أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الأربعاء، 23 ديسمبر 2020

اللعان وتقييم دوره في علاج النّسب المختل بسبب الزنى أو قرائنه

(مقتبس من كتابي: التحقق من النسب بفحص البصمة الوراثية: نظرات فقهية جديدة)

إذا وقعت الزوجة في الزّنى، أو ظُنّ غالبًا وقوعها فيه بالنظر إلى القرائن، ثمّ حملت حملًا تيقّن الزوج، أو غلب على ظنّه، أنّه من الزاني، فقد شرع الإسلام له اللعان لكي يتخلّص من نسب الولد.

واللعان شُرع في الأصل درءًا لحدّ القذف عن الزوج استثناءً له من عموم القاذفين. وهذا واضحٌ من سبب نزول آيات اللعان، حيث قال هلال بن أُميّة: «يا رسول الله، إذا رأى أحدُنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البيّنة، فجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: "البيّنة وإلا حدٌّ في ظهرك"، فقال هلال: والذي بعثك بالحقّ إنّي لصادق، فلينزلنّ الله ما يبرِّئ ظهري من الحدّ، فنزل جبريل وأنزل عليه: {والذين يرمون أزواجهم} [النور: 6] فقرأ حتّى بلغ: {إن كان من الصادقين} [النور: 9]»([1]).

وقال عويمر العجلاني: «يا رسول الله رجلٌ وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه! أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك»([2]).

ولأنّ النبي، صلى الله عليه وسلم، أقرّ الملاعن على نفي ولده، بعد لعانه، وألحقه بأمّه، أخذ العلماء أنّ من مقاصد اللعان أيضًا: دفعَ النّسب الفاسد، إذ لو سُدَّ هذا الباب لما استطاع الزوج أن ينفي عنه نسبًا فاسدًا أدخله عليه رجلٌ هو بمثابة العدوّ له، لطَّخ فراشه، وهتك عِرضه، ولأُجبر على النفقة على ولد هذا المعتدي، وتوريثه منه، والسّماح بدخوله على محارمه. «وهذا من الحَرَج والضّرر الذي لا يجوز أن تُطلِقَ حِكمةُ الربّ مثلَه، بفضله على عبادة وحسن نظره لهم. وكيف يأخذ الشرع ولد زنى فيضعُه في حِجر إنسان ويُلحقُه به، ثمّ لا يجعل له سبيلًا في التخلّص منه؟! ولا قبحَ ولا فظاعةَ فوق هذا، ولا نفرةَ في القلوب، ولا ضررَ في النفوس، أشدُّ من هذا»([3]).

وعلى هذين المقصدين لِلِّعان اتّفق الفقهاء. قال ابن بَزِيزة التونسي: «انعقد الإجماع على أنّه [أي اللعان] مشروعٌ لضرورة دفع النّسب، ونفيِ العقوبة المتوجِّهة عليه [أي الزوج] بالقذف»([4]).

وقد أحاط الفقهاء اللعان بشروطٍ اجتهاديّة كثيرة خشيةَ أن يتعسّف الأزواج باستعماله تهرّبًا من تبعات الأولاد، أو انتقامًا من الزوجات وفضحًا لهنّ لأدنى حالات الشكّ:

فمثلًا اشترط بعضهم لجواز اللعان رؤيةَ المرأة تزني، ولنفي الولد اشترطوا وقوع استبراء المرأة قبل حادثة الزّنى وبعدها([5]).

واشترط آخرون أهليّة المتلاعنين للشهادة، وقيام الزوجيّة الصحيحة حال اللعان، فلا لعان في نكاحٍ فاسد، والمطلقةُ البائنة لو أتت بولد لمدّة الحمل، التي تمتدّ عندهم إلى سنتين، يُنسب إلى الزوج ولا سبيل له إلى نفيه باللعان([6]).

واشترط جمهور الفقهاء مبادرة الزوج إلى اللعان دون مهلةٍ فورَ علمه بالحمل أو الولادة، وانتفاءَ ما يدلّ على إقراره بالحمل أو الولد([7]).

وهذه الشروط في أكثرها معقولة مُتفهّمة في عصر الفقهاء، لأنّها تحفظ مصلحة الولد والأمّ، وتسدّ الذريعة أمام تضييع الأنساب بالظّنون، ولاسيمّا مع ضعف الوازع الديني عند الناس بمرور الزمن، وجرأتِهم على حلف أيمان اللعان دون وَجَلٍ أو تردّد في سبيل تحقيق أغراضهم الفاسدة.

وأمّا في هذا العصر فينبغي على أهل الفقه، قيامًا بواجب تجديد الاجتهاد، مراجعةُ هذه الشروط في ضَوء الأُسس الكلّيّة الحاكمة لقضايا النّسب في الشريعة، وذلك لتغيّر الظروف المؤثّرة في تقرير تلك الشروط من نواحٍ عدة، أهمّها ثلاثة:

أولًا: إمكانُ التيقّن من انتساب الولد عضويًّا إلى الزوج من عدمه في هذا الزمن باكتشاف البصمة الوراثيّة، وهذا لم يكن ممكنًا قبل ذلك إلا في أحوال خاصّة قليلة.

ثانيًا: ضعفُ الوازع الديني عند الناس أكثر فأكثر هذه الأيام مقارنة بما كانوا عليه زمن الأئمّة الفقهاء، وجرأتُهم الكبيرة على الحلف والشهادة إذا كان في ذلك تحقيقُ أغراضهم.

ثالثًا: تعطيلُ تطبيق حدّي القذف والزّنى في أكثر البلدان الإسلاميّة إن لم يكن جميعها، مع أنّ اللعان مشروعٌ في الأصل لدرء الحدّ.

وممّا نراه ينبغي أن يُقرِّره الفقهاء فيما يَستجِدّ في شأن اللعان في هذا العصر أن يُقصَر تطبيقه على الحالات التي يُحتاج فيها إلى درء العقوبة عن الزوجين، سواء أكانت العقوبة حدًّا شرعيًّا في البلاد التي تُطبَّق فيها الحدود، أم تعزيرًا في البلاد التي عُطّلت فيها الحدود. وأمّا تطبيقُه لغرض نفي النّسب فقد انتهى إلا حيث يتعذّر استعمال فحص البصمة الوراثيّة، «وإنّما يُنفى النّسب باللعان، إذا لم يكن للانتفاء طريقٌ آخر» كما قال الرافعي([8]). و«إذا أمكن نفيٌ سوى اللعان، لم يجز اللعان؛ فإنّ اللعان حجّةُ ضرورة»، كما قال إمام الحرمين([9]).

وهذا الانتهاء ليس تعطيلًا لتشريعه، كما قد يبدو لبعض من لم يُنعِم النّظر في المسألة، وإنّما لفقد شرط تطبيقه في نفي النّسب عند جمهور الفقهاء، إذ هم يشترطون للحُكم باللعان وجود احتمال أنّ الولد من الزوج، وعليه لا يحكمون به في الحالات التي يُتيقَّن بدليلٍ ظاهر من انتفاء كون الولد من الزوج، وإن وُلِد على فراشه، وذلك كأن:

                1.         تأتي الزوجة به لأقلّ أو أكثر من مدّة الحمل،

                2.         أو يكون الزوج فاقدًا القدرةَ على الإخصاب، كالصغير الذي لا يمني حتّى مع قدرته على الوطء، وكالمعيب جنسيًّا بخصاء وجَبٍّ ونحو ذلك ممّا تنعدم معه، في العادة، القدرةُ على الإمناء،

                3.         أو تُوجد قرائن ظاهرة (يمكن إثباتها أمام القضاء) يحصل معها القطع بانتفاء إمكان الجماع بين الزوجين، كمن في المشرق يتزوّج ممّن في المغرب بالوكالة، ثمّ تأتي بولد، مع القطع بعدم سفر أحدهما إلى الآخر. وكالرجل يتزوّج ثمّ يطلِّق في مجلس العقد بوجود الشهود، وكمن يعلّق الطّلاق على الزواج – عند من يجيز تعليقه عليه – فيقول للمرأة: "إن تزوّجتك فأنت طالق"، ثمّ يتزوّجها فتَطْلُقُ منه بمجرّد زواجها، ثمّ تأتي بولد لمدّة الحمل بعد إجراء العقد.

قال الشافعي، رحمه الله: «إذا أحاط العلمُ أنّ الولد ليس من الزوج فالولد منفيٌّ عنه بلا لعان»([10]). وقال إمام الحرمين: «إنّما يُلحَق النّسبُ الذي يُحتَمل تقديرُ علوقه من النّكاح، فعند ذلك يُلحِقُ الفراشُ النّسبَ بصاحب الفراش، فلا ينتفي عنه من غير لعان. فأمّا إذا زال إمكانُ العلوق في النّكاح، فالولد ينتفي من غير لعان»([11]). وقال الماوَردي: «كلُّ ما استحال أن يكون منه امتنع أن يكون لاحقًا به، كزوجة الصّغير، وكالمولود لأقلّ من ستّة أشهر»([12]). وقال ابن حزم: «كلُّ من وُلِد على فراشه ولدٌ فهو ولدُه إلا حيث نفاه الله تعالى على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم، أو حيث يُوقن بلا شكٍّ أنّه ليس هو ولده»([13]). وقال القاضي عبد الوهاب: «إذا عقد على امرأته فأتت بولدٍ لا يمكن أن يكون منه لم يلحق به...، دليلنا: أنّها أتت بولدٍ لا يمكن أن يكون منه، فوجب أن لا يلحق به، كالصّغير»([14]). وقال ابن قدامة: «مَن وَلدت امرأتُه ولدًا لا يمكن كونه منه في النّكاح لم يلحقه نسبُه، ولم يَحتجْ إلى نفيه؛ لأنّه يُعلم أنّه ليس منه فلم يلحقه، كما لو أتت به عقيب نكاحه لها، وذلك مثل أن تأتي به لدون ستّة أشهر من حين تزوَّجها فلا يلحق به في قول كلِّ من علمنا قوله من أهل العلم»([15]).

ولم يخالف في هذا الأمر إلا أبو حنيفة، رحمه الله. وإنّما خالف في النوع الثالث من القرائن فقط، فأثبت معها الولد للفراش ابتداءً، وأوجب على الزوج نفيه باللعان ديانة. وقد أوضحتُ مذهبه سابقا([16]).



([1]) البخاري، الصحيح، 6/100.

([2]) المرجع السابق.

([3]) السمعاني، قواطع الأدلة، 2/288 بتقديم وتأخير يسيرين.

([4]) ابن بزيزة التونسي، روضة المستبين في شرح كتاب التلقين، 2/845.

([5]) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 4/133.

([6]) السرخسي، المبسوط، 7/40.

([7]) الريمي، المعاني البديعة في معرفة اختلاف أهل الشريعة، 2/289.

([8]) الرافعي، العزيز شرح الوجيز، 9/383.

([9]) الجويني، نهاية المطلب، 15/79.

([10]) الشافعي، الأم، 8/321.

([11]) الجويني، نهاية المطلب، 15/273.

([12]) الماوردي، الحاوي الكبير، 11/161.

([13]) ابن حزم، المحلى بالآثار، 9/337.

([14]) القاضي عبد الوهاب، الإشراف على نكت مسائل الخلاف، 2/790.

([15]) ابن قدامة، المغني، 9/52.

([16]) ص101.

الأربعاء، 9 سبتمبر 2020

مناهج الإفتاء في المسائل التي تعتمد على الموازنة بين المصالح والمفاسد


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد: 

فالمسائل الخاضعة لنظر المفتين نوعان: 

أحدهما: مسائل منصوصة بعينها أو ملحقة بالمنصوص بطريق القياس، وهذه لا شك تكون الفتوى فيها بحسب مقتضى النص أو القياس. 

والنوع الثاني: مسائل غير منصوصة ولا مقيسة، وإن كانت تدخل على بعد تحت عمومات ضعيفة أو أقيسة واسعة، وبسبب بعدها عن النص والقياس يعتمد الاجتهاد والفتوى فيها بدرجة كبيرة على الموازنة بين المصالح والمفاسد أو المنافع والمضار. ومن أمثلة ذلك: التدخين، والتظاهر السلمي، والعلاج الجيني، وعمليات التجميل، والمشاركة الانتخابية في ظل أنظمة وضعية، والعمل الجائز في ذاته في مؤسسة أكثر كسبها من الحرام كعمل حارس البنك وعامل النظافة فيه وغيرهما، والعيش الدائم في بلاد الكفار...الخ 

وهذا النوع من المسائل يمكن استقراء ثلاثة مناهج للمتفقّهة للوصول إلى الحكم فيه: 

المنهج الأول: منهج الإلحاق بالنص أو القياس، وهو المنهج الذي لا يقيم وزنا لقضية الموازنة بين المصالح والمفاسد في مسائل هذا النوع، بل يتكلَّف ردَّها بجملتها إلى النوع الأول، فيراها مندرجة في نص أو قياس رغم ضعفِ هذا الاندراج، أو تعارضِه مع نصوص أخرى من نفس المنزلة في البعد، كمن يستدل على حرمة العلاج الجيني، مثلا، بحكايته تعالى عن إبليس، أعاذنا الله منه، أنه قال: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله}، فيعارضه آخر بنفس المنهج بقوله، صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله". 

المنهج الثاني: منهج الاستصلاح الحاسم، أي إطلاق القول في المسألة بالمنع أو بالجواز بناء على ترجيح المصلحة أو المفسدة من غير تفصيل ولا تقييد. فأصحاب هذا المنهج يعترفون، ابتداءً، بابتناء المسألة على الموازنة بين المصلحة والمفسدة لكنهم لا يراعون اختلاطهما في ذات الواقعة بل يغلبون إما المصلحة وإما المفسدة فيفتون بالمنع مطلقا أو بالإباحة مطلقا. وهؤلاء بدورهم ينقسمون إلى طائفتين متباينتين: 

إحداهما: أهل الاحتياط وسد الذرائع والميل إلى تعظيم المفاسد أو ملاحظتها أكثر من المصالح. 

والطائفة الأخرى: أهل التيسير وفتح الذرائع، والميل إلى الإباحة ورفع الحرج وتعظيم المصالح وإغفال المفاسد. 

المنهج الثالث: منهج الاستصلاح التفصيلي، وهو منهج يحاول قدر الإمكان تفصيل القول في المسألة غير المنصوصة محل النظر فيمنع منها في أحوال ترجح فيها المفسدة على المصلحة، ويجيزها في أحوال معاكسة ترجح فيها المصلحة على المفسدة، ولذلك يكثر في فتاوى أرباب هذا المنهج ذكر الضوابط والتقييدات عند الفتوى في مسائل الاستصلاح. 

ويبدو لي هذا المنهج الأخير أولى بالصواب من حيث المبدأ؛ لأنه أعمق نظرا إلى الواقعة من المناهج السابقة، مع التسليم بأن المسائل غير المنصوصة بعينها ليست على نسق واحد، بل يخضع كل منها إلى ذوق خاص ويتطلب نظرًا خاصًّا، ولكن على المجتهد والمفتي ألا يمنع ممّا يفضي إلى المصلحة والمفسدة إذا أمكن بنوع من الضبط تخليصه من المفسدة كلها أو معظمها. ومثال ذلك تفصيل القول في عمليات التجميل فتباح لتغيير العيب الطارئ غير المعتاد، ولتغيير العيب بالغ الشذوذ المسبب للحرج، ولتغيير العيب الذي يُرفع تبعا لعلاج داء، وتحرم لغير حاجة من الحاجات السابقة كالعمليات التي تجرى لقصد زيادة الحسن أو لتقليد الآخرين لا أكثر. ومثل هذا التفصيل أرجح من القول بمنع هذه العمليات مطلقا أو بجوازها مطلقا، والله أعلم.

الاثنين، 1 يونيو 2020

رسائل الماجستير والدكتوراه في الدراسات الشرعية: أيُّ بديل؟!



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد: 

فالعلومُ النقلية، كعلوم الشريعة من فقهٍ وأصوله وحديث وتفسير، تتّصف بقدر كبير من الثبات. وحجمُ التغيُّر والتطوّر فيها لا يقارن البتة بالعلوم الدنيوية من اقتصاد واجتماع وطبٍّ وهندسة إلى آخر ما هنالك. وذلك لأنها بطبيعتها تقوم على النقل وخدمته، والنقل، الذي هو الشرع، ثابتٌ مكتملٌ في ذاته: {اليوم أكملت لكم دينكم}، واضحٌ محكمٌ في معظم مدلولاته: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها"، قديمٌ معمِّرٌ في وجوده، ولذلك تتابعت على تبليغه، وتفسيره، وشرحه، وتنزيله على مقتضيات الزمان والمكان ملايينُ العقول على امتداد التاريخ الإسلامي، ولذلك لا عجب أن أفتى كثير من علماء العصور المتأخِّرة بغلق باب الاجتهاد، ووصفوا بعض علوم الشرع بأنها نضجت، وبعضها الآخر بأنها نضجت واحترقت، ممّا يعني ألا مجال لمزيد من الكتابة فيها إلا لمتكلِّف. ومن هنا فعندما قال ابن العربي (ت543هـ)، كلمته المشهورة في مقدمة عارضة الأحوذي: "ولا ينبغي لحصيفٍ أن يتصدّى إلى تصنيفٍ أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، أو يبتدع وصفا ومبنى... وما سوى هذين الوجهين، فهو تسويد الورق، والتحلّي بحلية السرق". استدرك بعد ذلك قائلا: "فأمّا إبداع المعاني فهو أمر معوز في هذا الزمان، فإن العلماء قد استوفوا الكَلِم، ونصبوا على كل مشكل العَلَم، ولم يبق إلا خفايا في زوايا، لا يتولَّجها إلا من تبصّر معاطفها، واستظهر لواطفها ... ". 

قلت: قال هذا الكلام وهو من علماء القرن السادس الهجري فكيف الحال الآن ونحن في القرن الرابع عشر الهجري، مما يعني أن "الخفايا في الزوايا" التي ذكرها لا شك قد استنفدت.

ثمّ لا يخفى أن المستحِقّ لقبَ العالم في الإسلام ليس قاصرًا على الباحث في علوم الشرع، المشيِّد لأركان هذه العلوم، المجدِّد في بنيانها، المبتكر في عرضها وتحليلها، بل هو يشمل أيضًا الحافظ لهذه العلوم، المبلِّغ إياها لغيره، ولو لم يتعمّق في الاستنباط منها وفي توظيفها. ولو أَجَلْنا النظر في تراجم آلاف العلماء الذين تزخر بسيرهم كتب التاريخ والطبقات لوجدنا أنّ قلة قليلة منهم قدّموا، أو كتبوا، ما يمكن وصفه بأنه "إضافة علمية" فعلية بالمعايير البحثية المعتمدة في العلوم الدنيوية هذه الأيام، بل غالب ما خلّفوه من التأليف هو من قبيل البحوث الثانوية التي تهدف إلى التجميع أو الترتيب أو الاختصار أو الشرح الميسّر للفهم. وحجمُ النقول عمّن سبق في مؤلفاتهم هذه يشغل حيِّزا واسعا منها يكاد يشملها كلَّها إلا قليلا. 

والذي أرمي إليه من هذا التقديم أنّه من الصعوبة بمكان في العلوم النقلية إيجاد موطئ قدم للتأليف الابتكاري في الموضوع والجوهر. ولو كان لا يوصف عالما إلا من قدَّم مقاربة جديدة في التأليف لكان عدد علماء الإسلام قليلًا جدًّا. 

وفي مستهل العصر الحديث مع بدايات القرن العشرين وجدنا جُلّ كتابات علماء الشريعة تتركّز في تجديد شكل العلوم، فألَّفوا عشرات الكتب التي تعرض علوم الشريعة من الفقه وأصوله وعلوم الحديث والقرآن والاعتقاد، بلغة عصرية ميسرة، وطباعة أنيقة، هي أنسب لمتعلمي هذا الزمان.

ثمّ مع فَْرْنَجة أنظمة التعليم في عهد الاستعمار وافتتاح الجامعات، وفي ضمنها كليات التعليم الشرعي، وصيروة الكتابة العلمية شرطا للتخرّج من هذه الكليات في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، نشأ توجُّهٌ جديد في التأليف في العلوم الشرعية يقوم على الدراسة المتخصِّصة لموضوعات فرعية في هذه العلوم. وهذه الظاهرة لم تكن بهذا الاتساع قبل هذه المرحلة، بل كان أكثر ما يؤلُّف في القديم، وقبل مرحلة الجامعات، موسوعيًّا يتناول الفقه كله أو أصول الفقه كله أو علوم الحديث أو العقيدة كلها، وهكذا...، وأمّا مع هذه المرحلة فقد صار الباحث يعمد إلى عنوان فرعي ما أو باب معين في الكتب القديمة، فيتناوله بالبحث مستقرئًا ما قيل فيه ومقارنا ومرجِّحا. 

وفي مرحلة لاحقة، وبعد أن انخرط معظم المشتغلين بالعلوم الشرعية في السلك الأكاديمي للجامعات، ظهرت الحاجة إلى مؤلفات أكثر إيجازا وأدقّ محتوى من الرسائل العلمية في الماجستير والدكتوراه، وذلك لغايات الترقيات العلمية. ومن هنا بدأ الأساتذة يتوجهون إلى الكتابة في عناوين موضوعات جزئية دقيقة في مختلف العلوم الشرعية يمكن استيعاب الموضوع منها بالعرض والمقارنة والتمثيل والترجيح بكتابة خمسين صفحة أو نحوها. 

وبمرور الزمان ومع كثرة الخرِّيجين بحكم الزيادة الطبيعية لأعداد المسلمين، وفشوّ التعليم الشرعي الأكاديمي وانتشاره، استُهلكت العناوين الكبيرة التي يمكن أن تُكتب فيها الرسائل، وقلَّت كثيرًا كذلك العناوين الفرعية الدقيقة التي يمكن أن تكتب فيها البحوث القصيرة المحكّمة. 

ومع هذا الانحسار للعناوين والمواضيع غير المطروقة بالتأليف نشأت وبدأت بالتفاقم أزمةُ الوقوف على عناوين تمكن الكتابة العلمية فيها بنوعٍ من الجِدّة، ولو في الجمع والترتيب والمقارنة، وصار شُحّ العناوين مقلقًا جدًّا للأكاديميين الشرعيِّين عامّة، ولطلبة الماجستير والدكتوراه خاصّة الذين هم في أوائل مشوارهم البحثي. 

وهذه الأزمة لا تزال تتفاقم سيّما مع مئات (أو ربما آلاف) الخريجين الذين تقذف بهم الجامعات في أرجاء العالم الإسلامي في كل عام. ولا بد لعقلاء هذه الأمة من الوقوف إزاء هذه الأزمة وقفة تأمّل بغية إيجاد الحلول. وهذا المقال إنما هو محاولة في هذه الاتجاه وفي الوقت نفسه دعوةٌ إلى التباحث والتفاكر حول أسباب هذه الأزمة ونتائجها وطرق علاجها. 

أمّا الأسباب فأستطيع من خلال ما تقدم أن أوجزها في الآتي: 

1. الثبات النسبي الذي تتمتع به العلوم الشرعية في معظمها مما يجعل توليد مواضيع قابلة للبحث وإعادة النظر محدودًا جدًّا. 

2. قدم العلوم الشرعية واستقرارها وكثرة الناظرين والكاتبين فيها على مدار التاريخ مما ضيق المجال أمام مزيد من الكتابة فيها إلا مع التكرار الكثير. 

3. كثرة خريجي الدراسات الشرعية وزيادة الالتحاق منهم بالدراسات العليا في سبيل تحسين أوضاعهم الاجتماعية والمادية، وهذه الزيادة في العدد قابلها تناقص شديد في عدد المواضيع غير المطروقة التي تستحق البحث والتأليف. 

