(مقتبس من كتابي: التحقق من النسب بفحص البصمة الوراثية: نظرات فقهية جديدة)
إذا وقعت
الزوجة في الزّنى، أو ظُنّ غالبًا وقوعها فيه بالنظر إلى القرائن، ثمّ حملت حملًا
تيقّن الزوج، أو غلب على ظنّه، أنّه من الزاني، فقد شرع الإسلام له اللعان لكي
يتخلّص من نسب الولد.
واللعان شُرع في
الأصل درءًا لحدّ القذف عن الزوج استثناءً له من عموم القاذفين. وهذا واضحٌ من سبب
نزول آيات اللعان، حيث قال هلال بن أُميّة: «يا رسول الله، إذا رأى أحدُنا
على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البيّنة، فجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: "البيّنة
وإلا حدٌّ في ظهرك"، فقال هلال: والذي بعثك بالحقّ إنّي لصادق، فلينزلنّ الله
ما يبرِّئ ظهري من الحدّ، فنزل جبريل وأنزل عليه: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:
6] فقرأ حتّى بلغ: {إن كان من الصادقين} [النور: 9]»([1]).
وقال عويمر
العجلاني: «يا رسول الله رجلٌ وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه!
أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك»([2]).
ولأنّ النبي،
صلى الله عليه وسلم، أقرّ الملاعن على نفي ولده، بعد لعانه، وألحقه بأمّه، أخذ
العلماء أنّ من مقاصد اللعان أيضًا: دفعَ النّسب الفاسد، إذ لو سُدَّ هذا الباب لما
استطاع الزوج أن ينفي عنه نسبًا فاسدًا أدخله عليه رجلٌ هو بمثابة العدوّ له، لطَّخ
فراشه، وهتك عِرضه، ولأُجبر على النفقة على ولد هذا المعتدي، وتوريثه منه، والسّماح
بدخوله على محارمه. «وهذا من الحَرَج والضّرر الذي لا يجوز أن تُطلِقَ حِكمةُ
الربّ مثلَه، بفضله على عبادة وحسن نظره لهم. وكيف يأخذ الشرع ولد زنى فيضعُه في حِجر
إنسان ويُلحقُه به، ثمّ لا يجعل له سبيلًا في التخلّص منه؟! ولا قبحَ ولا فظاعةَ فوق
هذا، ولا نفرةَ في القلوب، ولا ضررَ في النفوس، أشدُّ من هذا»([3]).
وعلى هذين
المقصدين لِلِّعان اتّفق الفقهاء. قال ابن بَزِيزة التونسي: «انعقد
الإجماع على أنّه [أي اللعان] مشروعٌ لضرورة دفع النّسب، ونفيِ العقوبة المتوجِّهة
عليه [أي الزوج] بالقذف»([4]).
وقد أحاط
الفقهاء اللعان بشروطٍ اجتهاديّة كثيرة خشيةَ أن يتعسّف الأزواج باستعماله تهرّبًا
من تبعات الأولاد، أو انتقامًا من الزوجات وفضحًا لهنّ لأدنى حالات الشكّ:
فمثلًا اشترط
بعضهم لجواز اللعان رؤيةَ المرأة تزني، ولنفي الولد اشترطوا وقوع استبراء المرأة
قبل حادثة الزّنى وبعدها([5]).
واشترط آخرون أهليّة
المتلاعنين للشهادة، وقيام الزوجيّة الصحيحة حال اللعان، فلا لعان في نكاحٍ فاسد،
والمطلقةُ البائنة لو أتت بولد لمدّة الحمل، التي تمتدّ عندهم إلى سنتين، يُنسب إلى
الزوج ولا سبيل له إلى نفيه باللعان([6]).
واشترط جمهور
الفقهاء مبادرة الزوج إلى اللعان دون مهلةٍ فورَ علمه بالحمل أو الولادة، وانتفاءَ
ما يدلّ على إقراره بالحمل أو الولد([7]).
وهذه الشروط في
أكثرها معقولة مُتفهّمة في عصر الفقهاء، لأنّها تحفظ مصلحة الولد والأمّ، وتسدّ
الذريعة أمام تضييع الأنساب بالظّنون، ولاسيمّا مع ضعف الوازع الديني عند الناس
بمرور الزمن، وجرأتِهم على حلف أيمان اللعان دون وَجَلٍ أو تردّد في سبيل تحقيق
أغراضهم الفاسدة.
وأمّا في هذا
العصر فينبغي على أهل الفقه، قيامًا بواجب تجديد الاجتهاد، مراجعةُ هذه الشروط في
ضَوء الأُسس الكلّيّة الحاكمة لقضايا النّسب في الشريعة، وذلك لتغيّر الظروف المؤثّرة
في تقرير تلك الشروط من نواحٍ عدة، أهمّها ثلاثة:
أولًا: إمكانُ
التيقّن من انتساب الولد عضويًّا إلى الزوج من عدمه في هذا الزمن باكتشاف البصمة
الوراثيّة، وهذا لم يكن ممكنًا قبل ذلك إلا في أحوال خاصّة قليلة.
ثانيًا: ضعفُ
الوازع الديني عند الناس أكثر فأكثر هذه الأيام مقارنة بما كانوا عليه زمن الأئمّة
الفقهاء، وجرأتُهم الكبيرة على الحلف والشهادة إذا كان في ذلك تحقيقُ أغراضهم.
