كثيرٌ من محكمي البحوث والرسائل العلمية ينتقدون استعمال الباحث ضمير الجمع "نا" تعبيرا عن نفسه في الخطاب، كأن يقول: قلنا ، وعندنا، ونرى، ونحو ذلك، نظرا منهم إلى أن هذا ينافي التواضع ويبرز الأنا، وهناك أيضًا منهم من ينتقد تعبير الباحث بضمير الغيبة: كأن يقول: ويرى الباحث، ويقول الباحث لنفس السبب السابق. وهذا - في رأيي - تنطع وتكلف، وإنما يكثر صدوره عن الحكام الذين يركزون في نقدهم على الشكليات، والعجيب أنهم ينتقدون البحوث أيضا بعدم ظهور شخصية الباحث في البحث: فإذا قال: أرى ونرى وأقول ونقول، قالوا هذا ينافي التواضع، فيحتار المرء ماذا يكتب وكيف يعبر عن أفكاره الخاصة واختياراته وترجيحاته.
والصحيح أنه لا إشكال في كل ذلك، والتعبيرات المذكورة لا تنافي التواضع ولا هي من الأسلوب المرذول والمنتقد في التعبير، بل هي عرف عام في الكتابة العلمية قديما وحديثا لولا تنطعات بعض الشكليين ممن تأثروا بكتب آداب البحث ومناهجه المعاصرة التي تكثر النقل عن الكتب الأجنبية دون الانتباه لفوارق اللغة والثقافة والأعراف الكتابية الخاصة بكل علم من العلوم عند الأمم المختلفة. ومؤلفات التراث العلمي للمسلمين طافحة بالتعبير بضمير الجمع عن المتكلم وقد كان أسلافنا أكثر منا أدبا وتواضعا، فمثل هذا النقد في غير محله، ولا يشتغل به محصِّل.
يقول الدكتور طه عبد الرحمن مبينا وجه التعبير بضمير الجمع عن المتكلم في الكتابة العلمية:
"إذا نحن استعملنا ضمير الجمع بدل ضمير المفرد في كتاباتنا، فلأن هذا الاستعمال تقليد عربي أصيل في صيغة التكلم من صيغ الكلام، ثم لأنه هو الاستعمال المتعارف عليه في المقال العلمي والتأليف الأكاديمي، فضلا عن أنه يفيد معنى "المشاركة" و"القرب"، إذ يجعل المتكلم ناطقا باسمه وباسم غيره، ولا غير أقرب إليه من المخاطب، حتى كأن هذا المخاطب عالم بما يخبره به المتكلم ومشارك له فيه، فيكون ضمير الجمع، من هذه الجهة، أبلغ في الدلالة على التأدب والتواضع من صيغة المفرد، ولا دلالة له إطلاقا على تعظيم الذات ولا على الإعجاب بالنفس". التكوثر العقلي (هامش(1)، صفحة 12) .
أيمن صالح
https://t.me/alfikh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق