خلاصة القول في معنى «التّعليل بالحكمة» هو أنَّه:
· لا يُقصد به أنَّ
الأحكام معلَّلة بالمصالح أو لا.
· ولا يُقصد به
مجرّد إبداء الحكمة دون نوط الحُكم بها.
· ولا يُقصد به نوط
الحُكم التّكليفي الابتدائي بالحكمة لغرض القياس عليه بواسطتها.
وإنّما
يُقصد به على وجه الدِّقة، أمران:
أحدهما:
نوط الحُكم بالحكمة إذا كَرَّ هذا النّوط على المظنّة المنصوصة بالتّخصيص.
والآخر:
نوط الحُكم الثّابت بخطاب الوضع بالحكمة وجودًا، وهو ما يُسمّى القياس في الأسباب.
فالمجيز
للتّعليل بالحكمة هو المجيز لهذا النّوط من حيث المبدأ، والمانع من التّعليل
بالحكمة هو المانع من هذا النّوط من حيث المبدأ.
وبناءً
على هذا الذي قرّرناه في مراد الأصوليّين بـ «التّعليل
بالحكمة»، يمكننا استنتاج الآتي:
أولًا: مرجوحيّة
ما فعله بعض المعاصرين من جعلهم مسألة «تعليل الأحكام» في
ضمن مشمولات مسألة التّعليل بالحكمة، وتوسّعهم في بحثها في الأثناء، كما ذكرنا
سابقًا.
ثانيًا:
خطأُ تعميم الخلاف في مسألة «التّعليل بالحكمة» على جميع
الأحكام: الثّابت منها بخطاب الوضع والثّابت بخطاب التّكليف، وبكلا وجهي النّوط
وجودًا وعدمًا. إذ يُستثنى من محلّ الخلاف، كما قلنا، نوط الحُكم الابتدائي
بالحكمة وجودًا، أو بعبارةٍ أخرى: القياس على الحُكم الابتدائي بالحكمة، فهذا مستبعدٌ
فيه الخلاف عند القائلين بالقياس.
ثالثًا:
خطأُ مبالغة بعضهم في الإنكار على من قال بعدم جواز التّعليل بالحكمة، وبُعْد قولِهم
بأنّ ذلك كان وليد المناظرات بين أتباع الأئمّة، وأنّه جاء به الأتباع لضبط فروع المذاهب، كما قاله
شلبي وغيره([1])، وأبعد منه القول بأنّ
هذا المنع كان من أسباب جمود الفقه وعجزه عن مسايرة الزّمن([2])؛ وذلك لأنّ
القائلين بالمنع من التّعليل بالحكمة - وهم أكثر الحنفيّة وبعض الشّافعيّة([3]) - وإن كان قولهم مرجوحًا،
لم يكونوا يعنون بالمنع من التّعليل بالحكمة الحكمةَ بإطلاق، كما ظنّه المبالغون
في الإنكار، وإنّما عنوا - كما بيّنّا - حالتين خاصَّتين، هما:
أ) المنع من نوط الحُكم بالحكمة إذا كان ذلك سيعود على المظنّة المنصوصة التي قُطع
عنها الحُكم بالتّخصيص، وب) المنع من القياس على الحُكم الثّابت بخطاب الوضع بواسطة
الحكمة (القياس في الأسباب).
وعلى
هذا فمنعهم التّعليل بالحكمة إنّما يبرز فقط عندما يتردّد الحُكم بين أن يُناط
بالمظنّة المنصوصة أو بالحكمة. ومثاله خلاف الفقهاء في نقض الوضوء بلمس المرأة أيُناط
بنفس اللّمس، أم بما يستبطنه من معنى، وهو الشّهوّة واللّذة، وخلافهم في نقض
الوضوء بالنّوم، أيُناط بذات النّوم كما قاله بعضهم، أم بأنّه مظنّة لخروج الريح
وهو لا يشعر، وخلافهم في غسل اليد قبل إدخالها بالإناء أيُناط بنفس النّوم أم بالشّكّ
في نجاسة اليد، وخلافهم في الاستنجاء بالأحجار أيُناط بالتّثليث في المسحات أم بمجرّد
الإنقاء أم بهما معًا، وفطر الصائم أيُناط بما يدخل الجوف أم بحصول الاغتذاء بالدّاخل،
وهكذا...
وطالما
خُرِّج خلاف الأصوليين في التّعليل بالمظنّة أو الحكمة على خلاف الفقهاء في مثل
هذه الفروع، فلا إنكار على أيٍّ من الفريقين: القائل بنوط الحُكم بالمظنّة،
والقائل بنوطه بالحكمة. نعم هناك حاجة لوضع معايير أصوليّة للترجيح في هذه المسألة،
وضوابط تُبيّن متى يُناط الحُكم - أو يترجّح نوطه - بالمظنّة،
ومتى يُناط - أو يترجّح نوطه - بالحكمة. وهذا ما نوصي به في
ختام هذه الدّراسة، وقد شرعنا في الكتابة فيه يسَّر الله تعالى تمامه.
وآخر
دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
صالح: أيمن، العلة والحكمة والتعليل بالحكمة: دراسة مصطلحية، ص44
([1]) شلبي،
تعليل الأحكام، ص: 184؛ إمام،
"بحث في التّعليل بالحكمة"، 3، ص: 665؛
الجبوري، "التعليل بالحكمة عند الأصوليين"، ص: 191.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق