موضوع المطلق والمقيد موضوع دقيق للغاية وينبغي تحريره جيدا ، وهو ما قد يحوج الباحث إلى الخروج عن طريقة الطرح الأصولي المعتادة في كتب الأصول. وللوصول إلى تحرير مناسب في هذا الموضوع فإن لي الملاحظات الأربع الآتية؟
أولا: ما الفرق بين حمل المطلق على المقيد وحمل العام على الخاص؟ مع انتشار التمثيل بهما على السواء في هذا الباب عند الأصوليين متقدميهم والمتأخرين، كما في {حرمت عليكم الميتة والدم} و {إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا} مع أن "الدم" عام لا مطلق (اسم جنس) و"دما مسفوحا" أيضا عام مخصوص (نكرة في سياق النفي {قل لا أجد...الآية})، وكذا "في الغنم في أربعين شاة شاة" و"في سائمة الغنم زكاة"، فهذه الأمثلة المشهورة للمسألة وغيرها هي من قبيل حمل العام على الخاص لا المطلق على المقيد؟ فهل كان الأصوليون ـ سيما المتقدمين ـ لا يفرقون بين المطلق والعام والمقيد والخاص، بل يجرونهما مجرى واحدا؟ أم أن ما زعمه القرافي من تأثير الفرق بين الكلية والكلي في هذه المسألة صحيح؟ حيث إن حمل العام على الخاص الموافق له في الحكم يندرج في مسألة "إفراد بعض أفراد العام بالذكر" ـ والأكثرون على أن هذا ليس بمخصص خلافا لأبي ثور ـ ولا يصح التمثيل به على مسألة حمل المطلق والمقيد. وما أراه بادي الرأي في هذه المسألة أن حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد كليهما سواء، وأما مسألة إفراد بعض أفراد العام بالذكر، فهي حيث كان إفراد الخاص بالذكر لا مفهوم له (مفهوم لقب أو قيد غير معتبر) كما في مسألة "أيما إهاب دبغ فقط طهر" وقوله في شاة ميمونة "دباغها طهورها" فلا يصح حمل العام في الحديث الأول على مأكول اللحم فقط استدلالا حديث ميمونة ـ كما نسب لأبي ثور ـ لأن ذكر الشاة في الحديث الثاني (الخاص) مفهوم لقب فلا منافاة بين النصيين، وهذا بخلاف مسألة "في الغنم في أربعين شاة شاة" و"في سائمة الغنم زكاة"، لأن قيد السائمة في الحديث الثاني له مفهوم يدل على نفي الزكاة عما عدا السائمة (مفهوم صفة) وهو يعارض عموم النص الأول فيخصصه. قال السبكي في رفع الحاجب (3 / 351):
إذا أفرد الشارع فردا من أفراد العام بالذكر ، وحكم عليه بما حكم على العام لم يخصصه ؛ ' خلافا لأبي ثور ، مثل ' ما في صحيح مسلم من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أيما إهاب دبغ فقد طهر ' ، وقوله عليه السلام في شاة ميمونة : ' دباغها طهورها ' الشرح : ' لنا ' : أن المخصص لا بد أن يكون بينه وبين العام تعارض ، و ' لا تعارض 'بين الكل والبعض في الحكم إذا حكم عليهما بحكم واحد ، ' فليعمل بهما ' .وأبو ثور ومتابعوه ' قالوا ' : مفهوم تخصيص الفرد بالذكر كما في : ' دباغها طهورها 'نفى الحكم عن المخالف ، و ' المفهوم يخصص العموم ' .' قلنا ' إنما يخصص العموم من المفاهيم ما تقوم به الحجة ، فأما ' مفهوم اللقب 'كالشاة ، فإنه ' مردود ' كما سيأتي إن شاء الله تعالى .وأنا أقول : إن أبا ثور لا يستند إلى أن مفهوم اللقب حجة ؛ فإن غالب الظن أنه لايقول به ، ولو قال به لكان الظاهر أنه يحكى عنه ، فقد حكى عن الدقاق وهو دونه ، ولكنه يجعل ورود الخاص بعد تقدم العام قرينة في أن المراد بذلك العام هذا الخاص، ويجعل العام كالمطلق ، والخاص كالمقيد ، وليس ذلك قولا منه بمفهوم اللقب فافهمه أهـ
ثانيا: ما هو مأخذ القول بحمل المطلق على المقيد؟
هل هو مأخذ لغوي؟ أي أنه جرى سنن العرب في الكلام أن أحدهم إذا تكلم بالمطلق في موضوع ما ثم تكلم بالمقيد في موضوع آخر فإنه يجب حمل المطلق على المقيد؟ (وهذا ربما يعسر إثباته)
أم هو مأخذ عادي؟ لأن عادة الناس في كلامهم ذكر العام والمطلق قاصدين به الخاص والمقيد وإن غفلوا عن ذكر التخصيص والتقييد أحيانا
أم هو مأخذ قياسي؟ وحينئذ يشترط فيه توفر شروط إجراء القياس، سواء أكان قياس علة أو شبه
أم هو مأخذ حديثي؟ بسبب توقع نسيان أحد الرواة للقيد وذكر آخر له؟ وحينئذ فالأمر خاضع لمسألة زيادة الثقة عن المحدثين، وهذا خاص بأدلة السنة لا الكتاب.
