قال ابن تيمية، رحمه الله، (المسودة، ص512):
«قال أبو الحسين القُدُوري [الحنفي]: المقلِّد إذ غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب فقيه أقوى، فعليه أن يقلد فيها ذلك الفقيه، وإذا أفتى بها حاكيا لمذهب من قلده جاز.
وقال أبو الطيب الطبري [الشافعي]: لا حكم لظنه واستحسانه.
وكانا قد سُئلا عمَّن يقلد فقيها فاستحسن مسائل في مذهب غيره، هل يجوز له أن يقلد صاحب المسائل، ويعمل بها، وإذا سُئل عن تلك المسائل يفتي بها على سبيل الإخبار على مذهب ذلك الفقيه».
قلت- أيمن: وكلام القُدوري، رحمه الله، أقرب إلى ظواهر الشرع من كلام القاضي أبي الطيب، رحمه الله، لقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}، وهذا يشمل كل مسلم بقدر طاقته، ولقوله: صلى الله عليه وسلم لمن سأله: "قلتُ يا رسولَ اللهِ أخبِرْني ما يحِلُّ لي ويحرُمُ عليَّ، قال: البرُّ ما سكنت إليه النَّفسُ واطمأنَّ إليه القلبُ والإثمُ ما لم تسكُنْ إليه النَّفسُ ولم يطمِئنَّ إليه القلبُ وإن أفتاك المُفتون". [إسناده جيد كما قال ابن رجب وغيره] وفي رواية ضعيفة: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس". ودلالته ظاهرة بأن المستفتي لم يكن من أهل الاجتهاد، وأحاله، صلى الله عليه وسلم، على علامة باطنة، لا على التخيّر والتشهي، ولا على التقليد لمُعيّن من المفتين بالغي رتبة الاجتهاد.
وعلى قول القدوري يتخرّج ما يقوم به كثير من طلبة العلم، القاصرين عن رتبة الاجتهاد، من الترجيح في المسائل الفقهية، معتمدين في ذلك على ما أمكنهم من النظر، وإن كان قاصرًا.
لكن المفسدة التي قد تترتب على ذلك، (أعني اشتغال من قصر عن رتبة الاجتهاد بالترجيح بين المسائل بناء على النظر في الدليل) هي ما يُرى في كثير ممن هم في رتبة العامي المحض، وفي المبتدئين، أو حتى المتوسطين، من طلبة العلم، وصغار الباحثين، ولا سيما من أولئك المشتغلين بالحديث تصحيحًا وتضعيفًا، ما يرى فيهم من ثقة - مبالغ فيها في كثير الأحيان - بترجيحاتهم واختياراتهم، حتى يكاد بعضهم أن يجزم بخطأ القول المخالف في مسائل هي في ملتطم الظن والنزاع بين أئمة الاجتهاد. وهذا تعسّف بالغ، قائم على وهم التمكّن من النظر، وسراب حيازة الصواب، وخيال الإحاطة بالمسألة لمجرد المعرفة ببعض الادلة الجزئية التي تساق فيها، وحينئذ يكون الترجيح من قِبَل من كان هذا حاله مذمومًا، لأنه من قبيل التعالم، وتشبّع المقلّد بما لم يعط من آلات الاجتهاد، وهو من لبس الزور، كما جاء في الحديث: "المتشبّع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" [متفق عليه]. هذا فضلًا عمّا يولده الترجيح على هذا الوجه من تعصّب للرأي، وإساءة للظن في أئمة الاجتهاد. ولعله لأجل هذا الوجه ذم الترجيح من ذمّه من المعاصرين، وكأنه كان ذريعة إلى هذه المفاسد فكان من السياسة سد باب الترجيح بالكلية.
والذي نراه هو أن من رجَّح من القاصرين عن الاجتهاد، لا على الوجه المذموم الذي ذكرنا، فلا دليل يمنع من نظره وترجيحه، بل هو أولى به من التزام مذهب بعينه دون تكلّف إعمال النظر البتة، لأنه أدعى إلى مطالعة نصوص الكتاب والسنة، والتبصّر في اختلاف العلماء، وهو أمر حميد، يرقى بصاحبه، بعد اكتمال الآلة بإذن الله تعالى، إلى منازل المجتهدين.
قال العز بن عبد السلام، رحمه الله، (القواعد، 2/ 159)، متعجِّبا من المقلد الذي يجمد على مذهب إمامه في المسألة مع ظهور ضعف رأيه فيها:
«ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلَّده. وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم في خلاف ما وطّن نفسه عليه، تعجب غاية التعجب من غير استرواح إلى دليل، بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظنّ أن الحق منحصر في مذهب إمامه...، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصبر عليه، مع علمه بضعفه وبُعده. فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه، ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابَلٌ بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره، حتى حمله على مثل ما ذُكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان، وعلى لسان من ظهر».
وقال المعلّمي، رحمه الله، (التنكيل 11/ 585 ضمن آثار المعلمي):
«قد نصَّ جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلِّد إذا ظهر له رجحانُ الدليل المخالف لإمامه لم يجز له تقليدُ إمامه في تلك القضية. بل يأخذ بالحق، لأنه إنما رُخِّص له في التقليد عند ظن الرجحان، إذ الفرض على كل أحد طاعةُ الله وطاعة رسوله. ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد، فإنه لا يتحقق رجحانُ خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلَفٍ فيه، فيترجَّح عندك قولُ مجتهدٍ آخر، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متَّبعًا الدليلَ الراجح من جهة، ومقلِّدًا في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة. والفقهاءُ يجيزون تقليد المقلِّد غيرَ إمامه في بعض الفروع لمجرّد احتياجه، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلِّده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله؟».
وفي ضوء هذا كلِّه ندرك أهمية تعلم أصول الفقه للمقلد، لأن إتقان أصول الفقه أقوى سبب في تنمية ملكة الترجيح لديه إلى أن يبلغ مرتبة الاجتهاد الجزئي في مسائل، أو ربما الاجتهاد الشامل في معظم المسائل، وما ذلك على الله بعزيز.
وتأسيسا على هذا، نعلم بأن كلام الذهبي، رحمه الله، في «زغل العلم» (ص41): «أصول الفقه لا حاجة لك به يا مقلد، ويا من يزعم أن الاجتهاد قد انقطع، وما بقي مجتهد، ولا فائدة في أصول الفقه إلا أن يصير محصله مجتهدا به، فإذا عرفه ولم يفك تقليد إمامه لم يصنع شيئا، بل أتعب نفسه وركب على نفسه الحجة في مسائل، وإن كان يقرأ لتحصيل الوظائف وليُقال، فهذا من الوبال، وهو ضرب من الخبال»، كلامه الذهبي هذا محمولٌ على المقلّد الجامد الممتنع عن الترجيح المحيل للاجتهاد حالا ومآلا، كالمقلد الذي تعجب منه العز بن عبد السلام كما نقلناه من كلامه آنفا، وإلا فلو كان المقلد المحصِّل طرفًا من آلات الاجتهاد يستعمل ما يتقنه من "أصول الفقه" في الترجيح في بعض المسائل التي تسنى له النظر فيها، فمثل هذا لا يتوجه عليه كلام الذهبي، رحمه الله.
والله أعلم
أيمن صالح
https://t.me/alfikh
جزاك الله خيرا
ردحذفجزاك الله خيرا
ردحذف