ثالثًا: تعطيلُ
تطبيق حدّي القذف والزّنى في أكثر البلدان الإسلاميّة إن لم يكن جميعها، مع أنّ
اللعان مشروعٌ في الأصل لدرء الحدّ.
وممّا نراه ينبغي
أن يُقرِّره الفقهاء فيما يَستجِدّ في شأن اللعان في هذا العصر أن يُقصَر تطبيقه على
الحالات التي يُحتاج فيها إلى درء العقوبة عن الزوجين، سواء أكانت العقوبة حدًّا
شرعيًّا في البلاد التي تُطبَّق فيها الحدود، أم تعزيرًا في البلاد التي عُطّلت فيها
الحدود. وأمّا تطبيقُه لغرض نفي النّسب فقد انتهى إلا حيث يتعذّر استعمال فحص
البصمة الوراثيّة، «وإنّما يُنفى النّسب باللعان، إذا لم يكن للانتفاء طريقٌ
آخر» كما قال الرافعي([8]). و«إذا
أمكن نفيٌ سوى اللعان، لم يجز اللعان؛ فإنّ اللعان حجّةُ ضرورة»،
كما قال إمام الحرمين([9]).
وهذا الانتهاء ليس
تعطيلًا لتشريعه، كما قد يبدو لبعض من لم يُنعِم النّظر في المسألة، وإنّما لفقد
شرط تطبيقه في نفي النّسب عند جمهور الفقهاء، إذ هم يشترطون للحُكم باللعان وجود
احتمال أنّ الولد من الزوج، وعليه لا يحكمون به في الحالات التي يُتيقَّن بدليلٍ
ظاهر من انتفاء كون الولد من الزوج، وإن وُلِد على فراشه، وذلك كأن:
1.
تأتي
الزوجة به لأقلّ أو أكثر من مدّة الحمل،
2.
أو يكون
الزوج فاقدًا القدرةَ على الإخصاب، كالصغير الذي لا يمني حتّى مع قدرته على الوطء،
وكالمعيب جنسيًّا بخصاء وجَبٍّ ونحو ذلك ممّا تنعدم معه، في العادة، القدرةُ على
الإمناء،
3.
أو تُوجد
قرائن ظاهرة (يمكن إثباتها أمام القضاء) يحصل معها القطع بانتفاء إمكان الجماع بين
الزوجين، كمن في المشرق يتزوّج ممّن في المغرب بالوكالة، ثمّ تأتي بولد، مع القطع
بعدم سفر أحدهما إلى الآخر. وكالرجل يتزوّج ثمّ يطلِّق في مجلس العقد بوجود الشهود،
وكمن يعلّق الطّلاق على الزواج – عند من يجيز تعليقه عليه – فيقول
للمرأة: "إن تزوّجتك فأنت طالق"، ثمّ يتزوّجها فتَطْلُقُ منه بمجرّد
زواجها، ثمّ تأتي بولد لمدّة الحمل بعد إجراء العقد.
قال
الشافعي، رحمه الله: «إذا أحاط العلمُ أنّ الولد ليس من الزوج فالولد منفيٌّ
عنه بلا لعان»([10]). وقال
إمام الحرمين: «إنّما يُلحَق النّسبُ الذي يُحتَمل تقديرُ علوقه من النّكاح،
فعند ذلك يُلحِقُ الفراشُ النّسبَ بصاحب الفراش، فلا ينتفي عنه من غير لعان. فأمّا
إذا زال إمكانُ العلوق في النّكاح، فالولد ينتفي من غير لعان»([11]). وقال
الماوَردي: «كلُّ ما استحال أن يكون منه امتنع أن يكون لاحقًا به، كزوجة
الصّغير، وكالمولود لأقلّ من ستّة أشهر»([12]). وقال
ابن حزم: «كلُّ من وُلِد على فراشه ولدٌ فهو ولدُه إلا حيث نفاه الله
تعالى على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم، أو حيث يُوقن بلا شكٍّ أنّه ليس هو ولده»([13]). وقال
القاضي عبد الوهاب: «إذا عقد على امرأته فأتت بولدٍ لا يمكن أن يكون منه لم
يلحق به...، دليلنا: أنّها أتت بولدٍ لا يمكن أن يكون منه، فوجب أن لا يلحق به، كالصّغير»([14]). وقال
ابن قدامة: «مَن وَلدت امرأتُه ولدًا لا يمكن كونه منه في النّكاح لم
يلحقه نسبُه، ولم يَحتجْ إلى نفيه؛ لأنّه يُعلم أنّه ليس منه فلم يلحقه، كما لو أتت
به عقيب نكاحه لها، وذلك مثل أن تأتي به لدون ستّة أشهر من حين تزوَّجها فلا يلحق به
في قول كلِّ من علمنا قوله من أهل العلم»([15]).
ولم يخالف في
هذا الأمر إلا أبو حنيفة، رحمه الله. وإنّما خالف في النوع الثالث من القرائن فقط،
فأثبت معها الولد للفراش ابتداءً، وأوجب على الزوج نفيه باللعان ديانة. وقد أوضحتُ
مذهبه سابقا([16]).