أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الخميس، 19 ديسمبر 2019

قاعدة مهمّة في طلب العلم: خمسة أسباب ترجِّح الرّضى بعدم الفهم على تطلُّب الفهم


أو بعبارة أخرى: خذ ما تفهم الآن، ودع عنك ما يصعب فهمُه إلى حينه. 

يجهد بعض المتعلِّمين في محاولة فهم كلّ كبيرة وصغيرة في الدرس الذي يسمعه، أو الكتاب الذي يقرؤه، ظانًّا أنّ هذه هي سبيل التعلُّم الأمثل. وهذا لو تُؤمِّل لوُجِد ضارًّا بحال أكثر المتعلِّمين لأسباب عدّة: 

أولًا: أنّه يؤخِّر التقدُّم في التعلُّم كثيرًا، ويطوِّل سبيله؛ إذ بعض المسائل أو الأفكار أو الأقوال قد تحتاج إلى ساعات أو أيام أو أسابيع أو حتى شهور، من الجهد والبحث والسؤال لأهل الاختصاص حتى تُفهم حقّ الفهم على مراد واضعيها. ومَثَلُ الواقف عند هذه المسائل في الوصول إلى الغرض من العلم المدروس أو الكتاب المقروء، ومَثَل المعرِض عنها، كمثل السلحفاة والأرنب إذا تسابقا من غير أن ينام الأرنب في الطريق. 

السبب الثاني: أنّ فهم مثل هذه المسائل غالبًا ما يعتمد على فهم مسائل أخرى تمهيدية لم يمرّ بها المتعلم بعدُ بسبب ضَعف طُرُق التعليم لعدم مراعاتها مبدأَ تدرُّج المسائل والعلوم، كما هو الحال في أكثر الجامعات التي تدرِّس بنظام الساعات، أو بسبب سوءِ وضع الكتاب المقروء واختلال ترتيبه، ولكنّ المتعلِّم سيمرّ بهذه المسائل التمهيدية لاحقًا في الدروس، أو فيما يستقبله من فصول الكتاب. وعليه، فكثير من المعضلات التي قد يواجهها طالب العلم في مُبتدَأ حضور الدروس، أو مستهلّ الخوض في دراسة علم من العلوم، أو كتاب من الكتب، تنكشف له شيئًا فشيئًا مع تقدُّمه في الدروس أو مضيه في القراءة، أي أنّه سيفهمها بأثرٍ رجعي، دون الحاجة إلى بذل كثير من الجهد ابتداءً. 

السبب الثالث: أنّ محاولة المتعلِّم فهمَ كلِّ كبيرة وصغيرة يورثه الملال نظرًا للمشقة التي يجدها في ذلك، ولاسيما إذا لم يجد من يسعفه بالشرح والتفهيم عاجلًا. وهذا من شأنه أن يُقلِّل من مستوى حماسه ودافعيته للتعلُّم بمرور الوقت، وغالبًا ما يؤدي به إلى الانقطاع عن التعلم أو عن قراءة الكتاب بعد أن كان متحمِّسا لذلك منذ البداية. 

السبب الرابع: أنّ التوقُّف عند هذه المسائل بحثًا عمّا - أو عمّن - يشرحها ويُفهمُها يقطع تتابع العلم، ويشتِّت الطالب، وزملاءه في الدرس، ويُزعج المعلِّم، ويصرف عن مواصلة قراءة الكتاب. وداءُ العِلم تركُ المتابعة والمولاة وفقدُ التركيز بالانصراف إلى غير ما المتعلم بصدده من واضح المسائل التي هي جوهر العلم ومعظمُه، إلى معلِّم آخر يسأله، أو كتاب آخر يطرقُه، أو متصفِّحٍ إنترنتيٍّ يُجوجله. وتركُ الموالاة إذا كان مُفسدًا الوضوءَ والصّلاةَ قاطعا لهما فإنّه لبناء العلم أفسد وعنه أقطع. 

