه اختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها". [تفسير المنار 9/ 422].
وقال الشيخ أحمد شاكر: "والمتتبِّع للأحاديث يجد أن الصحابة – أو أكثرهم - كانوا يروون بالمعنى، ويعبرون عنه في كثير من الأحاديث بعباراتهم، وأن كثيراً منهم حرص على اللفظ النبوي، خصوصاً فيما يتعبد بلفظه، كالتشهد، والصلاة، وجوامع الكلم الرائعة، وتصرفوا في وصف الأفعال والأحوال وما إلى ذلك". [شرح الباعث الحثيث، ص404]
وقال أستاذ الحديث وعلومه د. إبراهيم اللاحم: "الناظر في الأحاديث الصحيحة وفي اختلاف طرقها وفي ألفاظها لا يتخالجه شك أن الرواية بالمعنى كانت هي السائدة". [شرح الباعث الحثيث، دروس مفرغة في المكتبة الشاملة].
الدليل الرابع: أن أئمة الحديث بينوا أن من الخطأ الاتكاء في الفهم على رواية واحدة للحديث بل لا بد من جمع الطرق جميعها حتى يفهم الحديث على وجهه. ولو كان الحديث منقولا بلفظه لما احتيج إلى هذا الأمر. قال ابن معين: "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه"، وقال الإمام أحمد: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا''. وقال ابن المديني: "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه".
وممّا يترتب على هذه الظاهرة (نقل الحديث بالمعنى) وشيوعها أمور:
1. أنه لا يجوز الاستنباط من الحديث والتعويل عليه قبل جمع رواياته جميعا، والنظر فيها ليتبين المعنى المتفق عليه بينها فيكون هو المعول عليه. وأما ما كان تغييرا وزيادة ونقصا فلا يجوز الاحتجاج به حتى يوزن بموازين النقد الحديثية في الجمع أو الترجيح أو التوقف، بشرط عدم التكلُّف في الجمع الذي يكثر منه متأخرو الشراح كالنووي وابن حجر.
2. أن ألفاظ الحديث لا تفيد اليقين إلا إذا تواتر اللفظ، وأن الحديث الغريب (ذو الطريق الواحد) ينبغي أن يتشدد في الاستدلال به، ولا يحتج به حتى يعرض على الأحاديث الأخرى في الباب، وعلى كليات الشرع ومحكمات القرآن.
3. أنه لا يجوز في الاستدلال الإغراق في التمسك بألفاظ الحديث بمعناها الحرفي القياسي من عموم وإطلاق وأمر ونهي، مع عدم الالتفات إلى قرائن القصد والسياق والحال، كما يفعله الظاهرية وبعض أهل الحديث. قال ابن عاشور: "ومن هنا يقصِّر بعض العلماء ويتوحّل في خَضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجّه رأيه إلى اللفظ مقتنعاً به، فلا يزال يقلَّبه ويحلّله ويأمل أن يستخرج لُبَّه. ويهمل ما قدمناه من الاستعانة بما يحفَ بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق". [مقاصد الشريعة الإسلامية 3/ 81]. وقال الشيخ عبد الحميد الفراهي: "السنة معظم العناية فيها نقد الرواة، فلا يتعمق في متونها من قبل خواص ألفاظها وتراكيبها، فإن الروايات أكثرها بالمعنى.وأما القرآن فيُعض عليه بالنواجذ فيُحافظ على حروفه وحركاته ويعتمد على ما يستنبط من نظمه وإشاراته، وينفى الاحتمالات الضعيفة عن تأويل آياته". [التكميل في أصول التأويل ص216].
والله أعلم وأحكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق