أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

البديل الشرعي عن الاقتراض الربوي الصريح والمُبطَّن (الإسلاربوي)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:

فقد جاء رجل إلى مالك بن أنس [يستفتيه] فقال: يا أبا عبدالله، إني رأيت رجلاً سكراناً...، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرُّ من الخمر. فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشرّ من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب". تفسير القرطبي (3/ 364).

وقال الشيخ سيد قطب [في ظلال القرآن (1/ 318)]: "لم يبلغ من تفظيع أمرٍ أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا... ولله الحكمة البالغة. فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره. ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث".

ومن أكثر الأسئلة التي يُواجه بها من يُحرِّم الاقتراض من المصارف بنوعيها: الربوي الصريح والربوي المبطن (الإسلاربوي): ما البديل؟

وهذا السؤال، حتى على فرض عدم الجواب عليه، لا ينبغي أن يُتّخذ ذريعة لاستحلال الحرام أو التحايل عليه، فأحيانا يكون البديل هو "عدم وجود البديل"، وذلك لقصد الشارع قصر الناس على حلول بعينها فإن لم تتيسّر فليس لهم إلا الصبر حتى تتيسر.

ومثال ذلك الزواج، فمن لا يملك المهر، ولا تكاليف الزواج، لا يُقال له البديل أن تمارس الزنا الصريح، أو الزنى المبطن، كزواج المتعة أو السياحي (الذي بنية الطلاق) ونحو ذلك، بل يقال له: استعفف واصبر، كما قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، وكما قال، صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» متفق عليه.

وفي موضوع الربا البديل الشرعي: منه ما هو منصوص عليه ولذلك كان موضع إجماع من العلماء، واحتلَّ بيانه مساحة واسعة في كتب الفقه الإسلامي في باب المعاملات، ومنه ما هو موضع اتفاق بين جماهير العلماء، ولكن للأسف كلا البديلين غير موضوع موضع التطبيق من قبل من لهم القدرة على التطبيق من الرأسماليين وأصحاب المال، والسبب هو ما جُبلت عليه النفوس من الشح والجشع والطمع من جهة، ومن جهة أخرى انتشار الوسائل المحرمة والمشبوهة للتمويل التي حلت محل الطرق الحلال الصرفة، تماما كمشكلة تأخر سن الزواج والعزوف عنه هذه الأيام، من أسبابه الكبرى مبالغة الناس في تكاليف الزواج ومتطلباته من جهة، ووجود فتاوى تبيح صورًا ممسوخة بديلا عن الزواج الشرعي، كزواج المتعة والزواج السياحي، من جهة أخرى، وشيوع الزنا الحرام الذي قلَّل من الدافع الطبعي إلى الزواج الحلال من جهة ثالثة.

القرض بحسب المقصود منه نوعان: استثماري واستهلاكي:

الاستثماري يُراد به استغلال مال القرض في مشاريع تدرّ دخلًا.

والاستهلاكي يُراد به شراء سلع لاستعمالها لا لاستثمارها، كشراء بيت لسكنه، أو سيارة لركوبها.

البديل الشرعي للقروض الاستثمارية هو المشاركات بأنواعها، وقد احتلّ التنظير للمشاركات وبيان أحكامها مساحةً واسعة في الفقه الإسلامي القديم، والخلاصة في ذلك أن المسؤولية عن الاستثمار تقع على عاتق المموّل (المصرف) والعامل سواء، فهم شركاء في الربح والخسارة، لكن المصرف يخسر المال والعامل يخسر الجهد إلا إذا تعدى أو قصر فتلحقه الغرامة بقدر تعديه أو تقصيره. وثمة دراسات كثيرة معاصرة هدفت إلى التنظير لتطبيق المشاركات في السياق المصرفي الحديث، كالمضاربة المشتركة، وصكوك المضاربة، وسبل الحد من مخاطر المضاربة وغير ذلك. وفكرة المشاركات هذه هي الأساس الذي قام عليه التنظير للمصرفية الإسلامية على يد المنظرين الأوائل في القرن الماضي، وعُدت البديل الشرعي الأساسي للتمويل المصرفي الربوي، ومع ذلك فنسبة تطبيقها في التمويل في المصارف التي تُسمّى إسلامية هذه الأيام محدودة جدا لا تتعدى 5% من مجموع المعاملات في أكثرها كما تشير إليه بعض الدراسات. والسبب في ذلك وجود طرقٍ أخرى مشبوهةٍ للتمويل أجازها بعض المعاصرين، وفَّرت ملاذا آمنا للمصرفيين – ذوي الخلفيات الربوية في أكثرهم – للتعامل بها بدلا من معاناة المشاركات الشرعية وما تحتاجه من جهود وموارد ودراسات جدوى لتقليل المخاطرة فيها. ورأسُ المال بطبعه جبان، كما قيل، إذا وجد طريقين للكسب: أحدهما آمن أو شبه آمن ولا يحوج إلى تعب ودراسة وتحوّط، وآخر: فيه مخاطرة أو يحوج إلى تعب ودراسة، فإنه يسلك الطريق الآمن. والمأمول في هذا الصدد أن تنشأ مؤسسات استثمارية إسلامية تخوض الاستثمار التشاركي الحقيقي: إما مباشرة بمشاريع زراعية أو تجارية أو صناعية أو عقارية، وإما عن طريق إنشاء شراكات شرعية مع مستثمرين وتُجّار، تقوم على مبدأ الاشتراك في الربح والخسارة أو الغنم بالغرم.