السبب الخامس: أنّ كثيرًا ممّا يوقف عنده كثيرًا لصعوبته وإشكاله في الدروس والكتب ولاسيما كتب أصول الفقه، يكون متعلِّقًا بفكرة هامشية غير ذات جدوى في العلم، أو مجرّد استطراد في علم آخر، كالمنطق أو الكلام، أو متعلِّقًا بفكّ عبارة لماتنٍ أو شارحٍ أو مُحشٍّ لم يحسن صوغَها، أو تكون مصحّفة في نسخها أو طباعتها. ولو وُزِنت الفائدة المجتناة من فهم مثل هذه المسائل، وحلِّ هذه الإشكالات بالتعب المبذول في فهمها وحلِّها الذي لو صُرف في فهم مسائل أخرى يسيرة الفهم ولكنها ذات أهمية وأثر في تحصيل ثمرة العلم أو حَوْز زبدة الكتاب المدروس، لكانت هذه الفائدة تافهة بل في غاية التفاهة. فالكسب العلمي أو النفسي الذي يُتحصَّل عليه مَنْ فَهِم هذه المسائل، وحَلّ هذه الإشكالات، لا ينبغي أن يُنظر إليه بمعزل عن الخسارة التي نتجت عن ضياع الجهد والوقت ومن ثم فوات تحصيل مكاسب أخرى أهم. وهو ما يُطلق عليه في علوم الاقتصاد والمال: "الفرصة الضائعة". 

والخلاصة: لا تهتمَّ كثيرًا بما يفوتك فهمُه في درسٍ تحضره، أو كتابٍ تقرؤه، إذا كان المفهومُ عندك من هذا الدرس أو هذا الكتاب أكثر من غير المفهوم، أو كان غير المفهوم هامشيًا؛ وإذا اضطررت إلى قراءة كتب المتأخّرين - ولا أنصح بها - فاقتصر على الشرح ولا تلتفت إلى الحواشي، لأنّه سياتي عليك وقتٌ تفهم فيه ما فاتك فهمه إذا قطعت شوطًا في العلم ورسخت قدمك فيه. وخذ بما قاله تعالى في توجيه المؤمنين في كيفية التعامل مع المتشابهات: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي فاشتغل بهنّ عِلمًا وعملًا {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فاتركهن الآن؛ لأنّه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فقاصد فهم ما لم يتأهّل بعدُ لفهمه زائغٌ ضلَّ الطريق؛ لأنّه إمّا أن يكون باغيًا الفتنة بترويج تأويله الخطأ وفهمه السقيم متابعةً للهوى لا للحقّ، وإمّا جاهلًا يريد أن يتزبَّب قبل أن يتحصرم. فهذه المتشابهات لا يعلمها حقّ العلم إلا قائلها سبحانه وتعالى، ثمَّ من يتركها حتى يرسخ في العلم فيفتح الله عليها بفهمها على وجهها ليكون من الذين {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[آل عمران: 7]. وهذا على رأي من يجعل الوقف في الآية بعد عبارة "الراسخون في العلم" لا قبلها.

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

هل يُعذر المخطئ في اجتهاده في الأصول والفروع؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:
فإذا اجتهد شخص وُسْعَه في الوصول إلى الحق فأخطأه فهل يُعذر في اجتهاده هذا عند الله تعالى أو لا؟
يذكر الأصوليون هذه المسألة في باب الاجتهاد والتقليد من كتب الأصول. والمحكي فيها أقوال ثلاثة: طرفان وواسطة:

القول الأول: لا يُعذر من اجتهد فأخطأ الحق، سواء في مسائل الأصول أو الفروع. وهؤلاء هم "المؤثِّمة". ويُعزى هذا القول إلى بشر المريسي من المعتزلة وإلى الإمامية والظاهرية.

القول الثاني: يُعذر من اجتهد فأخطأ الحق، سواء في الأصول أم الفروع. وأصحاب هذا المذهب على طبقتين:

  • الأولى: خصوا ذلك بالمسلمين، ويعزى ذلك إلى عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي (قال ابن حبان: من سادات البصرة فقها وعلما توفي 168ه) ومما يُروى عن العنبري قوله في القدرية: "أنهم نزهوا الله" وفي الجبرية: "أنهم عظموا الله". ومال إلى رأيه هذا ابن تيمية. قال، رحمه الله (منهاج السنة النبوية 5/ 87): "والقول المحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري هذا معناه أنه كان لا يؤثِّم المخطئ من المجتهدين من هذه الأمة: لا في الأصول ولا في الفروع. وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي على عبيد الله هذا القول. وأما غير هؤلاء فيقول: هذا قول السلف وأئمة الفتوى، كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم، لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره. ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية، ويصححون الصلاة خلفهم. والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين، ولا يصلى خلفه. وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين: إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية".

