الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:
فالاجتهاد ببناء الأحكام على نصوص الشرع وأدلته أولى وأسهل منه بتخريجها ومقايستها على أقوال الأئمة المجتهدين وفروعهم لأسباب كثيرة:
- منها أن نصوص الشارع محفوظة، إذ تعهد بحفظها بخلاف أقوال الأئمة المجتهدين فهي لا يؤمن ضياعها، ولا يضمن عدم تراجع المجتهد عنها أو حكمه بخطئها فيما لم يبلغنا.
- ومنها: أن الشارع لا يجوز عليه التناقض بخلاف المجتهد {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، ولذلك من الخطأ معاملة قول المجتهد كقول الشارع في أحكام التعارض بالجمع والترجيح والنسخ، ولا موجب لذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما وأحمد وغيرهم؛ إذ كرهوا أن تُكتب آراؤهم: إنا نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا.
- ومنها أن المقرر هو أن لازم دليل الشرع لازم وأما لازم المذهب فليس بلازم؛ لأن الشرع حق وما يلزم عنه حق قطعا. أما صاحب المذهب فقد يقول القول ويغفل عن لوازمه، ولو ذُكرت له هذه اللوازم لأنكرها ولم يلتزمها، والتخريج مؤداه أن لازم المذهب لازم.
- ومنها أن نصوص الشارع تصحبها القرائن من أسباب الورود والنزول وحافات السياق القريب والبعيد وفهم الصحابة مما يعين على فهم المقصود منها بدقة، بخلاف أقوال المجتهدين من الأئمة التي تنقل في الغالب من غير قرائن سياقية أو حالية تعين على تبين المقصود منها، بتخصيص عامها وتقييد مطلقها وتوضيح مجملها.
- ومنها أن نصوص الشارع يصحبها التعليل كثيرا بالنص أو الإيماء، ثم باجتهاد العلماء منذ الصحابة، بخلاف أقوال الأئمة.
- ومنها أن نصوص الشارع مخدومة بالشرح والنظر والتحليل والتفسير والتوثيق من كبار العلماء والمجتهدين منذ الصحابة رضوان الله عليهم، بخلاف أقوال الأئمة التي لم تخدم كما خدمت نصوص الشرع، وأكثر من خدمها المقلدون المنحطّون عن رتبة الاجتهاد بل تركها عامة المتأخرين منهم وأقبلوا على تفكيك متون المقلدين أمثالهم.
- ومنها أن نصوص الشارع أدلة بنفسها بخلاف أقوال المجتهد إذ هي دليل بواسطة تضمنها لمعنى النص ودلالته، والبناء على ما كان دليلا بنفسه أولى وأكثر صوابا من التخريج على ما يتضمّن الدليل.
- ومنها أن العلماء اختلفوا في جواز التخريج على قول المجتهد، وفي جواز نسبة ذلك إلى المجتهد بينما اتفقوا على حجية نصوص الشرع والاستدلال بها. والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه.
- ومنها أن الأصوليين اختلفوا في جواز تقليد الميت من المجتهدين بينما لم يختلفوا في وجوب اتباع نصوص الشرع.
- ومنها أن جمهور الأصوليين القائلين بحجية القياس في كلام الشارع لا يقولون بحجيته في كلام الناس ولذلك فهم لا يجرونه في ألفاظهم في العقود والأيمان والأوقاف وغيرها، حتى لو كانت العلة منصوصة، وحتى لو أمر المكلف بالقياس على كلامه. قال الغزالي: «ولو قال [المكلف] "أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه كل أسود" اقتصر العتق على غانم عند الأكثرين». قلت فكيف يجرى القياس في كلام المجتهد حيث لا نص على العلة ولا هو أمر بالقياس على كلامه ولا حتى بتقليده بل نهى عن ذلك أشد النهي: قال الإمام أحمد: «لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا».
- ومنها أن جمهور القائلين بحجية القياس من الأصوليين لا يجيزون قياس الفرع على الفرع (التخريج) بينما اتفقوا على جواز قياس الفرع على الأصل.
ومع كل هذه الأسباب الظاهرة لا ينقضي العجب ممن قال ويقول بالتخريج المذهبي سبيلا للاجتهاد في أحكام النوازل بعد عصر الأئمة. وأعجب من ذلك من يمنع من الاجتهاد في النوازل بالنظر في كلام الشارع ويوجب الاقتصار بلا بد على التخريج المذهبي!!!
قال ابن الوزير:
«الظاهر في كثير من التخاريج أنها داخلة في عموم البدع المنهي عنها، ولو كانت من مهمات الدين ما فاتت خيرالقرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم... إلى رأس ثلاث مئة سنة من الهجرة النبوية، فما أعلم أحدًا من الصحابة خرّج على كلام من نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على علمه كعلي عليه السلام، ومعاذ، وابن عباس، ولا من بعدهم من التابعين، ولا خرّج أحد من أهل البيت على قول إمام الأئمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع تعظيمهم له وفي الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن شر الأمور محدثاتها"».