وأمّا القروض الاستهلاكية فاتجاه الشرع ومقاصده يشيران إلى التقليل منها بالقدر الممكن، لذلك كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتعوّذ من الدين، وأخبر بأنّ الشهيد يُغفر له كل ذنوبه إلا الدين، ورفض أن يصلي على من مات وترك دينا. وقد انتهى الدكتور سامي السويلم (1417هـ/1996م) في خاتمة بحثه "موقف الشريعة من الدين" إلى أنّ النصوص الشرعية جاءت بالتشديد في الدين والتخلص منه وإن أجازته بشروط منها قيام مصلحة شرعيّة للاستدانة، وأنّ المتتبع للأحكام الشرعية يلحظ جليًّا قصد الشارع إلى إبراء ذمّة المكلَّف من الدين وتطلّعه إلى منع استفحال المديونية في التعاملات المالية.

 وأمّا عند الحاجة إلى المال للاستهلاك،  فالبديل الشرعي عن اللجوء إلى القرض الربوي، أحدُ أربعة أمور لا غير:

الأوّل: الصّدقة، بأن يتصدّق الأغنياء بأموالهم على ذوي الحاجات، سواء من زكاة المال أم تطوّعا، ويدلّ على ذلك قرن الصدقة والزكاة والنفقة بآيات تحريم الربا في القرآن في أربعة مواضع:

1.{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ... وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 280].

2.{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39].

3.{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].

4.{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130]:  ثم قال:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، 

والبديل الثاني: هو القرض الحسن، حيث قال تعالى في ثنايا آية تحريم الربا: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}[البقرة:279]. واسترداد رأس المال دون زيادة هو القرض الحسن، وهو على النصف من أجر الصدقة كما ورد في الآثار.

ولا بأس في القرض الحسن أن تُحتسب عند سداده قيمة التضخُّم (نقص قيمة العملة نتيجة لارتفاع أسعار السلع والخدمات) بل هذا هو الأرجح والأعدل، فألف ريال قبل عشرين سنة لا تساوي ألف ريال هذه الأيام، ووقد قال الله تعالى: "فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون"، فعلَّل بالظلم، ومن الظلم البيّن أن يُردّ القرض إلى صاحبه بعدده النقدي إن نقصت قيمته الشرائية، ولا سيما مع النقص الفاحش، كما في القروض طويلة الأجل.

والمقترح في تطوير ممارسة سنة "القرض الحسن" إنشاء صناديق وقفية للقرض الحسن، تقوم عليها مؤسسات خيرية غير ربحية تُقرض الناس المحتاجين لزواج أو لنحوه من الحاجات، بضمانات كالكفالة والرهن وغير ذلك، وتُحتسب مع القرض قيمة التضخم سنويا، يُضاف إليها احتساب رسوم يسيرة مقطوعة لقاء مصاريف الخدمة بما يغطي تكاليف تسيير عمل الصندوق كأجرة المكان والموظف ونحو ذلك، وليس هذا من الربا في شيء. ويُعطى الأثرياء والمحسنون الذين وقفوا شيئا من أموالهم في هذا الصندوق الحق في تزكية من يشاؤون من الناس للاقتراض من هذا الصندوق في حدود قدر المال الذي أوقفوه. وهذا من شأنه أن يشجِّع المحسنين على الوقف في هذا الصندوق.

كما يمكن في نفس السياق تطوير الممارسة التعاونية التي تُسمّى في بعض البلدان بـ "جمعية الموظفين"، أو "الجمعية"، والتي تقوم على اتفاق بين مجموعة من الناس على إنشاء صندوق عند شخص موثوق يُودع كل منهم فيه مبلغا شهريا، ثم يتفقون على إعطاء المبلغ المتجمع في كل شهر لأحد المشتركين دوريًّا: إما بالقرعة وإما بالتراضي. وهو نوع من التعاون المحمود لأنه يشجع على الادخار ويسد حاجات بعض الناس بطريق القرض الحسن بعيدا عن الربا. والمقترح في تطوير هذه الممارسة أن يكون ذلك عن طريق مؤسسات التوظيف في القطاعين العام والخاص فتُلزم هذه المؤسسات قانونيًّا بإنشاء مثل هذا الصندوق في كلٍّ منها، ويكون الاشتراك فيه اختياريا للموظف وبقدر ما يناسبه من القسط، ويُخصم المبلغ من راتبه في رأس كل شهر قبل أن يُسلَّم إليه.

والبديل الثالث: البيع بالثمن الآجل أو البيع بالتقسيط، وإن اشتمل على زيادة عن سعر الثمن الحالّ (الكاش)، فهذه الزيادة أجازها جماهير الفقهاء، وإن كرهها قلائل من العلماء قديمًا وحديثًا وحملوا عليها حديثه، صلى الله عليه وسلم، أنّه "نهى عن بيعتين في بيعة". رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح. وهذا البديل يجري التحايل عليه من قبل المصارف الإسلاربوية هذه الأيام  حيث تتوسَّط هذه المصارف بين التاجر والمشتري لتظفر هي بالزيادة المقابلة للأجل، فتصبح في نهاية المطاف هي الدائنة للمشتري لا التاجر. ومعظم العقود التي تنتحيها هذه المصارف تقوم على مبدأ التوسّط هذا، وأقلّها سوءًا ما يُسمّى بعقد المرابحة للآمر بالشراء، أو المرابحة المصرفية، وهو عقد مشبوه يكاد يتفق قدماء الفقهاء على تحريمه وكراهته، كما بينّاه في بحث مفصّل (تجده هنا) خصصناه للتحقق من نقل أقوال العلماء ومذاهبهم في هذا العقد بسبب ما توارد عليه المعاصرون من أخطاء في نسبة هذه الأقوال وتحريرها. والعلة في تحريم هذه الوساطات المصرفية هو شبهها الكبير بالربا واتحادها معه في توليد نفس الآثار الاجتماعية والاقتصادية الفاسدة.

والبديل الرابع: بيع السلم، وهو بيع سلعة مؤجلة موصوفة في الذمّة مقابل نقد معجل. وقد أجمع الفقهاء على جوازه، وفيه تيسير ورخصة على من احتاج إلى النقد وليس عنده سلعة في الوقت الحاضر عوضا عن النقد. كالمزارع يحتاج إلى نقد قبل وقت الحصاد، والصانع يحتاج إلى نقد قبل الانتهاء من صناعة السلعة، والمقاول قبل الانتهاء من بناء الشقة أو البيت.

ولا بديل عن القرض الاستهلاكي غير هذه الأربع: الصدقة، أو القرض الحسن، أو البيع بدين (من التاجر مباشرة)، أو السَّلم، إلا الصبر. وهذا الحصر في هذه البدائل التي لا يتيسّر الحصول عليها كثيرًا في الواقع المُعاش مقصودٌ للشارع للحد من الاقتراض والدين إلا لحاجة؛ لأن تسهيل الاقتراض الاستهلاكي – ولاسيما الربوي وشبهه – له عواقب وخيمة على المجتمع والاقتصاد، فهو يزيد من عرض النقد، ولا سيما مع ترويج المصارف للاقتراض وتشجيعها الناس عليه بالدعاية ومنح بطاقات الأئتمان، وكذا ترويج التجار للسلع عن طريق الدعايات التي باتت في كل مكان، فيؤدي هذان الأمران: تسهيل الاقتراض والدعاية إلى السلع إلى التضخم النقدي بنقص قيمة العملة وارتفاع الأسعار، كما يؤديان على الصعيد الاجتماعي إلى رسوخ الأعراف والأنماط المعيشية الاستهلاكية البذخية بين الناس، والناس كأسراب طير يتبع بعضهم بعضا، وويرافق ذلك المشكلات الناجمة عن الديون والإعسار بها. هذا فضلًا عن تحويل ذوي الأموال عن الاستثمار في المشاريع الإنتاجية إلى الاكتفاء بالإيداع في المصارف بسبب ما توفّره لهم المصارف من عوائد آمنة على ودائعهم النقدية مع ضمان رأس المال وسيولته عند الطلب، وهذا التحويل عن الاستثمار في المشاريع الإنتاجية  له أضراره المهولة على الاقتصاد الكلي للبلاد، ولذلك تلجا الدول إلى تقليل سعر الفائدة في وقت الركود وإحجام الناس عن الاستثمار لدفعهم لسحب أموالهم من البنوك وتشغيلها في السوق أو الأسهم.

والصدقة والقرض الحسن والبيع بدين (من التاجر مباشرة) والسَّلم بدائل معتدلة عن الاقتراض الربوي الصريح والمبطن، لا تؤدي إلى مفاسده، لأنها لا تكون في مُطَّرد العادات إلا لذي حاجة، وفي الحد الأدنى، وبما لا يرهقه في السداد ولا سيما مع وجوب إنظار المعسر بالدين شرعًا. وقد كانت هذه البدائل هي المتوفرة فقط للأمة الإسلامية لتمويل القروض الاستهلاكية الحاجية إلى أن فشا الربا في العصر الحديث بصورته الصريحة في المصارف الربوية، وبصورته المبطنة في المصارف الإسلاربوية. وقد انحسر دورها وقلَّ وجودها في الواقع هذه الأيام نتيجةً لانتشار الربا؛ لأن الربا كما قال جعفر الصادق، رحمه الله – وأيّد ذلك ابن تيمية – يمنع الناس بذل المعروف. ومثال ذلك – كما أسلفنا – الزنا الذي من نتيجته انحسار الزواج. ففتح باب الحرام على مصاريعه يضيِّق باب الحلال بلا بدّ، وكذلك سهولة الإقراض الربوي وأشباهه والتربح منها يمنع الأغنياء من بذل أموالهم في الصدقة والقرض الحسن والبيع بدين، لأنهم يطمعون في تكثيرها بالربا السهل مضمون العائد غالبا، صريحا أو مبطنا، كما يقلل من لجوء الفقير ومحدود الدخل ومتوسطه إليهم لاستغنائه بالقرض الربوي عن القرض الحسن الذي سيضطر معه إلى إراقة ماء الوجه.

والحاصل هو أن عدم وجود البديل، أو تعسره في هذه الأيام، ما هو إلا نتيجة لانتشار الربا بصورتيه الصريحة والمبطنة، ولو مُنع الربا بكل صوره لشاعت الصدقة والقرض الحسن ورضي التجار بالبيع الآجل إلى حد معقول، كما كان قديما. وقد أشار المقريزي، ووضع غريشام الإنجليزي ذلك في قانون: "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول" والسبب أن الناس يستسهلون التداول بالعملة الرديئة ويحتفظون بالعملة الجيدة لأنفسهم، وكذلك انتشار الربا الحرام والمعاملات شبه الربوية التي تروِّجها ما تسمى بـ "المصارف الإسلامية" كالتورق المنظم وأضرابها، تحد من تعامل الناس بالبدائل النظيفة النقية من الحرام والشبهة كما ذكرناها آنفا.

وأما المضطر للقرض الربوي هذه الأيام لعلاج مثلا أو لدفع حبس، ولم يجد بديلا حلالا فالضرورات تبيح له المحظورات، فيجوز له الاقتراض بربا، بل إن الحاجة الماسّة تُنزّل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة، عند جمع من العلماء، ومثال ذلك دفع فاتورة السكن أو فاتورة المياه والكهرباء أو شراء ما تمس الحاجة إليه كثلاجة المطبخ أو غسالة الملابس، أو كسيارة في بلد لا مواصلات عامة فيه إلا بعسر شديد، ونحو ذلك، مع مراعاة أن الضرورة تُقدّر بقدرها ويكتفى فيها بما يسد الحاجة دون زيادة على ذلك. والله تعالى أعلم.

آخر تعديل 6 يونيو 2020م

الجمعة، 4 أكتوبر 2019

مرجوحية "التخريج المذهبي" سبيلا للاجتهاد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فالاجتهاد ببناء الأحكام على نصوص الشرع وأدلته أولى وأسهل منه بتخريجها ومقايستها على أقوال الأئمة المجتهدين وفروعهم لأسباب كثيرة:
  • منها أن نصوص الشارع محفوظة، إذ تعهد بحفظها بخلاف أقوال الأئمة المجتهدين فهي لا يؤمن ضياعها، ولا يضمن عدم تراجع المجتهد عنها أو حكمه بخطئها فيما لم يبلغنا.
  • ومنها: أن الشارع لا يجوز عليه التناقض بخلاف المجتهد {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، ولذلك من الخطأ معاملة قول المجتهد كقول الشارع في أحكام التعارض بالجمع والترجيح والنسخ، ولا موجب لذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما وأحمد وغيرهم؛ إذ كرهوا أن تُكتب آراؤهم: إنا نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا.

  • ومنها أن المقرر هو أن لازم دليل الشرع لازم وأما لازم المذهب فليس بلازم؛ لأن الشرع حق وما يلزم عنه حق قطعا. أما صاحب المذهب فقد يقول القول ويغفل عن لوازمه، ولو ذُكرت له هذه اللوازم لأنكرها ولم يلتزمها، والتخريج مؤداه أن لازم المذهب لازم.
  • ومنها أن نصوص الشارع تصحبها القرائن من أسباب الورود والنزول وحافات السياق القريب والبعيد وفهم الصحابة مما يعين على فهم المقصود منها بدقة، بخلاف أقوال المجتهدين من الأئمة التي تنقل في الغالب من غير قرائن سياقية أو حالية تعين على تبين المقصود منها، بتخصيص عامها وتقييد مطلقها وتوضيح مجملها.
  • ومنها أن نصوص الشارع يصحبها التعليل كثيرا بالنص أو الإيماء، ثم باجتهاد العلماء منذ الصحابة، بخلاف أقوال الأئمة.
  • ومنها أن نصوص الشارع مخدومة بالشرح والنظر والتحليل والتفسير والتوثيق من كبار العلماء والمجتهدين منذ الصحابة رضوان الله عليهم، بخلاف أقوال الأئمة التي لم تخدم كما خدمت نصوص الشرع، وأكثر من خدمها المقلدون المنحطّون عن رتبة الاجتهاد بل تركها عامة المتأخرين منهم وأقبلوا على تفكيك متون المقلدين أمثالهم.
  • ومنها أن نصوص الشارع أدلة بنفسها بخلاف أقوال المجتهد إذ هي دليل بواسطة تضمنها لمعنى النص ودلالته، والبناء على ما كان دليلا بنفسه أولى وأكثر صوابا من التخريج على ما يتضمّن الدليل.
  • ومنها أن العلماء اختلفوا في جواز التخريج على قول المجتهد، وفي جواز نسبة ذلك إلى المجتهد بينما اتفقوا على حجية نصوص الشرع والاستدلال بها. والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه.
  • ومنها أن الأصوليين اختلفوا في جواز تقليد الميت من المجتهدين بينما لم يختلفوا في وجوب اتباع نصوص الشرع.
  • ومنها أن جمهور الأصوليين القائلين بحجية القياس في كلام الشارع لا يقولون بحجيته في كلام الناس ولذلك فهم لا يجرونه في ألفاظهم في العقود والأيمان والأوقاف وغيرها، حتى لو كانت العلة منصوصة، وحتى لو أمر المكلف بالقياس على كلامه. قال الغزالي: «ولو قال [المكلف] "أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه كل أسود" اقتصر العتق على غانم عند الأكثرين». قلت فكيف يجرى القياس في كلام المجتهد حيث لا نص على العلة ولا هو أمر بالقياس على كلامه ولا حتى بتقليده بل نهى عن ذلك أشد النهي: قال الإمام أحمد: «‌لا ‌تقلدني، ‌ولا ‌تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا».
  • ومنها أن جمهور القائلين بحجية القياس من الأصوليين لا يجيزون قياس الفرع على الفرع (التخريج) بينما اتفقوا على جواز قياس الفرع على الأصل.
ومع كل هذه الأسباب الظاهرة لا ينقضي العجب ممن قال ويقول بالتخريج المذهبي سبيلا للاجتهاد في أحكام النوازل بعد عصر الأئمة. وأعجب من ذلك من يمنع من الاجتهاد في النوازل بالنظر في كلام الشارع ويوجب الاقتصار بلا بد على التخريج المذهبي!!!

 قال ابن الوزير:
«الظاهر في كثير من التخاريج أنها داخلة في عموم البدع المنهي عنها، ولو كانت من مهمات الدين ما فاتت خيرالقرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم... إلى رأس ثلاث مئة سنة من الهجرة النبوية، فما أعلم أحدًا من الصحابة خرّج على كلام من نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على علمه كعلي عليه السلام، ومعاذ، وابن عباس، ولا من بعدهم من التابعين، ولا خرّج أحد من أهل البيت على قول إمام الأئمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع تعظيمهم له وفي الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن شر الأمور محدثاتها"».

وقال ابن عبد البر يصف المقلدين: 
«ومن حجة هذه الطائفة فيما عولوا عليه أنهم يقصرون وينزلون عن مراتب من له المراتب في الدين؛ بجهلهم بأصوله، وأنهم مع الحاجة إليهم لا يستغنون عن أجوبة الناس في مسائلهم وأحكامهم؛ فلذلك اعتمدوا على ما قد كفاهم الجواب فيه غيرهم، وهم مع ذلك لا ينفكون من ورود النوازل عليهم فيما لم يتقدمهم فيه إلى الجواب غيرهم، فهم يقيسون على ما حفظوا من تلك المسائل ويفرضون الأحكام فيه، ويستدلون منها ويتركون طريق الاستدلال من حيث استدل الأئمة وعلماء الأمة فجعلوا ما يحتاج أن يستدل عليه دليلا على غيره، ولو علموا أصول الدين وطرق الأحكام وحفظوا السنن كان ذلك قوة لهم على ما ينزل بهم، ولكنهم جهلوا ذلك فعادوه وعادوا صاحبه».

وقال ابن العربي: 
«قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن المفتي بالتقليد إذا خالف نص الرواية في نص النازلة عمن قلده أنه مذموم داخل في الآية [أي قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}]؛ لأنه يقيس ويجتهد في غير محل الاجتهاد، وإنما الاجتهاد في قول الله وقول الرسول، لا في قول بشر بعدهما. ومن قال من المقلدين هذه المسألة تخرج من قول مالك في موضع كذا فهو داخل في الآية. فإن قيل: فأنت تقولها وكثير من العلماء قبلك. قلنا: نعم؛ نحن نقول ذلك في تفريع مذهب مالك على أحد القولين في التزام المذهب بالتخريج، لا على أنها فتوى نازلة تعمل عليها المسائل، حتى إذا جاء سائل عرضت المسألة على الدليل الأصلي؛ لا على التخريج المذهبي، وحينئذ يقال له الجواب كذا فاعمل عليه».

وقال أبو الحسين البصري:
«إذا نص العالم في مسألة على حكم وكانت المسألة تشبه مسألة أخرى شبها يجوز أن يذهب على بعض المجتهدين فانه لا يجوز أن يقال قوله في هذه المسألة هو قوله في المسألة الأخرى لأنه قد لا تخطر المسألة بباله ولم ينبه على حكمها لفظا ولا معنى ولا يمتنع لو خطرت بباله لصار فيها إلى الاجتهاد الآخر. فان قيل: أليس إذا نص الله تعالى على حكم مسألة ثم نبه على علته ورأى بعض المجتهدين أن علة ذلك الحكم موجودة في فرع فانكم تقولون ‌من ‌دين ‌الله ‌ودين رسوله صلى الله عليه وسلم الحكم في الفرع بحكم الأصل؟ فهلا قلتم في نص المجتهد مثل ذلك! قيل له: إنما قلنا إن ذلك دين الله تعالى لأنه قد دلنا على العلة بتنبيه عليها ودلنا على أنه قد تعبدنا بإجراء حكمها بتبعها والعالم لم يدلنا على مذهبه في غير ما نص عليه لأنه يجوز أن يكون ممن يفرق بين المسألتين ويخطئ في الفرق بينهما ولا يجوز مثل ذلك على الله سبحانه».

وقال المقري في قواعده:
«لا تجوز نسبة بالتخريج والإلزام ‌بطريق ‌المفهوم، أو غيره إلى غير المعصوم، عند المحققين، لإمكان الغفلة أو الفارق، أو الرجوع عن الأصل عند الإلزام أو التقييد بما ينفيه، أو إبداء معارض في السكوت أقوى، أو عدم اعتقاده العكس، إلى غير ذلك. فلا يعتمد في التقليد ولا يعد في الخلاف».

وقال ابن القيم: 
«المتأخرون ‌يتصرفون ‌في ‌نصوص الأئمة، ويبنونها على ما لم يخطر لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثم يلزمهم من طرده لوازم لا يقول بها الأئمة، فمنهم من يطردها ويلتزم القول بها، ويضيف ذلك إلى الأئمة، وهم لا يقولون به فيروج بين الناس بجاه الأئمة، ويفتي ويحكم به والإمام لم يقله قط، بل يكون قد نص على خلافه».

والله أعلم وأحكم.