أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الاثنين، 1 يونيو 2020

رسائل الماجستير والدكتوراه في الدراسات الشرعية: أيُّ بديل؟!



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد: 

فالعلومُ النقلية، كعلوم الشريعة من فقهٍ وأصوله وحديث وتفسير، تتّصف بقدر كبير من الثبات. وحجمُ التغيُّر والتطوّر فيها لا يقارن البتة بالعلوم الدنيوية من اقتصاد واجتماع وطبٍّ وهندسة إلى آخر ما هنالك. وذلك لأنها بطبيعتها تقوم على النقل وخدمته، والنقل، الذي هو الشرع، ثابتٌ مكتملٌ في ذاته: {اليوم أكملت لكم دينكم}، واضحٌ محكمٌ في معظم مدلولاته: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها"، قديمٌ معمِّرٌ في وجوده، ولذلك تتابعت على تبليغه، وتفسيره، وشرحه، وتنزيله على مقتضيات الزمان والمكان ملايينُ العقول على امتداد التاريخ الإسلامي، ولذلك لا عجب أن أفتى كثير من علماء العصور المتأخِّرة بغلق باب الاجتهاد، ووصفوا بعض علوم الشرع بأنها نضجت، وبعضها الآخر بأنها نضجت واحترقت، ممّا يعني ألا مجال لمزيد من الكتابة فيها إلا لمتكلِّف. ومن هنا فعندما قال ابن العربي (ت543هـ)، كلمته المشهورة في مقدمة عارضة الأحوذي: "ولا ينبغي لحصيفٍ أن يتصدّى إلى تصنيفٍ أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، أو يبتدع وصفا ومبنى... وما سوى هذين الوجهين، فهو تسويد الورق، والتحلّي بحلية السرق". استدرك بعد ذلك قائلا: "فأمّا إبداع المعاني فهو أمر معوز في هذا الزمان، فإن العلماء قد استوفوا الكَلِم، ونصبوا على كل مشكل العَلَم، ولم يبق إلا خفايا في زوايا، لا يتولَّجها إلا من تبصّر معاطفها، واستظهر لواطفها ... ". 

قلت: قال هذا الكلام وهو من علماء القرن السادس الهجري فكيف الحال الآن ونحن في القرن الرابع عشر الهجري، مما يعني أن "الخفايا في الزوايا" التي ذكرها لا شك قد استنفدت.

ثمّ لا يخفى أن المستحِقّ لقبَ العالم في الإسلام ليس قاصرًا على الباحث في علوم الشرع، المشيِّد لأركان هذه العلوم، المجدِّد في بنيانها، المبتكر في عرضها وتحليلها، بل هو يشمل أيضًا الحافظ لهذه العلوم، المبلِّغ إياها لغيره، ولو لم يتعمّق في الاستنباط منها وفي توظيفها. ولو أَجَلْنا النظر في تراجم آلاف العلماء الذين تزخر بسيرهم كتب التاريخ والطبقات لوجدنا أنّ قلة قليلة منهم قدّموا، أو كتبوا، ما يمكن وصفه بأنه "إضافة علمية" فعلية بالمعايير البحثية المعتمدة في العلوم الدنيوية هذه الأيام، بل غالب ما خلّفوه من التأليف هو من قبيل البحوث الثانوية التي تهدف إلى التجميع أو الترتيب أو الاختصار أو الشرح الميسّر للفهم. وحجمُ النقول عمّن سبق في مؤلفاتهم هذه يشغل حيِّزا واسعا منها يكاد يشملها كلَّها إلا قليلا. 

والذي أرمي إليه من هذا التقديم أنّه من الصعوبة بمكان في العلوم النقلية إيجاد موطئ قدم للتأليف الابتكاري في الموضوع والجوهر. ولو كان لا يوصف عالما إلا من قدَّم مقاربة جديدة في التأليف لكان عدد علماء الإسلام قليلًا جدًّا. 

وفي مستهل العصر الحديث مع بدايات القرن العشرين وجدنا جُلّ كتابات علماء الشريعة تتركّز في تجديد شكل العلوم، فألَّفوا عشرات الكتب التي تعرض علوم الشريعة من الفقه وأصوله وعلوم الحديث والقرآن والاعتقاد، بلغة عصرية ميسرة، وطباعة أنيقة، هي أنسب لمتعلمي هذا الزمان.

ثمّ مع فَْرْنَجة أنظمة التعليم في عهد الاستعمار وافتتاح الجامعات، وفي ضمنها كليات التعليم الشرعي، وصيروة الكتابة العلمية شرطا للتخرّج من هذه الكليات في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، نشأ توجُّهٌ جديد في التأليف في العلوم الشرعية يقوم على الدراسة المتخصِّصة لموضوعات فرعية في هذه العلوم. وهذه الظاهرة لم تكن بهذا الاتساع قبل هذه المرحلة، بل كان أكثر ما يؤلُّف في القديم، وقبل مرحلة الجامعات، موسوعيًّا يتناول الفقه كله أو أصول الفقه كله أو علوم الحديث أو العقيدة كلها، وهكذا...، وأمّا مع هذه المرحلة فقد صار الباحث يعمد إلى عنوان فرعي ما أو باب معين في الكتب القديمة، فيتناوله بالبحث مستقرئًا ما قيل فيه ومقارنا ومرجِّحا. 

وفي مرحلة لاحقة، وبعد أن انخرط معظم المشتغلين بالعلوم الشرعية في السلك الأكاديمي للجامعات، ظهرت الحاجة إلى مؤلفات أكثر إيجازا وأدقّ محتوى من الرسائل العلمية في الماجستير والدكتوراه، وذلك لغايات الترقيات العلمية. ومن هنا بدأ الأساتذة يتوجهون إلى الكتابة في عناوين موضوعات جزئية دقيقة في مختلف العلوم الشرعية يمكن استيعاب الموضوع منها بالعرض والمقارنة والتمثيل والترجيح بكتابة خمسين صفحة أو نحوها. 

وبمرور الزمان ومع كثرة الخرِّيجين بحكم الزيادة الطبيعية لأعداد المسلمين، وفشوّ التعليم الشرعي الأكاديمي وانتشاره، استُهلكت العناوين الكبيرة التي يمكن أن تُكتب فيها الرسائل، وقلَّت كثيرًا كذلك العناوين الفرعية الدقيقة التي يمكن أن تكتب فيها البحوث القصيرة المحكّمة. 

ومع هذا الانحسار للعناوين والمواضيع غير المطروقة بالتأليف نشأت وبدأت بالتفاقم أزمةُ الوقوف على عناوين تمكن الكتابة العلمية فيها بنوعٍ من الجِدّة، ولو في الجمع والترتيب والمقارنة، وصار شُحّ العناوين مقلقًا جدًّا للأكاديميين الشرعيِّين عامّة، ولطلبة الماجستير والدكتوراه خاصّة الذين هم في أوائل مشوارهم البحثي. 

وهذه الأزمة لا تزال تتفاقم سيّما مع مئات (أو ربما آلاف) الخريجين الذين تقذف بهم الجامعات في أرجاء العالم الإسلامي في كل عام. ولا بد لعقلاء هذه الأمة من الوقوف إزاء هذه الأزمة وقفة تأمّل بغية إيجاد الحلول. وهذا المقال إنما هو محاولة في هذه الاتجاه وفي الوقت نفسه دعوةٌ إلى التباحث والتفاكر حول أسباب هذه الأزمة ونتائجها وطرق علاجها. 

أمّا الأسباب فأستطيع من خلال ما تقدم أن أوجزها في الآتي: 

1. الثبات النسبي الذي تتمتع به العلوم الشرعية في معظمها مما يجعل توليد مواضيع قابلة للبحث وإعادة النظر محدودًا جدًّا. 

2. قدم العلوم الشرعية واستقرارها وكثرة الناظرين والكاتبين فيها على مدار التاريخ مما ضيق المجال أمام مزيد من الكتابة فيها إلا مع التكرار الكثير. 

3. كثرة خريجي الدراسات الشرعية وزيادة الالتحاق منهم بالدراسات العليا في سبيل تحسين أوضاعهم الاجتماعية والمادية، وهذه الزيادة في العدد قابلها تناقص شديد في عدد المواضيع غير المطروقة التي تستحق البحث والتأليف. 

وأمّا النتائج فأهمّها الآتي: 

1. في ظل شحّ المواضيع بدأت مؤسسات التعليم العالي بالتساهل في قبول مشاريع الخطط، ممّا أدّى إلى انتشار ظاهرة التكرار والنقل في البحوث الشرعية مع الإشارة والعزو أحيانا ومن دونها في أحيانٍ أخرى. وهذا بدوره جعل معظم هذه البحوث يتَّسم بالضعف وقلّة الجدوى بحيث لا تحقّق الغاية التي اشترط إنجاز هذه البحوث من أجلها استكمالا لمتطلبات الدرجة العلمية، سواء الغاية المتمثلة بالفائدة التي تنعكس على الباحث نفسه بتقوية تحصيله وشحذ ملكته العلمية أم المتمثلة بالفائدة التي تعود على المجتمع عامّة بإمداده ببحوث نوعية تسير بالعلوم خطوات إلى الأمام. على أنّه ينبغي أن يُلاحظ هاهنا أنّ كثرة المؤلفات (التكرارية) مضرة بالعلوم كما قال ابن خلدون، وذلك لأنها تشتت المتعلم والباحث عن الفائدة وتضله عن الوصول إلى البحث النوعي الذي يضيع بين عشرات البحوث الأخرى التي تحمل نفس العنوان أو عنوانا مقاربا، حتى أضحينا في هذا الزمن في تحدٍّ بالغ وجُهدٍ جهيدٍ في الوصول إلى الكتابات الرصينة بفرزها وتمييزها عن فيض الكتابات الأخرى التكرارية الضعيفة في الموضوع نفسه، وأصبح العلم - كما قيل - نقطةً كثَّرها الجاهلون.

2. وفي ظل شحّ المواضيع أيضا صارت مؤسسات التعليم تقبل البحث في موضوعات هامشية تافهة أو قليلة الجدوى محدودة الفائدة والأثر على الباحث نفسه أو على المجتمع، لا لشيء إلا لأنها غير مطروقة. 

3. ازدياد الضغط النفسي على طلبة الدراسات العليا وعلى القائمين على الكليات الشرعية فيما يتعلق بإيجاد العناوين وإقرار مشاريع الخطط. 

4. ضياع وقت وجهد كبيرين على الطالب في التنقيب عن عناوين تستحق البحث، وكذا ضياع وقت المؤسسات العلمية وجهد أساتذتها في دراسة العناوين الكثيرة التي يقدِّمها الطلاب وتتبُّع أصالتها وجِدّتها واستحقاقها البحث، ولا سيما مع ضعف فهرسة المؤلفات التي تكتب في العلوم الشرعية وتصنيفها، وصعوبة الوصول إليها عناوين ومحتويات.

وأمّا الحلول فأقترح الآتي: 

1. إعادة النظر في صلاحيّة نظام التعليم الجامعي الذي استوردناه من الغرب وطبقناه في بلادنا في مجال العلوم الشرعية. هل هو مناسب لطبيعة هذه العلوم؟! وإذا كانت الغاية الكبرى لأي مؤسسة تعليمية شرعية هي تخريج العالم الرباني، فهل من شرط العالم أن يكون باحثا مبتكِرًا في التأليف، وهل من بحث موضوعا فرعيًّا دقيقًا هنا أو هناك في رسالة الماجستير أو الدكتوراه، حتى مع افتراض تجديده وابتكاره فيما بحث، أهلٌ لأن يكون عالما، ومن ثَمّ معلِّما في مؤسسات التعليم العالي من جامعات ومعاهد. إنّ من المفارقات في نظام التعليم الحالي في الدراسات العليا ولا سيما الدكتوراه أنه يركِّز على المنجز البحثي، بينما في الواقع العملي الوظيفي نجد أن أكثر خريجي الدكتوراه لا يعملون في مجال البحث بل في مجال التعليم أو الدعوة أو الإدارة ونحو ذلك، وكثيرٌ منهم يكون آخر عهده بالبحث رسالته للدكتوراه، وإن كتب بعضهم شيئا فبحوث جزئية تقليدية قليلة الدَّسم لأغراض الترقيات والمشاركة في المؤتمرات. وهم لا يلامون في ذلك لأنّ الجمع بين التعليم والبحث ليس سهلا، سيما مع تعقيدات الحياة الأخرى في هذه الأعصار، بل إن ممّا لاحظته في مسيرتي الأكاديمية في مؤسسات مختلفة لما يقارب العشرين سنة هو أن التفوّق في البحث والنشاط المكثف فيه لدى الأستاذ مظنة لضعف أدائه في مجال التعليم، وقليل من الأساتذة من يبرِّز في التعليم والبحث معا. وممّا يمكن أن نقترحه من تعديلات على نظام التعليم الحالي في الدراسات العليا في العلوم الشرعية ما يأتي: 

(‌أ) جعل مقرر الرسالة اختياريًّا في مرحلة الماجستير، ويُعوّض عنه في المقابل بدراسة مقررات علمية تكوينية. مع اشتراط التفوق العلمي في تأهل الطالب لأخذ مقرر الرسالة نفسه وتزكية الأساتذة له بناء على تقييم موضوعي للبحوث الفصلية التي قدمها في المقررات أثناء دراسته التكوينية، وإلا جبر على دراسة المقررات التكوينية دون مقرر الرسالة. وهذا الحلّ تعمل به بعض الجامعات بشكل أو بآخر. ومن شأنه توجيه طالب الماجستير، غير الراغب بالبحث، أو ضعيف القدرة فيه، إلى مجالات مهنية يحتاجها سوق العمل ليس البحث أو إتقانه من مستلزماتها، فما كل من أراد الرقي في السلك الأكاديمي يبغي أن يكون باحثا أو يلزمه ذلك، أو ينوي أن يواصل إلى مرحلة الدكتوراه. 

(‌ب) تقليل أعداد المقبولين في الدكتوراه واشتراط أن يكونوا ممّن أنهى الماجستير بالرسالة لا بالمقررات وحدها، مع تقييم بحثه للماجستير وجعل جودته شرطا للقبول في مرحلة الدكتوراه. 

(‌ج) التوسّع في السماح لحملة الماجستير في التدريس في مؤسسات التعليم العالي في مرحلة البكالوريوس إذا كانوا مؤهّلين للتعليم تأهيلا جيّدًا. وتوجيه حملة الدكتوراه إلى تعليم طلاب الدراسات العليا، وإلى العمل في مراكز البحث العلمي. وهذا من شأنه تقليل التركيز على المؤهّل البحثي للتدريس في مؤسّسات التعليم العالي؛ إذ لا معنى لجعل المهارة المتقدِّمة في البحث شرطًا في التأهل لتعليم طلاب البكالوريوس في الدراسات الشرعية، بل ثمة مهارات أخرى أولى بالحاجة والاعتبار، كالتحصيل العلمي والتفوق فيه، وإتقان أساليب التدريس، والمهارة في تكنولوجيا التعليم. 

2. وضع الكليات والمؤسّسات الشرعية مشاريع بحثية كبرى وتقسيمها وتوزيع العمل فيها على عدد من طلاب الدراسات العليا. وهذا تقوم به بعض الجامعات، وهو لا شك يخفِّف من عناء إيجاد مواضيع فرعية مستقلة تصلح لبحوث الماجستير والدكتوراه، لسببين: أحدها أنّ المشاريع الكبرى أيسر إيجادًا لقلة التوجه إليها بالكتابة مقارنة بالعناوين الصغرى التي استهلكتها رسائل الماجستير والدكتوراه وبحوث الأساتذة، والسبب الثاني: أنّها تحتمل عددًا لا بأس به من الباحثين ربما العشرات منهم. لكن يظل عبء الإشراف على هذه المشاريع ووضع خطط دقيقة ومناهج موحّدة لإنجازها تحدّيًا لا بأس به أمام القائمين على المؤسسات التعليمية. 

3. استبدال الرسالة سواء الدكتوراه أم الماجستير بمجموعة من البحوث الدقيقة المحكمة ولو في موضوعات متفرقة. لأن هذه الموضوعات الدقيقة أوفر عددا وأعظم عائدًا. ومن حسنات هذه الطريقة تقليل الحشو في الرسائل العلمية، لأن كثيرا من الباحثين يضطر للحشو في موضوعه الضيق لغاية الاستجابة إلى متطلبات المؤسسة التعليمية والأعراف الأكاديمية التي تشترط حجمًا معيّنا لرسالة الماجستير والدكتوراه. 

4. التوجّه نحو البحوث الشرعية الميدانية الخليطة، حيث ينقسم البحث إلى جزئين جزء نظري وهذا قد لا يشتمل على إضافة علمية، والآخر جزء ميداني في مجال الأسرة أو الدعوة أو الإعلام أو القضاء أو الإفتاء أو الأوقاف ...الخ. مع ملاحظة أن إعداد هذه البحوث بجودة يتطلب تدريب طلاب الدراسات العليا في العلوم الشرعية على مهارات البحث الميداني كطرق جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها. 

5. التوجّه نحو البحوث البينية بين التخصصات بحيث يتناول الطالب موضوعًا واحدًا من زاويتين: زاوية الشرع، وزاوية علم آخر، كعلم النفس مثلا، أو علم الاجتماع، أو الاقتصاد، أو الإدارة، أو الإعلام، أو القانون، ونحو ذلك. وهذا النوع من البحث ليس سهلا؛ لأنه يتطلب الإلمام الجيد بالشريعة من جهة، وبالعلم الآخر من جهة أخرى، لكنّه مع ذلك يفتح آفاقا واسعة للبحث التكاملي بين علوم الشرع والعلوم الأخرى. 

6. استبدال مقرّر الرسالة، ولا سيّما في مرحلة الماجستير، بمشروع يسفر عن منتج شرعي ليس بالضرورة أن يكون قائمًا على البحث، كابتكار وسيلة تعليمية شرعية حديثة متطورة، أو إنتاج مادة إعلامية شرعية كفلم وثائقي، أو تصميم برمجية شرعية ما، أو موقع إلكتروني ذي محتوى شرعي متجدد... الخ. والقصد هنا توسيع مجال الإنتاج الابتكاري لا ليكون مقتصرا على الكتابة العلمية بل يشمل أي إنتاج سمعي أو بصري أو حاسوبي من شأنه أن يخدم الشريعة الإسلامية. وفي نظري مثل هذه المنتجات أولى بالاعتبار من تحقيق مخطوط قديم غير ذي أهمية مثلا، أو كتابة رسالة غالبها النقل عن الآخرين باللفظ أو المعنى. 

هل لديك مقترحات أخرى؟ اكتبها في التعليق لو سمحت.

الثلاثاء، 21 أبريل 2020

تعليل القول بجواز أداء صلاة الجماعة عن بُعد (بواسطة البث الفضائي وغيره)


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد: 

فلا شك في أنّ لصلاة الجماعة في المسجد مقاصد لا تحصل إلا بالاجتماع في المكان، ومن أهم هذه المقاصد تعارف المسلمين في الحي وتآلفهم، وتحقيق التساوي بين غنيهم وفقيرهم وخاملهم ووجيههم حيث يقفون في الصف نفسه، هذا فضلا عن أنها شعار للإسلام ومظهر من مظاهر الدعوة إليه وتذكير الغافلين بربهم حيث يرون المصلين ذاهبين وعائدين من المسجد داخلين فيه وخارجين منه، ثم إن المساجد، كما جاء في الحديث، هي أفضل بقاع الله في الأرض، وفي القول بتجويز انعقاد جماعتها خارجها مطلقًا تعطيلٌ لها. قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36-37]، "أذن" في الآية بمعنى أمر وقضى، و"أن ترفع" أي تُبنى وتقام، كما قال ابن عباس، رضي الله عنهما، وغيرُه، و"يُذكر فيها اسمه"، "فيها" أي في داخلها يُذكر عزَّ وعلا بالصلاة والتسبيح ونحوه. 

ومع هذا، أجاز أكثر الفقهاء الاقتداء بإمام المسجد لمن هو خارج المسجد إذا كان مجاورا له عالما بانتقالات الإمام سمعًا أو بصرًا لما جاء من الآثار الصحيحة في ذلك كصلاة عائشة، رضي الله عنها، مع جماعة المسجد وهي في حجرتها الملاصقة للمسجد، وكصلاة المسلمين التراويح بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حجرته. 

فهل يُقاس من كان بعيدًا عن المسجد على المجاور له إذا أمكنه العلم بانتقالات الإمام وسماع صوته، كما يحصل هذه الأيام في الفنادق المحيطة بالحرم حيث توضع في غرفها موصلات للصوت موصولة بالحرم وقت الصلاة، وكما يمكن ذلك الآن باستعمال أجهزة البث المباشر في التلفزيون وغيره. 

ويغدو الجواب على هذا السؤال مُلحًّا الآن في ظل تعطيل الجماعات في المساجد بسبب فايروس كورونا، وفي ظل قدوم شهر رمضان وصلاة التراويح التي لا يقوى كثير من الناس على صلاتها منفردين أو مع جماعة أهله في البيت. 

والعلماء المعاصرون مختلفون في هذه المسألة بين مجيز ومانع، والذي أراه والله أعلم جواز ذلك إذا لم يُتّخذ هذا الأمر عادة فيؤدّي إلى تعطيل المساجد من عُمّارها. ووجه الجواز هو قياس البعيد عن المسجد على المجاور له بجامع علم كليهما بانتقالات الإمام، ولا فرق مؤثِّرا يمنع من هذا القياس، وكل ما قد يرد من قوادح على اقتداء البعيد بالإمام يرد نفسه على اقتداء المجاور للمسجد بالإمام، حيث إن الفرق الوحيد بينهما هو القرب والبعد، وإلا فكلاهما خارج المسجد في مكان ليس له حكم المسجد لا شرعا ولا عرفا. وفرق البعد والقرب هذا بينهما فرقٌ "طردي" غير معتبر ولا مؤثر؛ لأنه لا يخل بالاقتداء ولا بمعنى حصول الجماعة. حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلى قائما فصلوا قيامًا» [متفق عليه]، وفي الحديث إيماء إلى أن الإتمام والاقتداء إنما يحصل مع العلم بالانتقالات ومتابعتها. 

وقد قال ابن قدامة منتقدًا القول بمنع صلاة المأموم العالم بانتقالات الإمام إذا حال بينه وبين الإمام حائل من طريق ونحوه: 

"وإذا كان بينهما طريق أو نهر تجري فيه السفن، أو كانا في سفينتين مفترقتين: ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح أن يأتم به، وهو اختيار أصحابنا ومذهب أبي حنيفة؛ لأنّ الطريق ليست محلا للصلاة فأشبه ما يمنع الاتصال. والثاني: يصح وهو الصحيح عندي ومذهب مالك و الشافعي؛ لأنه لا نص في منع ذلك، ولا إجماع، ولا هو في معنى ذلك؛ لأنه لا يمنع الاقتداء، فإن المؤثر في ذلك ما يمنع الرؤية أو سماع الصوت، وليس هذا بواحد منها. وقولهم: إن بينهما ما ليس بمحل للصلاة فأشبه ما يمنع وإن سلّمنا ذلك في الطريق فلا يصح في النهر فإنه تصح الصلاة عليه في السفينة، وإذا كان جامدًا، ثم كونه ليس بمحل للصلاة، إنما يمنع الصلاة فيه أما المنع من الاقتداء بالإمام فتحكُّم محض لا يلزم المصير إليه ولا العمل به". [المغني 2/ 39]. 

ولا أراه سليمًا الاعتراض على الجواز بالقول إن الاقتداء هيئة عبادية توقيفية وردت فيُقتصر عليها، وذلك لأن هذه المسألة فيما نرى داخلة في معنى ما ورد النص بجوازه من جواز اقتداء المجاور للمسجد بجماعة المسجد إذا علم بانتقالات الإمام، فصارات كدخول الأرز في معنى الشعير والتمر الوارد الإخراج منه في صدقة الفطر. وأما استخدام بث الصوت أو الصورة فهو وسيلة حادثة لا أثر لها في الحكم، تماما كاستعمال مكبرات الصوت التي لم تكن قديما لا أثر لها في جواز اقتداء المجاور أو عدمه، والوسائل يُغتفر فيها ما لا يغتفر في المقاصد، على أن وسيلة البث الصوتي والمرئي أكثر إفضاء إلى مقصد الجماعة من مجرد الاعتماد على سماع المجاور صوت الانتقالات كما فعلت عائشة رضي الله عنها وغيرها في زمن النص. والله أعلم.

الأحد، 5 أبريل 2020

أسباب تغوّل أهل الألفاظ والظواهر على أهل التعليل والمقاصد


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:
فرغم الأهميَّة الكُبرى التي يحظى بها التّعليل في تسديد الاجتهاد وامتثال الحكم (كما أوضحنا ذلك بالتفصيل في بحثنا "فوائد تعليل الاحكام")، فإنّ المتابع للسِّجالات الفقهية والردود العلمية في مطبوعات الكتب وعلى صفحات الإنترنت ومنتديات الفقه والحديث والتفسير، في زمننا هذا، يتجلّى له تغوُّلٌ وتعالٍ لأصحاب مدرسة الألفاظ والظواهر، باختلاف درجاتهم، على أصحاب مدرسة المعاني والتعليل والمقاصد. ومَرَدُّ ذلك، في نظري، إلى أمور: 

منها: ضعف الملكة الفقهيّة في هذه الأعصار عمومًا، وارتفاع العلم وذهاب العلماء والفقهاء، وظهور الخطباء والمغرّدين والوعَّاظ والقُصَّاص بدلًا من العلماء، كما قال، صلى الله عليه وسلم: «إنّكم اليوم في زمان كثيرٌ علماؤه قليلٌ خطباؤه، من ترك عُشْر ما يَعرف فقد هوى، ويأتي من بعدُ زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليلٌ علماؤه، من استمسك بعشر ما يعرف فقد نجا»([1]). وحيث وُجِدت الضَّحالة العلمية، وقلَّ التبحُّر، كان التشبُّثُ باللفظ أكثرَ من المعنى، وبجزئيّات الأدلَّة دون كلّياتها؛ لأنَّ اللفظ قريبٌ وبَيِّن، والمعنى بعيد وعميق، واللفظيُّ أكثر أمنًا، وأقلُّ مخاطرة، والمعنويّ بخلافه. 

ومنها: فورة علم الحديث في هذه الأعصار، وطباعة كثير من كتبه، وتيسُّرُ إتقان صناعة نقد الأسانيد وتخريج الأحاديث نسبيًّا، بسبب ما وفَّرته الفهارس العلمية، ومنحته أجهزة الكمبيوتر، من قدرة على تتبُّع النصوص، والبحث فيها وعنها، بسهولة، ودون كلفة مادّية أو بدنية تُذكر. والمشتغلون بالحديث، وأصحاب المدرسة الحديثية، هم، في أكثرهم، وفي الغالب من أحوالهم، أقرب إلى مدرسة اللفظ منهم إلى مدرسة المعنى([2]). 

ومنها: ضعف مدارس التقليد المذهبي، وبروز اتّجاه التّرجيح واتِّباع الدّليل، وكثيرٌ من دعاة هذا الاتجاه وأنصاره ومُتَّبعيه، ولا أُعمِّم، أكثر قربًا إلى اللفظ منهم إلى المعنى بسبب ضعف الملكات العلمية الاستنباطية لدى قطاعٍ عريض منهم، وكثرة المشتغلين منهم بالحديث ونقد الأسانيد، وتأثُّرهم بأساطين مدرسة اتِّباع الدّليل من المتأخِّرين كالشّوكاني والألباني وتلامذته، وهم ممّن يغلب عليهم اتّباع ظواهر الألفاظ في الجُملة. 

ومنها: دخول كثير من المغرضين من عَلمانيين، ومِمَّن يُدعون مُفكِّرين، وأكاديميين سطحيين، وعلماء سلاطين، في باب «المقاصد». وهؤلاء يُحسب أكثرُهم ظُلمًا على أهل المعاني رغم كون أكثرهم خِلوًا من أدوات الاجتهاد تقريبًا، ويصيرون إلى أفكارٍ وفتاوى يزعمون أنَّها تستند إلى المقاصد ثمَّ يظهر ضعفهم في الدّفاع عنها عند السِّجال الفقهي والمناظرة، بسبب ضعفهم التحصيلي، وانحطاط مكانتهم في علوم الشرع، ممّا شَوَّه الاتجاه المقاصدي برمّته. 

_____________________________

([1]) عزاه الألباني للهروي في ذم الكلام (1/14 - 15)، ولأحمد في المسند (5/155)، وللبخاري في التاريخ (1/ 2/374)، من طرق عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا. وقال في أحد أسانيده: صحيح الإسناد رجاله كلهم ثقات غير الحجاج بن أبي زياد، وهو ثقة كما قال أحمد وابن معين، ثم الذهبي. ينظر: الصحيحة للألباني 6/40، حديث رقم (2510). 


([2]) ينظر: أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه، للمؤلِّف، مجلة الأحمدية، عدد 28، 1434هـ، 2013م.

الثلاثاء، 18 فبراير 2020

واقع التّجديد الفقهي المعاصر وتقييمه

مرّ الفقه الإسلامي بعد وفاة، النبي، صلى الله عليه وسلم، بأدوار عدّة يتفاوت كُتّاب تاريخ الفقه في عَدِّها وتسميتها. ويمكنني أن أحصرها في ثلاثة أدوار رئيسة وأختار لها الأسماء الآتية: 

1. دور الاجتهاد وانتشار الفقه. 

2. دور التقليد المذهبي وتحرير الفقه. 

3. دور انحسار التقليد المذهبي وإقصاء الفقه.

الأوّل: دور الاجتهاد وانتشار الفقه: ويمتدّ منذ عصر الصحابة، رضوان الله عليهم، إلى نهاية ظهور أئمّة الاجتهاد المطلق أواسط القرن الثالث الهجري تقريبًا، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأقرانهم من أئمّة الأمصار كسفيان والليث والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وداود ونحوهم، رحم الله الجميع. وهذا هو العصر الذهبي للفقه.

الثّاني: دور التقليد المذهبي وتحرير الفقه: ويمتدّ منذ بدء تشكُّل المدارس المذهبية أواسط القرن الثالث الهجري إلى ما قبل عهد سقوط الخلافة العثمانية والاحتلال الأجنبي لأكثر دول المسلمين في أواسط القرن الرابع عشر الهجري/ نهاية الربع الأول من القرن العشرين الميلادي.

وفي هذا الدور تشكّلت المدارس الفقهيّة المذهبيّة الأربعة واستقرّت شيئًا فشيئًا، وتُرك الاجتهاد المطلق، ولم يُسلَّم به لمن ادّعاه، بينما ازدهر «الاجتهاد المذهبي» بتحرير أقوال أئمّة الاجتهاد وأصحابهم والتخريج عليها، إلى أن بدأ يضمحلّ هذا النوع من الاجتهاد في أواخر هذا الدور. قال ابن خلدون (ت 808هـ) رحمه الله: 

«ووقف التّقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودَرَسَ المقلِّدون لمن سواهم. وسدّ النّاسُ باب الخلاف وطرقه لـمَّا كثر تشعّب الاصطلاحات في العلوم، ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه، فصرّحوا بالعجز والإعواز، وردّوا النّاس إلى تقليد هؤلاء كلُّ من اختصّ به من المقلّدين، وحظروا أن يُتداوَل تقليدُهم لما فيه من التّلاعب، ولم يبق إلّا نقل مذاهبهم، وعَمَلُ كلِّ مقلّد بمذهب من قلّده منهم بعد تصحيح الأصول واتّصال سندها بالرّواية. لا محصول اليوم للفقه غير هذا. ومدّعي الاجتهاد لهذا العهد مردودٌ على عقبه، مهجورٌ تقليدُه، وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمّة الأربعة»([1]). 

الثّالث: دور انحسار التقليد المذهبي وإقصاء الفقه: ويمتدّ منذ سقوط الخلافة العثمانيّة والاحتلال الأجنبي لأكثر دول المسلمين في أواسط القرن الرابع عشر الهجري/ نهاية الربع الأول من القرن العشرين الميلادي إلى الآن.

وقد ميَّز هذا الدور أمورٌ ثلاثة:

أحدها: إلغاء تطبيق الشريعة والفقه الإسلامي في معظم دول المسلمين وإحلال القوانين الوضعيّة مكانها. وقد كان هذا - ولا يزال - من أعظم القواصم التي ضربت الفقه الإسلامي على مرّ التاريخ فأصابته في مقتل، بأن أدّت إلى وقفه عن النموّ في المجالات العامّة، وعزله عن تسيير شؤون الحياة في أكثر نواحيها.

والأمر الثاني الذي ميّز هذا الدور: انتشار التعليم النظامي غير الشرعي، وشدّة إقبال النّاس عليه، وتأخُّر مكانة التّعليم الشرعي، ومنه تعليم الفقه، إلى مراتب متأخِّرة في سلّم الاهتمام في أكثر المجتمعات الإسلاميّة.

والأمر الثالث: انحسار التقليد المذهبي المغلَق شيئًا فشيئًا، وبروز ظاهرة الاجتهاد الجزئي المستقلّ الفردي والجماعي، في المسائل القديمة والحادثة على حدٍّ سواء، والقبول العام للتقنين الملفّق من آراء المذاهب الأربعة وغيرها. وهذا كان لأسباب كثيرة. من أهمّها: 

1. تخلي السلطة السياسيّة عن تبنّي الفقه المذهبي الذي كانت له الهيمنة سابقًا في القضاء، واستبداله بالقوانين الوضعية أو القوانين الملفّقة من المذاهب.

2. ضعْف - ثمّ انتهاء - اعتماد مُدرِّسي الفقه في أرزاقهم على الوقف المذهبي في مراكز التعليم وتولّي الدولة الحديثة لذلك.

3. جمود الفقه المذهبي نفسه وتوقّفه عن النموّ الداخلي بالتخريج والترجيح منذ أواخر الدّولة العثمانيّة، ممّا جعله عاجزًا عن استيعاب المحدثات.

4. اشتداد دعوات نبذ التقليد المذهبي - ولا سيّما المغلق - من جهتين: إحداهما: الاتجاه الإصلاحي ورموزه مثل محمد عبده ومحمد رشيد رضا. والجهة الأخرى: الاتجاه السّلفي، كالحركة الوهابيّة وجماعة إحياء السنّة المحمّديّة وغيرهم. وقد كان أنصار التمذهب يدركون مدى تأثير هذه الدعوات في إضعاف المذهبية كما يدل عليه ما رُوي عن عبد العزيز العلجي المالكي (ت 1362هـ) أحد أنصار المذهبيّة أنّه عندما كان يأتي في دروسه على ذكر السّيّد صدّيق حسن خان القنّوجي - ممثِّلا للمدرسة السّلفية - والشيخ محمد رشید رضا - ممثِّلا للمدرسة العقلانية أو الإصلاحيّة - يقول عنهما: «إنّ الأول - يعني صديق حسن خان - فتح ثغرةً في جدار الإسلام [؟!]، والآخر - يعني محمد رشید رضا - دخل بجيوشه»([2])؟!

5. بَدْءُ التأليف في تاريخ الفقه على نحوٍ مستقلٍّ على يدي الشيخين محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي (ت ۱۳۷۹ه) وقد فرغ من تأليف جلّ كتابه «الفكر السامي في تاریخ الفقه الإسلامي» في سنة ۱۳۳۹هـ/ ۱۹۱۸م، والشيخ محمد الخضري بك (ت 1395ه) في كتابه «تاريخ التشريع الإسلامي» الذي صدر عام 1341هـ/۱۹۲۰م([3]). وقد أثَّر هذان الكتابان في غالب الكتب التي كُتبت بعدهما في تاريخ الفقه. وفي الكتابين نقدٌ مرير للجمود المذهبي الذي آل إليه حال الفقه في أواخر عصر التقليد، ودعوةٌ قويّة إلى تجديد الفقه وإحيائه بالاجتهاد، وإلى استبدال المؤلّفات المذهبية التقليديّة بالتأليف العصري، فتوارث كُتّاب تاريخ الفقه - الذين صارت تُدرّس كتبهم مداخلًا للفقه في معظم مراكز التعليم الفقهي في العصر الحديث - نقدَ عصر التقليد عن هذين الكتابين، ممّا ولد نظرة سلبية لدى غالب متعلمي الفقه في هذه الأعصار تجاه الجمودِ على التقليد المذهبي، وتجاه القولِ بسدّ باب الاجتهاد.

6. نشوء المدارس والكُّلّيّات والجامعات الشرعيّة الحديثة التي تتبنى في أكثرها أنظمة معاصرة غير تراثيّة في إدارة التعليم تحدِّد مُددًا زمنية قصيرة للدراسة، لا تتناسب مع تدريس الفقه في صورته المذهبية المتسلسلة في مستوياتها من المتن المختصر إلى الوسيط وأخيرًا الموسّع.

تقييم التجديد الفقهي في الوقت المعاصر

رائدا الكتابة استقلالًا في تاريخ الفقه الشيخان الحجوي والخضري لم يرصدا في تحقيبهما لتاريخ الفقه دورَه الأخير/المعاصر، الذي بات يُعرف في كثير من كتب تاريخ الفقه بعدهما بدور "النهضة الفقهية"، وذلك لأنّ هذا الدور لم يكن قد بدأ في زمنهما بعد. وقد عدلنا عن تسمية هذا الدور بـ "النهضة الفقهية" إلى تسميته بدور "انحسار التقليد وإقصاء الفقه"، في التحقيب الذي ذكرناه آنفًا، إشعارًا بعدم الرضا عن وصفه بدور «النّهضة الفقهيّة» لما في ذلك من مبالغة مفرطة من وجهة نظرنا؛ إذ كما اعترت الفقه مظاهر إيجابيّة في هذا الدور فقد اعترته أخرى سلبية تكاد تعادل في خطورتها المظاهر الإيجابيّة أو ربّما تربو عليها. 

فمن أهمّ المظاهر الإيجابيّة ما يأتي:

1. اضمحلال التعصُّب المذهبي الذي لطّخت آثارُه السّلبيّة عصورَ التقليد ولاسيّما المتأخّر منها؛ «إذ أصبح الانفتاح على المذاهب جميعًا من سمات الفقيه المعاصر» كما يقول الشيخ مصطفى الزرقا، رحمه الله([4]).

2. تقنين الفقه من غير التقيُّد بمذهب معيّن، ولاسيّما في مجال الأسرة، في كثير من البلاد الإسلامية. وهذا - فضلًا عن توحيد المرجعيّة القضائيّة في البلد الواحد - أعطى الفقه مرونةً أكبر في استيعاب مستجدّات الحياة وتنظيمها بحسب ما تقتضيه المصالح، مع عدم التفريط بالانضباط القضائي الذي كان يضمنه الالتزام المذهبي قبل التقنين.

3. انتشار الدّراسات المتخصِّصة (الجزئيّة) المقارنة، سواء بين المذاهب الفقهيّة نفسها، أو بينها وبين القوانين الوضعيّة.

4. انتشار الدّراسات التي تبحث في تاريخ الفقه والعوامل المؤثّرة فيه، وكيفيّة تجديده، الأمر الذي شكّل فرعًا جديدًا من العلوم الفقهيّة يمكن تسميته بـ «فلسفة الفقه» على غرار العلوم الأخرى.

5. تحقيق مخطوطات فقهيّة كثيرة وطباعتها، ولاسيّما كتب المتقدّمين من الفقهاء. 

6. زيادة الاهتمام بعلم أصول الفقه تعليمًا وتأليفًا.

7. ظهور فروع جديدة من العلوم الفقهيّة وانتعاشها تأليفًا واهتمامًا وأخصّ بالذكر علم مقاصد الشريعة.

8. تحديث أشكال التأليف الفقهي كالتأليف الموسوعي المعجمي وتنظير الفقه.

9. ظهور البرامج الحاسوبية التي خدمت علوم الشريعة بعامّة ومنها الفقه، وقرّبتها لطلبة العلم والباحثين، ويسرت تعاملهم مع كتب الفقه من حيث سهولة اقتنائها، ويسر كلفتها، وسرعة الوصول إلى المعلومة فيها.

10. انتشار الاجتهاد الجزئي في تناول المستجدّات العصرية وإعادة الاجتهاد في مسائل قديمة في ضوء المعطيات العصرية.

11. إحياء طريقة الاجتهاد الجماعي عن طريق العمل المؤسّسي وعقد الندوات والمؤتمرات، وهذا لم يكن متيسّرًا فيما مضى. 

12. جسر الهوة بين علم الفقه وعلم الحديث إلى حدٍّ بعيد حتى أضحت الدراسات الفقهيّة المعاصرة تتجنّب الاعتماد في الاستدلال على الأحاديث الموضوعة والواهية، وتهتم بتخريج الحديث وبيان درجته من الصّحّة والحسن والضعف.

ومن أهم المظاهر السّلبية:

1. وهو أهمّ هذه المظاهر: إقصاء الفقه عن تنظيم الحياة واستبداله بالقوانين الوضعية في أكثر بلاد المسلمين كليًّا أو جزئيًّا، ممّا جعل الفقه لا ينمو ولا ينتعش في المجالات التي نظّمها القانون الوضعي، كمجال القانون الجنائي والتجاري والدستوري والإداري والقضائي ونحو ذلك.

2. قلّة إقبال طلبة العلم المميّزين ذكاءً واجتهادًا على دراسة الفقه - والعلومِ الشرعيّة بعامّة - في أكثر البلاد الإسلاميّة، وانصرافُهم إلى دراسة العلوم الدنيويّة التي تبوّأت مركز الصّدارة في الاهتمام، بسبب وفرة الوظائف لها، وارتفاع العائد المادّي من ورائها، بينما احتلّت علوم الشريعة مراتب متأخِّرة إن لم تكن الأخيرة. وهذا أدّى إلى أن يشتغل بالعلوم الشرعيّة في الغالب الضعفاء - أو ربّما المتوسطون - من الطلبة من حيث الموهبة العقليّة، والقدرة على المثابرة في التحصيل العلمي. ومن ثَمَّ ضعُف الإبداع في وسط المشتغلين بالفقه رغم كثرتهم، وبدا الضعف واضحًا في مخرجاتهم العلميّة من بحوث ورسائل ومؤلّفات إلا من شذّ منهم.

3. ضعف التعليم الشرعي ومخرجاته مقارنة بالعصور الماضية بما فيها عصور التقليد المتأخّرة، رغم كل مظاهر التطوّر التي أُدخلت على التعليم الشرعي من حيث حداثة المؤلّفات ووسائل التدريس. وقد رصدنا في دراسة مفصّلة([5]) سببين رئيسين لذلك: هما: الأول: قلة إقبال الأذكياء من الطلبة على دراسة العلوم الشرعيّة، كما أشرنا إليه في النقطة السابقة، والسبب الثاني: سوء مناهج التعليم وطرق التدريس، ولسوء المناهج مناحي كثيرة بينّاها في الدراسة المذكورة. يقول الشيخ علي الطنطاوي (ت1420هـ)، رحمه الله، الذي شهد تحوّل الأزهر من النظام التعليمي القديم إلى الحديث: 

«أمَّا التعليم الدّيني فلنعد فيه إلى مثل الطريقة الأزهريّة الأولى مع إصلاحٍ يسير فيها، فقد ثبت أنّها أنفع وأجدى، دنيا وأخرى، وأنَّ تلك الثورة عليها حتّى تمّ العدول عنها، والقضاء على الجامعة الأزهريّة، كان فيها إغراقٌ أدركناه الآن. وأنا أعرف الأزهر الجديد وأعرف كلِّيَّاتٍ ثلاثًا أُنشئت على غراره في دمشق وبغداد وبيروت عَمِلت فيها كلِّها، وأشهد لله شهادةَ حقّ أنَّ الأزهر القديم كان في الجُملَة خيرًا منها؛ إذ كان أهله يطلبون العلم لله وللعلم، فصار أهلها يطلبونه للشّهادات والوظائف، وكانوا يصبرون على تلك الحواشي المطوَّلات وإن تكن عقيمات، فصار هؤلاء لا يقرؤون إلا خلاصات يجوزون بها الامتحانات. وكانوا علماء عاملين لدينهم أهل تقىً وورع في سمتهم وسلوكهم، وسرّهم وعلنهم، فصار بعض المدرِّسين وأكثر التلاميذ، صاروا على حالٍ من عَرفها فقد عرفها، ومن جهِلها فلا يسأل عن الخبر»([6]).

4. فوضى الإفتاء والاجتهاد وكثرة المتقحّمين أسوار الشريعة على نحو لم يكن يحدث من قبل، حتّى صار يتكلّم في الشريعة والفقه والفتوى الفلاسفة والأدباء والمبتدئون في العلم وغير المؤهّلين. ولهذه الظاهرة أسباب: من أهمّها: إهمال أكثر الدول الحديثة الشريعةَ، وتهاونُها في صيانتها؛ ولذلك لم تعتن بزجر من ليس أهلا للإفتاء والاجتهاد أن يفتي ويجتهد في أمور الدين. ومنها: انحسار التقليد المذهبي في هذا العصر ممّا أدّى إلى تجرؤ كثيرين على الاجتهاد وهم ليسوا له بأهل. ومنها: سهولة نشر الأفكار في هذا العصر مقارنة بالعصور السالفة بفضل وسائل الاتصال الحديثة، ولاسيّما الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

فلهذه المظاهر السلبية، وغيرها، لا يَسْلم وصفُ هذا العصر بأنّه عصر تجديد فقهي ونهضة فقهيّة من مبالغة، ولا سيّما أنّ التجديد يعني، في أكثر ما يعنيه، نشرَ التطبيق والالتزام والاهتمام بأحكام الفقه، وهذا العصر من هذه الناحية هو أبعد العصور عن تطبيق الفقه وتعليمه للعامّة على مرّ التاريخ الإسلامي كلّه.

ومن هنا فإنّ قول بعضهم: إنّ الفقه الإسلامي يعاني أزمةً في هذا العصر إن كان يقصد به عدم قدرة الفقهاء المعاصرين على مواكبة المستجدات وعقم الفقه عن استيعابها فهذا من أبطل الكلام، وإن كان يقصد به ابتعاد الفقه عن الحياة والتطبيق والتعليم في أكثر الدول الحديثة فهذا حقٌّ لا يُنكر. 

فأزمة الفقه في هذا الزمان هي أزمة تنفيذ لا أزمة توليد، وأزمة توزيع لا أزمة إنتاج، وأزمة إبعاد لا أزمة اجتهاد. يقول الشيخ البوطي، رحمه الله، في جواب على السؤال: «لماذا لا يقدِّم المسلمون نموذجًا مثاليًّا للاقتصاد والسياسة وما إلى ذلك تسير الأمّة عليه؟»:

«النموذج موجود، لكن موضوع على الرّفوف...النموذج موجود، لكن مع الأسف غير مطبَّق، فيمكن أن يكون السؤال بشكل آخر: لماذا لا تكون الأحكام والمبادئ والشرائع الإسلاميّة التي تتكفَّل بحل مشاكل المسلمين موضع حدّ التنفيذ؟ هذا السؤال بهذا الشكل وارد. نقول: في هذه الحالة؛ لأنّ قادة المسلمين أكثرهم موظّفون لدى القوى الكبرى التي تفرض منهجًا معيّنًا على عالمنا العربي والإسلامي، ولأن ّكثرة كاثرة من النّاس في مجتمعاتنا، سواء كانوا قادة أو شعوبًا غير مقتنعين - رغم أنّهم مسلمون - غير مقتنعين بالحلول الإسلاميّة الموجودة على الرفوف، هذا هو السّبب»([7]).

بقي أن نشير إلى أنّ الدّول المستعمِرة (المحتلّة) لأكثر الدول الإسلامية في أواخر عهد الدولة العثمانيّة ساهمت كثيرًا، عن طريق جيشها الناعم من المستشرقين، في ترويج مقولة جمود الفقه وعقم الشريعة ليقنعوا السياسيين والمثقفين من المسلمين بنبذ الفقه وتبني القوانين الغربية في الحكم كما يوضِّح ذلك وائل حلاق في كتابه عن السلطة المذهبية([8]).

[المقال مقتبس من: أيمن صالح، صناعة التجديد الفقهي، فصل في كتاب صناعة التفكير الفقهي، صدر عن مركز تكوين للدراسات والنشر، لندن، 2019م/1440هـ، ص325-381].

________________________________________________
([1]) تاريخ ابن خلدون، ابن خلدون، 1/566.

([2]) المناهج الفقهية المعاصرة: عرض وتحليل، العرفج، 25.

([3]) فقه تاريخ الفقه، الرومي، 76.

([4]) فتاوى مصطفى الزرقا، الزرقا، 370.

([5]) "ضعف خريجي كليات الدراسات الشرعية: أهم الأسباب والحلول الممكنة في ضوء أدبيات التعليم في تراثنا التربوي"، صالح، 10.

([6]) "أسلوب جديد في التعليم". الطنطاوي. مجلة الرسالة، عدد 655 (1946هـ/1365م).

([7]) "الإحياء والتجديد في الإسلام في نظر الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي"، تمورتاش. https://www.naseemalsham.com/ar/Pages.php?page=readviestor&pg_id=55752&page1=1.

([8]) السلطة المذهبية التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي، حلاق، 8.

السبت، 25 يناير 2020

عناوين مقترحة لبحوث أو رسائل في الفقه وأصوله


  1. مخالفات ابن رشد للغزالي: جمع ودراسة
  2. أصول الفقه المتفق عليها بين المذاهب الأربعة
  3. أصول الفقه المختلف فيها بين المذاهب الأربعة
  4. أصول الفقه عند ابن رشد الجد (أشار إلى كثير منها في كتابه المقدمات الممهدات)
  5. مناحي التجديد في أصول الفقه عند ابن الوزير
  6. القيود التي قيل إنها خرجت مخرج الغالب في آيات وأحاديث الأحكام: جمع ودراسة
  7. ما اجتمع عليه الخلفاء الراشدون من الاحكام مما لا نص فيه: جمع ودراسة
  8. فقه عيسى بن أبان وأثره في الفقه الحنفي (هناك رسالة حول آرائه الأصولية)
  9. تعذيب الإنسان والحيوان في الفقه الإسلامي والقانون: دراسة مقارنة
  10. استدراكات حلولو المالكي على القرافي في شرح التنقيح
  11. المسائل الأصولية المتعلقة بالعدد في خطاب الشارع وتطبيقاتها

الخميس، 19 ديسمبر 2019

قاعدة مهمّة في طلب العلم: خمسة أسباب ترجِّح الرّضى بعدم الفهم على تطلُّب الفهم


أو بعبارة أخرى: خذ ما تفهم الآن، ودع عنك ما يصعب فهمُه إلى حينه. 

يجهد بعض المتعلِّمين في محاولة فهم كلّ كبيرة وصغيرة في الدرس الذي يسمعه، أو الكتاب الذي يقرؤه، ظانًّا أنّ هذه هي سبيل التعلُّم الأمثل. وهذا لو تُؤمِّل لوُجِد ضارًّا بحال أكثر المتعلِّمين لأسباب عدّة: 

أولًا: أنّه يؤخِّر التقدُّم في التعلُّم كثيرًا، ويطوِّل سبيله؛ إذ بعض المسائل أو الأفكار أو الأقوال قد تحتاج إلى ساعات أو أيام أو أسابيع أو حتى شهور، من الجهد والبحث والسؤال لأهل الاختصاص حتى تُفهم حقّ الفهم على مراد واضعيها. ومَثَلُ الواقف عند هذه المسائل في الوصول إلى الغرض من العلم المدروس أو الكتاب المقروء، ومَثَل المعرِض عنها، كمثل السلحفاة والأرنب إذا تسابقا من غير أن ينام الأرنب في الطريق. 

السبب الثاني: أنّ فهم مثل هذه المسائل غالبًا ما يعتمد على فهم مسائل أخرى تمهيدية لم يمرّ بها المتعلم بعدُ بسبب ضَعف طُرُق التعليم لعدم مراعاتها مبدأَ تدرُّج المسائل والعلوم، كما هو الحال في أكثر الجامعات التي تدرِّس بنظام الساعات، أو بسبب سوءِ وضع الكتاب المقروء واختلال ترتيبه، ولكنّ المتعلِّم سيمرّ بهذه المسائل التمهيدية لاحقًا في الدروس، أو فيما يستقبله من فصول الكتاب. وعليه، فكثير من المعضلات التي قد يواجهها طالب العلم في مُبتدَأ حضور الدروس، أو مستهلّ الخوض في دراسة علم من العلوم، أو كتاب من الكتب، تنكشف له شيئًا فشيئًا مع تقدُّمه في الدروس أو مضيه في القراءة، أي أنّه سيفهمها بأثرٍ رجعي، دون الحاجة إلى بذل كثير من الجهد ابتداءً. 

السبب الثالث: أنّ محاولة المتعلِّم فهمَ كلِّ كبيرة وصغيرة يورثه الملال نظرًا للمشقة التي يجدها في ذلك، ولاسيما إذا لم يجد من يسعفه بالشرح والتفهيم عاجلًا. وهذا من شأنه أن يُقلِّل من مستوى حماسه ودافعيته للتعلُّم بمرور الوقت، وغالبًا ما يؤدي به إلى الانقطاع عن التعلم أو عن قراءة الكتاب بعد أن كان متحمِّسا لذلك منذ البداية. 

السبب الرابع: أنّ التوقُّف عند هذه المسائل بحثًا عمّا - أو عمّن - يشرحها ويُفهمُها يقطع تتابع العلم، ويشتِّت الطالب، وزملاءه في الدرس، ويُزعج المعلِّم، ويصرف عن مواصلة قراءة الكتاب. وداءُ العِلم تركُ المتابعة والمولاة وفقدُ التركيز بالانصراف إلى غير ما المتعلم بصدده من واضح المسائل التي هي جوهر العلم ومعظمُه، إلى معلِّم آخر يسأله، أو كتاب آخر يطرقُه، أو متصفِّحٍ إنترنتيٍّ يُجوجله. وتركُ الموالاة إذا كان مُفسدًا الوضوءَ والصّلاةَ قاطعا لهما فإنّه لبناء العلم أفسد وعنه أقطع. 

السبب الخامس: أنّ كثيرًا ممّا يوقف عنده كثيرًا لصعوبته وإشكاله في الدروس والكتب ولاسيما كتب أصول الفقه، يكون متعلِّقًا بفكرة هامشية غير ذات جدوى في العلم، أو مجرّد استطراد في علم آخر، كالمنطق أو الكلام، أو متعلِّقًا بفكّ عبارة لماتنٍ أو شارحٍ أو مُحشٍّ لم يحسن صوغَها، أو تكون مصحّفة في نسخها أو طباعتها. ولو وُزِنت الفائدة المجتناة من فهم مثل هذه المسائل، وحلِّ هذه الإشكالات بالتعب المبذول في فهمها وحلِّها الذي لو صُرف في فهم مسائل أخرى يسيرة الفهم ولكنها ذات أهمية وأثر في تحصيل ثمرة العلم أو حَوْز زبدة الكتاب المدروس، لكانت هذه الفائدة تافهة بل في غاية التفاهة. فالكسب العلمي أو النفسي الذي يُتحصَّل عليه مَنْ فَهِم هذه المسائل، وحَلّ هذه الإشكالات، لا ينبغي أن يُنظر إليه بمعزل عن الخسارة التي نتجت عن ضياع الجهد والوقت ومن ثم فوات تحصيل مكاسب أخرى أهم. وهو ما يُطلق عليه في علوم الاقتصاد والمال: "الفرصة الضائعة". 

والخلاصة: لا تهتمَّ كثيرًا بما يفوتك فهمُه في درسٍ تحضره، أو كتابٍ تقرؤه، إذا كان المفهومُ عندك من هذا الدرس أو هذا الكتاب أكثر من غير المفهوم، أو كان غير المفهوم هامشيًا؛ وإذا اضطررت إلى قراءة كتب المتأخّرين - ولا أنصح بها - فاقتصر على الشرح ولا تلتفت إلى الحواشي، لأنّه سياتي عليك وقتٌ تفهم فيه ما فاتك فهمه إذا قطعت شوطًا في العلم ورسخت قدمك فيه. وخذ بما قاله تعالى في توجيه المؤمنين في كيفية التعامل مع المتشابهات: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي فاشتغل بهنّ عِلمًا وعملًا {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فاتركهن الآن؛ لأنّه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فقاصد فهم ما لم يتأهّل بعدُ لفهمه زائغٌ ضلَّ الطريق؛ لأنّه إمّا أن يكون باغيًا الفتنة بترويج تأويله الخطأ وفهمه السقيم متابعةً للهوى لا للحقّ، وإمّا جاهلًا يريد أن يتزبَّب قبل أن يتحصرم. فهذه المتشابهات لا يعلمها حقّ العلم إلا قائلها سبحانه وتعالى، ثمَّ من يتركها حتى يرسخ في العلم فيفتح الله عليها بفهمها على وجهها ليكون من الذين {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[آل عمران: 7]. وهذا على رأي من يجعل الوقف في الآية بعد عبارة "الراسخون في العلم" لا قبلها.

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

هل يُعذر المخطئ في اجتهاده في الأصول والفروع؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:
فإذا اجتهد شخص وُسْعَه في الوصول إلى الحق فأخطأه فهل يُعذر في اجتهاده هذا عند الله تعالى أو لا؟
يذكر الأصوليون هذه المسألة في باب الاجتهاد والتقليد من كتب الأصول. والمحكي فيها أقوال ثلاثة: طرفان وواسطة:

القول الأول: لا يُعذر من اجتهد فأخطأ الحق، سواء في مسائل الأصول أو الفروع. وهؤلاء هم "المؤثِّمة". ويُعزى هذا القول إلى بشر المريسي من المعتزلة وإلى الإمامية والظاهرية.

القول الثاني: يُعذر من اجتهد فأخطأ الحق، سواء في الأصول أم الفروع. وأصحاب هذا المذهب على طبقتين:

  • الأولى: خصوا ذلك بالمسلمين، ويعزى ذلك إلى عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي (قال ابن حبان: من سادات البصرة فقها وعلما توفي 168ه) ومما يُروى عن العنبري قوله في القدرية: "أنهم نزهوا الله" وفي الجبرية: "أنهم عظموا الله". ومال إلى رأيه هذا ابن تيمية. قال، رحمه الله (منهاج السنة النبوية 5/ 87): "والقول المحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري هذا معناه أنه كان لا يؤثِّم المخطئ من المجتهدين من هذه الأمة: لا في الأصول ولا في الفروع. وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي على عبيد الله هذا القول. وأما غير هؤلاء فيقول: هذا قول السلف وأئمة الفتوى، كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم، لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره. ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية، ويصححون الصلاة خلفهم. والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين، ولا يصلى خلفه. وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين: إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية".

    ويدل عليه أيضا قول ابن حزم، رحمه الله (الدرة فيما يجب اعتقاده ص414): "ومن بلغه الأمر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من طريق ثابتة، وهو مُسلِم، فتأول في خلافه إياه، أو ردَّ ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده على الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة ".

    وقال الشوكاني، رحمه الله: "اعلم أن ما صح عنه ﷺ من أن المصيب في اجتهاده له أجران وللمخطئ أجر لا يختص بمسائل العمل ولا يخرج عن مسائل الاعتقاد. فما يقوله كثير من الناس من الفرق بين المسائل الأصولية والفروعية، وتصويب المجتهدين في الفروع دون الأصول ليس على ما ينبغي بل الشريعة واحدة وأحكامها متحدة وإن تفاوتت باعتبار قطعية بعضها وظنية الآخر، فالحق عند الله عز وجل واحد متعين يستحق موافقة أجرين ويقال له مصيب، من الصواب ومن الإصابة، ويقال لمخالفه إنه مخطئ كما قال النبي ﷺ فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما  من حديث عمرو بن العاص إن اجتهد فأصلب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر".
  • والطبقة الثانية: جعلوا هذا عاما حتى في أهل الملل الأخرى غير المسلمين. ويعزى هذا الرأي إلى الجاحظ، ومال إليه الطوفي الحنبلي ومما قال، رحمه الله: (شرح مختصر الروضة 3/ 610): "هذا إلزام ألزم الناس الجاحظ به على مقالته، وهو أن يلزمه رفع الإثم والوعيد عن كل كافر؛ من منكري الصانع، والبعث والنبوات، واليهود والنصارى، وعبدة الأوثان الذين قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، لأن اجتهادهم هو الذي أداهم إلى ذلك. قوله: «وله منع أنهم استفرغوا»، إلى آخره. هذا الاعتذار للجاحظ عن هذا الإلزام. وتقريره: أن للجاحظ أن يمنع أن هؤلاء الكفار «استفرغوا الوسع في طلب الحق» ، أي: لا نسلم أنهم بذلوا المجهود المعتبر لمثلهم في مثل مطلوبهم، فكانوا مفرطين مقصرين، فكان «إثمهم على ترك الجد» والاجتهاد الواجب عليهم، لا على مجرد الخطأ، بل منهم من عاند مع اتضاح الحق له، كما أخبر الله، عز وجل، عن أهل الكتاب بقوله تعالى: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} وقوله، عز وجل: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}، فالكفار إذن طائفتان: معاند ومقصر في الاجتهاد، فعوقبوا لعنادهم وتقصيرهم، ونحن إنما نعذر من اجتهد غاية وسعه فلم يدرك وخلا عن العناد، فظهر الفرق. قلتُ: ومنذ خطر لي هذا الاعتذار عن الجاحظ، كان يغلب على ظني قوته، وإلى الآن والجمهور مصرون على الخلاف، ولا يتمشى لهم حال إلا على القول بتكليف المحال لغيره، وتساعدهم ظواهر النصوص، نحو قوله، عز وجل: {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار}، فتوعدهم بالنار على كفرهم، ولم يعذرهم بالخطأ، وعلى الآية اعتراضات لا تخفى. وبالجملة؛ الجمهور على خلاف الجاحظ، والعقل مائل إلى مذهبه".
القول الثالث: يُعذر من اجتهد فأخطأ الحق في الفروع دون الأصول. وهو القول المعزوّ إلى الجمهور، وبعضهم نقل فيه الإجماع!.
والله أعلم بالصواب.