    ويدل عليه أيضا قول ابن حزم، رحمه الله (الدرة فيما يجب اعتقاده ص414): "ومن بلغه الأمر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من طريق ثابتة، وهو مُسلِم، فتأول في خلافه إياه، أو ردَّ ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده على الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة ".

    وقال الشوكاني، رحمه الله: "اعلم أن ما صح عنه ﷺ من أن المصيب في اجتهاده له أجران وللمخطئ أجر لا يختص بمسائل العمل ولا يخرج عن مسائل الاعتقاد. فما يقوله كثير من الناس من الفرق بين المسائل الأصولية والفروعية، وتصويب المجتهدين في الفروع دون الأصول ليس على ما ينبغي بل الشريعة واحدة وأحكامها متحدة وإن تفاوتت باعتبار قطعية بعضها وظنية الآخر، فالحق عند الله عز وجل واحد متعين يستحق موافقة أجرين ويقال له مصيب، من الصواب ومن الإصابة، ويقال لمخالفه إنه مخطئ كما قال النبي ﷺ فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما  من حديث عمرو بن العاص إن اجتهد فأصلب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر".
  • والطبقة الثانية: جعلوا هذا عاما حتى في أهل الملل الأخرى غير المسلمين. ويعزى هذا الرأي إلى الجاحظ، ومال إليه الطوفي الحنبلي ومما قال، رحمه الله: (شرح مختصر الروضة 3/ 610): "هذا إلزام ألزم الناس الجاحظ به على مقالته، وهو أن يلزمه رفع الإثم والوعيد عن كل كافر؛ من منكري الصانع، والبعث والنبوات، واليهود والنصارى، وعبدة الأوثان الذين قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، لأن اجتهادهم هو الذي أداهم إلى ذلك. قوله: «وله منع أنهم استفرغوا»، إلى آخره. هذا الاعتذار للجاحظ عن هذا الإلزام. وتقريره: أن للجاحظ أن يمنع أن هؤلاء الكفار «استفرغوا الوسع في طلب الحق» ، أي: لا نسلم أنهم بذلوا المجهود المعتبر لمثلهم في مثل مطلوبهم، فكانوا مفرطين مقصرين، فكان «إثمهم على ترك الجد» والاجتهاد الواجب عليهم، لا على مجرد الخطأ، بل منهم من عاند مع اتضاح الحق له، كما أخبر الله، عز وجل، عن أهل الكتاب بقوله تعالى: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} وقوله، عز وجل: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}، فالكفار إذن طائفتان: معاند ومقصر في الاجتهاد، فعوقبوا لعنادهم وتقصيرهم، ونحن إنما نعذر من اجتهد غاية وسعه فلم يدرك وخلا عن العناد، فظهر الفرق. قلتُ: ومنذ خطر لي هذا الاعتذار عن الجاحظ، كان يغلب على ظني قوته، وإلى الآن والجمهور مصرون على الخلاف، ولا يتمشى لهم حال إلا على القول بتكليف المحال لغيره، وتساعدهم ظواهر النصوص، نحو قوله، عز وجل: {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار}، فتوعدهم بالنار على كفرهم، ولم يعذرهم بالخطأ، وعلى الآية اعتراضات لا تخفى. وبالجملة؛ الجمهور على خلاف الجاحظ، والعقل مائل إلى مذهبه".
القول الثالث: يُعذر من اجتهد فأخطأ الحق في الفروع دون الأصول. وهو القول المعزوّ إلى الجمهور، وبعضهم نقل فيه الإجماع!.
والله أعلم بالصواب.

الخميس، 28 نوفمبر 2019

عناوين مقترحة للبحوث والرسائل في الفقه وأصوله

  1. أراء الجاحظ في الفقه والأصول: جمع ودراسة
  2. التجديد في الفقه وأصوله عند محمد مصطفى شلبي
  3. ما قيل بحمله على الإمامة من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم: جمع ودراسة
  4. آراء مجتهدي السلف التي لم يقل بها أحد من أئمة المذاهب السنية الأربعة: جمع ودراسة (يمكن في هذا البحث تتبع كتاب "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة" حيث ذكر خلاف غير الأربعة إذا اتفقوا)
  5. اختلافات المزني مع الشافعي: جمع ودراسة
  6. المسائل التي وافق فيها المذهب الحنبلي مذهب أهل الرأي (الحنفية) وخالف مذاهب أهل الحديث (المالكية والشافعية): جمع ودراسة
  7. مناهج التأليف في الاختلاف الفقهي حتى نهاية القرن الخامس الهجري
  8. محدثات السلف (القرون الثلاث الأولى) في باب العبادات: جمع ودراسة
  9. التأليف الأصولي في العصر الحديث (الثالث والرابع عشر الهجري): مناهج ومعالم
  10. أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه خلافه (قطعيات الأصول)
  11. المسائل التي زعم ابن عبد البر الإجماع فيها خطئا : جمع ودراسة
  12. المسائل التي زعم ابن المنذر الإجماع فيها خطئا: جمع ودراسة
  13. التوصيات المقترحة في تجديد الفقه وأصوله عند المعاصرين: جمع ودراسة
  14. الحنابلة الجدد: بواعث الظهور والمنطلقات والتوجهات.

الأحد، 24 نوفمبر 2019

تقسيم مقترح للمحدثات والبدع قد يخفِّف من غلواء الخلاف فيها


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:
فتحديد ما هو بدعة من الأفعال الحادثة، وما ليس كذلك، موضوع شائكٌ للغاية، ورغم أنه أُفردت فيه العشرات من الكتب قديما وحديثا، إلا أنه لا يزال محارا للعلماء ومجالا كبيرا للخلاف بينهم.

والمستقرئ لمناهج العلماء في هذا الصدد يلحظ منهجين متضادين: أحدهما: يتوسع في تبديع المحدثات من الأفعال. والآخر: يضيِّق في ذلك. وليس من غرضي هنا التعرض للضوابط المختلفة للبدعة، ولكني أود عرض تقسيم :للمحدثات من الأفعال من حيث ما قد يسوغ فيه الخلاف وما لا يسوغ، فأقول:

المُحدثات من أفعال الناس التي لم تكن في زمن النص، أضرب ثلاثة:
أحدها: ما لا ينبغي الخلاف في كونه بدعة.
والضرب الثاني: ما لا ينبغي الخلاف في كونه ليس ببدعة.
والضرب الثالث: ما يحتمل الخلاف.

أما الضرب الأول فهو أنواع منها:
1. محدث خالف نصا شرعيا، كالصلاة إلى قبور الصالحين، وتزيين المصاحف بالذهب، والمسابقات التلفزيونية التي تتضمن الميسر، وأنواع المعاملات الحادثة التي تشتمل على الغرر كالتأمين التجاري، أو تشتمل على الربا، كالعينة، وغير ذلك.
2. محدث عطَّل سنة تعبدية ثابتة، وحلَّ محلها، كاستحداث ألفاظ جديدة بدل ألفاظ الأذان، أو أذكارٍ بدل المشروعة في الصلاة أو عقبها.
3. محدث في باب التعبُّد،لم يخالف نصَّا شرعيا، ولم يعطِّل سنة تعبُّدية ثابتة، ولكن افتقر إلى دليل خاص أو عام يدل على مشروعيته، كالإلزام بصلاة سادسة، أو إضافة سجود ثان في الركعات، أو التزام مسح الرقبة في الوضوء.

أما الضرب الثاني: وهو "ما لا ينبغي الخلاف في كونه ليس ببدعة"، فهو أنواع، منها:
1. محدث في باب العادات أو المعاملات، لا في باب التعبُّد، ولا يدل على حرمته نص. ومن ذلك: الأكل بالملاعق، واستعمال الصابون، وبطاقة الصرف الآلي، واستحداث المدارس، وبطاقات الهوية، وركوب الطائرات، وإشارات المرور وغير ذلك مما يدخل في عداد المصالح المرسلة.
2. محدث في باب التعبُّد دل دليلٌ خاص على جواز الإحداث فيه، كأصناف الدعاء بما ليس فيه تعدٍّ أو قطيعة رحم.
3. محدث دليله القياس الجلي ـ أو الذي في معنى الأصل أو القياس ذو العلة المنصوصة ـ على فعل معلَّل، وإن كان في باب العبادات ووسائلها من حيث الجملة، كالاستنجاء بالورق قياسا على الحجر، وتنظيف الأسنان بالفرشاة قياسا على السواك، واستعمال مكبِّرات الصوت في الصلاة قياسا على التسميع، واستعمال الخط لتسوية الصف في المسجد قياسا على وسائل أخرى استُعملت في زمن النص كضرب بلال، رضي الله عنه، على الأقدام، وفَصْل مصلَّى النساء عن الرجال قياسا على فصله، صلى الله عليه وسلم، الباب الذي تدخل منه النساء عن باب الرجال. ومن ذلك الأذان الأول يوم الجمعة الذي سنه عثمان، رضي الله عنه، قياسا على أذان الفجر الأول زمن النبي، صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك إخراج الأرز في صدقة الفطر قِياسا على البر والشعير. واستعمال السُّبحة قياسا على التسبيح بالحصى الوارد إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له.

وأما الضرب الثالث، و"هو الذي يحتمل الخلاف"، فأنواع منها:
1. محدث ورد بشأنه حديث ضعيف لم يشتد ضعفه، كصلاة التسابيح، بناء على الخلاف في استعمال الضعيف في فضائل الأعمال.
2. محدث في باب التعبُّد، ورد فيه عمل للصحابة أو خيار التابعين، كالتعريف يوم عرفة الوارد عن ابن عباس، رضي الله عنه، وزيادة "حي على خير العمل" في الأذان الواردة عن ابن عمر، رضي الله عنه، وكصلاة التراويح أكثر من إحدى عشرة ركعة، وختم القرآن فيها، وتلقين الميت عند دفنه، وإحياء ليلة العيد، وليلة النِّصف من شعبان، وغرس الشجر على القبور، ونحو ذلك مما صح فعله عن الصحابة أو خيار التابعين، رضي الله عنهم.
3. محدث لم يدل على مشروعيته دليل خاص بل عام أو مطلق، وخصَّصه المُحدِث بمكان أو زمان، كمن لا يأتيه خبر سار إلا صلى ركعتين، أو لا يطعم طعاما إلا صلى ركعتين شكرا، أو خصص ليلة ـ عدا ليلة الجمعة ـ للقيام، أو يوما في الشهر للصيام، أو عددا من التسبيحات في اليوم والليلة، وهكذا، فهذا يتشدَّد فيه قوم من باب سد الذرائع، ويتساهل فيه آخرون من باب {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}. والمالكية والحنابلة أقرب إلى منع هذا النمط من الإحداث بخلاف الحنفية والشافعية والظاهرية ممن لا يعتدون بالذرائع. والله أعلم.

الخميس، 21 نوفمبر 2019

استعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي: عوائق وتحديات


هذا عنوان بحث نشر لي حديثا في المجلة الأكاديمية العالمية للعلوم الشرعية، وملخصه هو الآتي:
ملخص:
هدفت هذه الورقة إلى دراسة قضايا هامة متعلّقة باستعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي.
فتطرقت إلى فوائدها وسلبياتها، وعلَّلت ظاهرة تراجع التعليم الشرعي رغم تقدم وسائله وتطورها، وأوضحت العوائق والتحديات التي تحول دون استعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي، والضوابط التي ينبغي التقيد بها عند استعمال هذه الوسائل في التعليم الشرعي.