أم هو مأخذ أصولي تأويلي؟ للجمع بين الدليلين المتعارضين بتأويل المطلق بالمقيد؟ حيث إن المفهوم المخالف للمقيد يعارض دليل الإطلاق، وكلاهما ظني والقول في تعارضهما كالقول في تخصيص العموم بالمفهوم.
والأمثلة التي يذكرها الأصولييون متنوعة: بعضها يندرج تحت المأخذ القياسي كمسألة الرقبة في كفارة الظهار وكفارة القتل، ومسألة غسل اليدين في الوضوء والتيمم. فالقول في هذه المسائل يتوقف على تحقق شروط القياس وهي أقيسة شبهية يصعب إثباتها. وبعضها يندرج تحت المأخذ الحديثي: كما في النهي عن الإمساك بالذكر في اليمين، ومسألة جعلت الأرض لي مسجدا وترابها طهورا" ومسألة إحداهن أو أخراهن أو أولاهن بالتراب، والقول في هذه المسائل يتوقف على الترجيح بين الروايات أو الكم باضطرابها أو قبول زيادة الثقة إذا تحققت شروط القبول. وهذه صناعة حديثية. وبعض الأمثلة مأخذه أصولي تأويلي؟ راجع إلى التوليف بين مدلول المفهوم المخالف للقيد ومقتضى الإطلاق أو العموم. ولا ينبغي هنا وضع قاعدة عامة بل لكل مسألة مذاق خاص تتوقف على قوة العموم والإطلاق وعلة الحكم الشامل لهما وطبيعة القيد في المقيد هل هو معتبر أم لا، وإذا كان معتبرا هل هو مخيل (مناسب بحيث يظهر من ورائه حكمة) أم لا، وغير ذلك من الاعتبارات، ويحسن التمثيل هنا بمسألة قيد السوم في الغنم لوجوب الزكاة فقيد السوم هو قيد مناسب لحكم الزكاة لأنه يتضمن معنى إعفاء المعلوفة من الزكاة لزيادة الكلفة وهذا أمر معقول.
ثالثا: تفصيل الحالات بذكر اتحاد السبب والحكم واختلافهما تفصيل غير مطرد في المسائل المندرجة وإنما انبثق خصوصا عن مسألة حمل المطلق على المقيد في مسألة كفارة القتل والظهار التي كثر جدل الحنفية والشافعية حولها. والسبب في كونه غير مطرد أنه لا يصلح إجراؤه في الأحكام المبتدأة التي لا تتوقف على أسباب، كتحريم جر الثوب خيلاء مثلا، وكذا في الأخبار التي لا تتضمن أحكاما أصلا، مع أن حمل المطلق على المقيد كما يمكن أن يكون في الإنشاءات ممكن أن يكون في الأخبار كقولك جاء الطلاب وقولك بعد ذلك جاء الطلاب المجتهدون، فيحمل العام من كلامك على الخاص، وليس ثمة سبب هنا ولا حكم. نعم يمكن أن تقول أن السبب هنا ليس هو السبب الأصولي، والحكم هنا هو الحكم اللغوي الذي هو أعم من الحكم التكليفي، لكن هذا فيه خروج عن الاصطلاح الشائع من غير حاجة داعية وهو غير محمود. والأولى من وجهة نظري أن نقول:
المطلق والمقيد إما أن يتحدا أفي موضوعهما أو يختلفا
فإذا اختلفا فلا حمل بالإجماع
وإذا اتحدا إما أن يتحدا من كل وجه كما في "حرمت عليكم الميتة والدم" و "دما مسفوحا" فيحمل المطلق على المقيد عند القائلين بالمفهوم
وأما أن يتحدا من وجه دون وجه كما في كفارة القتل والظهار واليدين في الوضوء والتيمم وغير ذلك فالأصل عدم الحمل إلا أن يكون بدليل خارجي كالقياس.
رابعا: في بحث هذه المسألة وغيرها الأولى من وجهة نظري استقراء المسائل التي قيل فيها بحمل المطلق على المقيد من كتب الفقه المقارن ثم وسبرها ثم تقسيمها ثم تشييد القواعد، وذلك حتى لا يكون البحث تنظيريا نجري فيه التقسيمات أولا ثم نؤصل القواعد بعد ذلك ثم نبحث عن الأمثلة.