وقال ابن عبد البر يصف المقلدين:
«ومن حجة هذه الطائفة فيما عولوا عليه أنهم يقصرون وينزلون عن مراتب من له المراتب في الدين؛ بجهلهم بأصوله، وأنهم مع الحاجة إليهم لا يستغنون عن أجوبة الناس في مسائلهم وأحكامهم؛ فلذلك اعتمدوا على ما قد كفاهم الجواب فيه غيرهم، وهم مع ذلك لا ينفكون من ورود النوازل عليهم فيما لم يتقدمهم فيه إلى الجواب غيرهم، فهم يقيسون على ما حفظوا من تلك المسائل ويفرضون الأحكام فيه، ويستدلون منها ويتركون طريق الاستدلال من حيث استدل الأئمة وعلماء الأمة فجعلوا ما يحتاج أن يستدل عليه دليلا على غيره، ولو علموا أصول الدين وطرق الأحكام وحفظوا السنن كان ذلك قوة لهم على ما ينزل بهم، ولكنهم جهلوا ذلك فعادوه وعادوا صاحبه».
وقال ابن العربي:
«قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن المفتي بالتقليد إذا خالف نص الرواية في نص النازلة عمن قلده أنه مذموم داخل في الآية [أي قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}]؛ لأنه يقيس ويجتهد في غير محل الاجتهاد، وإنما الاجتهاد في قول الله وقول الرسول، لا في قول بشر بعدهما. ومن قال من المقلدين هذه المسألة تخرج من قول مالك في موضع كذا فهو داخل في الآية. فإن قيل: فأنت تقولها وكثير من العلماء قبلك. قلنا: نعم؛ نحن نقول ذلك في تفريع مذهب مالك على أحد القولين في التزام المذهب بالتخريج، لا على أنها فتوى نازلة تعمل عليها المسائل، حتى إذا جاء سائل عرضت المسألة على الدليل الأصلي؛ لا على التخريج المذهبي، وحينئذ يقال له الجواب كذا فاعمل عليه».
وقال أبو الحسين البصري:
«إذا نص العالم في مسألة على حكم وكانت المسألة تشبه مسألة أخرى شبها يجوز أن يذهب على بعض المجتهدين فانه لا يجوز أن يقال قوله في هذه المسألة هو قوله في المسألة الأخرى لأنه قد لا تخطر المسألة بباله ولم ينبه على حكمها لفظا ولا معنى ولا يمتنع لو خطرت بباله لصار فيها إلى الاجتهاد الآخر. فان قيل: أليس إذا نص الله تعالى على حكم مسألة ثم نبه على علته ورأى بعض المجتهدين أن علة ذلك الحكم موجودة في فرع فانكم تقولون من دين الله ودين رسوله صلى الله عليه وسلم الحكم في الفرع بحكم الأصل؟ فهلا قلتم في نص المجتهد مثل ذلك! قيل له: إنما قلنا إن ذلك دين الله تعالى لأنه قد دلنا على العلة بتنبيه عليها ودلنا على أنه قد تعبدنا بإجراء حكمها بتبعها والعالم لم يدلنا على مذهبه في غير ما نص عليه لأنه يجوز أن يكون ممن يفرق بين المسألتين ويخطئ في الفرق بينهما ولا يجوز مثل ذلك على الله سبحانه».
وقال المقري في قواعده:
«لا تجوز نسبة بالتخريج والإلزام بطريق المفهوم، أو غيره إلى غير المعصوم، عند المحققين، لإمكان الغفلة أو الفارق، أو الرجوع عن الأصل عند الإلزام أو التقييد بما ينفيه، أو إبداء معارض في السكوت أقوى، أو عدم اعتقاده العكس، إلى غير ذلك. فلا يعتمد في التقليد ولا يعد في الخلاف».
«لا تجوز نسبة بالتخريج والإلزام بطريق المفهوم، أو غيره إلى غير المعصوم، عند المحققين، لإمكان الغفلة أو الفارق، أو الرجوع عن الأصل عند الإلزام أو التقييد بما ينفيه، أو إبداء معارض في السكوت أقوى، أو عدم اعتقاده العكس، إلى غير ذلك. فلا يعتمد في التقليد ولا يعد في الخلاف».
وقال ابن القيم:
«المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة، ويبنونها على ما لم يخطر لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثم يلزمهم من طرده لوازم لا يقول بها الأئمة، فمنهم من يطردها ويلتزم القول بها، ويضيف ذلك إلى الأئمة، وهم لا يقولون به فيروج بين الناس بجاه الأئمة، ويفتي ويحكم به والإمام لم يقله قط، بل يكون قد نص على خلافه».
والله أعلم وأحكم.
والله أعلم وأحكم.
السلام عليكم دكتور أيمن، وشكرا لكم على هذه الإضاءة الأصولية الهامة... هل ينسحب كلامكم على قواعد الفقه المذهبية فلا يكون لها فائدة علمية ترجى؟
ردحذفوعليكم السلام.
ردحذفلااحسب ذلك.
لكن الاستدلال بالقواعد المذهبية على أحكام جديدة ونسبتها إلى إمام المذهب هو نوع من التخريج القياسي فيدخل في غير المحمود من الاستدلال. والله اعلم.