وقد كان ذلك بمنهجية الوصف والتحليل بعد استقراء عدد من الدراسات التي تناولت استعمال تقنيات التعليم
بوضع عام، وتلك التي تناولت استعمالها في التعليم الشرعي بوضع خاص، وخرجت الورقة بعدد من النتائج والتّوصيات تتعلّق باستعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي ولاسيما في مجال تشخيص العوائق والتحديات التي أدَّت وتؤدّي إلى تقليل قدر استعمال هذه الوسائل في التعليم الشرعي مقارنة بالعلوم الأخرى، وفي مجال رسم ضوابط هادية لاستعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي الاستعمال الأمثل.


لقراءة البحث كاملا أو تنزيله استخدم هذا الرابط:


الأحد، 17 نوفمبر 2019

23 فكرة مقترحة في مناحي التجديد الفقهي


هذه 23 فكرة في مناحي التجديد الفقهي استقرأتها من الكتب التي تحدثت عن تجديد الفقه، بعضها مهم، وبعضها أقل أهمية، وبعضها فيه مجال للنظر والأخذ والرد:
  1. تقريب الفقه إلى العامّة والدّارسين بصوغه في لغة عصريّة واضحة خالية من التعقيد.
  2. استبدال ما كان قديمًا من الألفاظ والأساليب والاصطلاحات بما حلّ محلّه جديدًا منها، كالأوزان والمقاييس، ونحو ذلك.
  3. ربط الفقه بالدليل المنتج له، ولاسيّما نصوص الكتاب والسنّة.
  4. ربط الفقه بالأصول والقواعد التي بُني عليها «فإنّ كلّ فقه لم يُخرّج على القواعد فليس بشيء» كما قال القرافي (الذخيرة 1/55).
  5. ربط الفقه بالتعليل والمقاصد وحِكَم المشروعيّة.
  6. تحديد الملكات والمهارات الفقهيّة وتصنيفها وتنميتها عن طريق الإكثار من الأمثلة والتدريبات.
  7. ردم الهوّة بين الفقه والحديث والعناية عند الاستدلال بتجنّب الأحاديث الموضوعة والواهية.
  8. مزج الفقه بالقضايا الخُلُقيّة والرّوحيّة.
  9. تأليف الموسوعات الفقهيّة المرتّبة معجميًّا.
  10. إخراج المخطوطات الفقهيّة وتحقيقها.
  11. تنظير الفقه، أي ترتيبه في مفاهيم كبرى جامعة تسري في أبواب عدّة، كنظريّة العقد، ونظريّة الضّمان، ونظريّة التعسّف، ونحو ذلك، على غرار البحوث القانونيّة.
  12. تقنين الفقه، أي صوغه على هيئة موادّ قانونيّة.
  13. المقارنة التشريعيّة في عرض الفقه بين المذاهب الفقهيّة المختلفة حتّى غير السنّي منها.
  14. الاهتمام عند المقارنة بذكر مذاهب الفقهاء غيرالأربعة من الصّحابة والتابعين فمن بعدهم من فقهاء الأمصار.
  15. المقارنة التشريعيّة في عرض الفقه بين الفقه والقانون الوضعي.
  16. توسيع مفهوم الفقه ليشمل العقائد (الفقه الأكبر)، والأخلاق، والفقه المذهبي التقليدي وبحوث السّياسة الشرعيّة.
  17. وضع أحكام عامّة ضابطة للعلوم الاجتماعية المختلفة، كعلم النفس والتربية والإدارة والاجتماع ونحوها، وتسكينها في البناء الفقهي العام.
  18. إعادة ترتيب موضوعات الفقه حتى تتّسع لكلّ ما مضى في بناءٍ واحدٍ متكامل.
  19. تسكين محتوى كتب النّوازل والفتاوى والأقضية والقرارات المجمَعية في مواضعها المناسبة في هذا البناء الفقهي الجامع.
  20. استبعاد الأمثلة والمباحث الفقهية القديمة التي لا واقع لها من الكتب الحديثة، ولاسيّما في التّعليم، كموضوع الرِّقّ مثلا.
  21. وضع كتب فقهيّة من مستويات مختلفة، بعضها يناسب العامّة، وبعضها يخاطب المبتدئين في العلم الشرعي، ثمّ المتوسطين، ثم ّالمتقدمين. وأمّا كتب التراث فيُدرَّب على التعامل معها الذين يرغبون بالتخصّص فقط.
  22. فهرسة كتب الفقه وتكشيفها موضوعيًّا حتى يسهل على الباحثين الوصول إلى بغيتهم فيها بيسر وسهولة.
  23. الاهتمام بالنّشر الإلكتروني للفقه، سواء عن طريق الكتاب الإلكتروني، أم البرمجيات الموسوعيّة الإلكترونية، أم الموادّ الإلكترونية التفاعلية الغنيّة بالوسائط السمعيّة والبصريّة.
هل لديك أفكار أخرى؟ اكتبها في التعليقات.

السبت، 9 نوفمبر 2019

بين الدعوة إلى التمذهب والدعوة إلى اتباع الدليل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه وبعد:

فجماعة "فقه الدليل" ونبذ التقليد والتمذهب يرتكبون خطئا بقولهم: نحن نتبع الكتاب والسنة لا أقوال الرجال، وإنّ هذا هو الواجب على كل مسلم يفقه الدليل وإلا كان من المقلدين الذين ذمهم الله في كتابه.

ودعاة المذهبية من جهتهم يرتكبون خطئا بالإنكار عليهم بقولهم: وأئمة المذاهب يتبعون الكتاب والسنة وهم أعلم بها منكم. ودعوتكم إلى اتباع الكتاب والسنة لا تعني إلا اتباع فهمكم لهما. ووقولكم السابق لا يعدو كونه إنشاء لمذاهب جديدة لا تنحصر، أصحابها أفراد لا يملك أكثرهم أدوات الاجتهاد من لغة ونحو وأصول فقه ومعرفة بالخلاف ومآخذه، أو لا يُسلم لهم بامتلاك هذه الأدوات وإن ظن بعضهم ذلك في نفسه .

أما خطأ جماعة "فقه الدليل" فلأنهم زعموا أنهم يتبعون النص ذاته. وهذا يقتضي بالضرورة أن غيرهم من المتمذهبين لا يتبعه، وأن فهمهم للنص (أو لمجموع النصوص والأدلة في المسائل) هو النص، وهذا غير صحيح، كما أنهم ظنوا باتباعهم الدليل أنهم خرجوا عن التقليد بالكلية بينما أكثرهم مقلد في الحكم ومقلد في تعيين الدليل وفهمه، فتقليدهم مركب لا مفرد، وهو رغم ما ينطوي عليه من زيادة العلم بالمقارنة مع المقلد الذي لا يعلم الدليل إلا أنه يرافقه غالبا جهلٌ من نوع آخر، وهو الظن بنفسه أنه بمعرفة هذا الدليل وفهمه على هذا النحو قد حاز الصواب وأن مخالفه مخطئ غالبا أو قطعا. ثم إنهم لم يتبعوا النص والدليل عندما حكموا بتحريم اتباع مذهب بعينه؛ إذ لا نص في هذه المسألة، وإذا جاز اتباع أكثر من مجتهد في نفس الوقت فمن أين يحرم اتباع واحد بعينه إذا غلب على الظن أن رأيه الصواب كما يظنه أتباع المذاهب في متبوعيهم.

وأمّا خطأ دعاة المذهبية فلأنهم جعلوا "فقه الدليل" بمنزلة إنشاء لمذاهب جديدة. وهذا فيه مبالغة كبيرة لأن المذهب بنيان متكامل من أصول وفروع نصية واجتهادية في كل المجالات من عبادات ومناكحات ومعاملات وجنايات وغيرها، بينما الواقع أن جماعة "فقه الدليل" إنما أبدوا آراء في مسائل محدودة تشكل نسبة ضئيلة من مجموع ما بحثه الأئمة وأتباعهم أصولا وفروعا.

كما أخطؤوا بل ناقضوا أنفسهم عندما زعموا أن الممارسة الفقهية التي يقوم به جماعة "فقه الدليل" تتطلب شخصا كامل الأهلية في الاجتهاد حتى تسوغ منه هذه الممارسة، وذلك لأن جماعة "فقه الدليل" لم يخرجوا عن فقه الأئمة في الجملة فهم لا ينشئون أقوالا بل يتخيرون من بين أقوال الأئمة المسلّم لهم بأهلية الاجتهاد بما بدا لهم أنه الراجح والأقرب للنص والدليل. ولا يملك أحد أن يزعم أن هذا الأمر لا يجوز، بل جمهور الأصوليين - من المتمذهبين أنفسهم - على جواز تنقل المقلد بين المذاهب إذا لم يكن تنقلا للهوى وتتبعا للرخص.

فالقول بوجوب اتباع مذهب معين قولٌ يحمل في طياته تناقضا داخليا، لأنه في ذاته قول غير ملتزم بمذهب معين، أي أنه اجتهاد من غير مؤهّل للاجتهاد (مقلد) لتحريم الاجتهاد؛ فأئمة الاجتهاد لم يقولوا بلزوم تقليد مذهب معين والاقتصار عليه ولا حتى تقليد أنفسهم. وإنما أُثر هذا القول عن بعض مقلدي الأئمة، فكأن هؤلاء المقلدة منحوا أنفسهم أهلية الاجتهاد فأفتوا بما هو خارج عن مذاهب الأئمة في هذه المسألة. فلا أقل من أن يوصف هذا الرأي بالشذوذ بتطبيق القواعد المذهبية نفسها.

فإن قيل هو سد لذريعة الفوضى وتتبع الرخص وتصدر غير المؤهلين للترجيح والفتوى ودعوى الاجتهاد.

فالجواب: أنه إنما يحكم بمقتضى سد الذريعة المجتهد دون غيره وأنتم بإقراركم لستم من أهل الاجتهاد. كما أن الأئمة الذين أخذو بمبدأ سد الذريعة لم يقولوا بوجوب اتباع إمام بعينه في جميع المسائل أو حتى معظمها. والحاجة إلى ضبط الفتوى والاجتهاد كانت قائمة في عصرهم كما هي قائمة في عصرنا، بل ربما في زمنهم أكثر لكثرة المشتغلين بالعلم في ذلك الزمان.

ثم إن جماعة "فقه الدليل" يمكنهم مواجهتكم بنفس الدليل (سد الذريعة) وهو أن الدعوة لاتباع إمام بعينه في كل ما يقول، يلزم منه - بحسب الواقع - التعصب للمذهب والموالاة والمعاداة عليه والتفرق المذموم. وشواهد هذا التعصب وآثاره الكارثية في تاريخ المذاهب حتى وقت قريب كثيرة معروفة مشهورة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنه يلزم من هذا القول مفسدة الحرج والتضييق على الناس بإلزامهم وإلزام علمائهم بما لم يدل على لزومه لا نص ولا إجماع ولاعقل، بل جاء النص: بـ "استفت قلبك وإن أفتاك الناس"، وأجمع العلماء - عمليا - قبل نشوء المذاهب على عدم لزوم اتباع مذهب معين في كل ما جاء به أو حتى في غالب ذلك، إلى أن جاء بعض مقلدة المذاهب وهم الأقل فخالفوا ذلك.

والحاصل هو أن ثمة شططا في تقرير هذه المسألة عند كلا طرفيها في هذا الزمان: دعاة المذهبية، ودعاة "فقه الدليل". وفي نظري أن الصواب وسطٌ بين القولين، وهو يتلخص في نقطتين:

1. التمذهب بمذهب معين ليس بحرام إلا على من بلغ رتبة الاجتهاد. وفقه الدليل ليس بواجب إلا على مجتهد. وهذا خلاف قول دعاة "فقه الدليل".

2. فقه الدليل جائز حتى لغير المتأهل للاجتهاد إذا لم يخرج في اختياره وترجيحه عن أقوال الائمة السابقين من أهل الاجتهاد. فإن أتى بما لم يقله أحد من الأوائل فهذا لا يجوز له؛ لأنه وإن جاز له الاختيار والترجيح فلا يجوز له إنشاء فقه جديد لعدم الأهلية الكاملة للاجتهاد. وهذا القول خلاف قول دعاة المذهبية.
والله أعلم.