وأمّا النتائج فأهمّها الآتي: 

1. في ظل شحّ المواضيع بدأت مؤسسات التعليم العالي بالتساهل في قبول مشاريع الخطط، ممّا أدّى إلى انتشار ظاهرة التكرار والنقل في البحوث الشرعية مع الإشارة والعزو أحيانا ومن دونها في أحيانٍ أخرى. وهذا بدوره جعل معظم هذه البحوث يتَّسم بالضعف وقلّة الجدوى بحيث لا تحقّق الغاية التي اشترط إنجاز هذه البحوث من أجلها استكمالا لمتطلبات الدرجة العلمية، سواء الغاية المتمثلة بالفائدة التي تنعكس على الباحث نفسه بتقوية تحصيله وشحذ ملكته العلمية أم المتمثلة بالفائدة التي تعود على المجتمع عامّة بإمداده ببحوث نوعية تسير بالعلوم خطوات إلى الأمام. على أنّه ينبغي أن يُلاحظ هاهنا أنّ كثرة المؤلفات (التكرارية) مضرة بالعلوم كما قال ابن خلدون، وذلك لأنها تشتت المتعلم والباحث عن الفائدة وتضله عن الوصول إلى البحث النوعي الذي يضيع بين عشرات البحوث الأخرى التي تحمل نفس العنوان أو عنوانا مقاربا، حتى أضحينا في هذا الزمن في تحدٍّ بالغ وجُهدٍ جهيدٍ في الوصول إلى الكتابات الرصينة بفرزها وتمييزها عن فيض الكتابات الأخرى التكرارية الضعيفة في الموضوع نفسه، وأصبح العلم - كما قيل - نقطةً كثَّرها الجاهلون.

2. وفي ظل شحّ المواضيع أيضا صارت مؤسسات التعليم تقبل البحث في موضوعات هامشية تافهة أو قليلة الجدوى محدودة الفائدة والأثر على الباحث نفسه أو على المجتمع، لا لشيء إلا لأنها غير مطروقة. 

3. ازدياد الضغط النفسي على طلبة الدراسات العليا وعلى القائمين على الكليات الشرعية فيما يتعلق بإيجاد العناوين وإقرار مشاريع الخطط. 

4. ضياع وقت وجهد كبيرين على الطالب في التنقيب عن عناوين تستحق البحث، وكذا ضياع وقت المؤسسات العلمية وجهد أساتذتها في دراسة العناوين الكثيرة التي يقدِّمها الطلاب وتتبُّع أصالتها وجِدّتها واستحقاقها البحث، ولا سيما مع ضعف فهرسة المؤلفات التي تكتب في العلوم الشرعية وتصنيفها، وصعوبة الوصول إليها عناوين ومحتويات.

وأمّا الحلول فأقترح الآتي: 

1. إعادة النظر في صلاحيّة نظام التعليم الجامعي الذي استوردناه من الغرب وطبقناه في بلادنا في مجال العلوم الشرعية. هل هو مناسب لطبيعة هذه العلوم؟! وإذا كانت الغاية الكبرى لأي مؤسسة تعليمية شرعية هي تخريج العالم الرباني، فهل من شرط العالم أن يكون باحثا مبتكِرًا في التأليف، وهل من بحث موضوعا فرعيًّا دقيقًا هنا أو هناك في رسالة الماجستير أو الدكتوراه، حتى مع افتراض تجديده وابتكاره فيما بحث، أهلٌ لأن يكون عالما، ومن ثَمّ معلِّما في مؤسسات التعليم العالي من جامعات ومعاهد. إنّ من المفارقات في نظام التعليم الحالي في الدراسات العليا ولا سيما الدكتوراه أنه يركِّز على المنجز البحثي، بينما في الواقع العملي الوظيفي نجد أن أكثر خريجي الدكتوراه لا يعملون في مجال البحث بل في مجال التعليم أو الدعوة أو الإدارة ونحو ذلك، وكثيرٌ منهم يكون آخر عهده بالبحث رسالته للدكتوراه، وإن كتب بعضهم شيئا فبحوث جزئية تقليدية قليلة الدَّسم لأغراض الترقيات والمشاركة في المؤتمرات. وهم لا يلامون في ذلك لأنّ الجمع بين التعليم والبحث ليس سهلا، سيما مع تعقيدات الحياة الأخرى في هذه الأعصار، بل إن ممّا لاحظته في مسيرتي الأكاديمية في مؤسسات مختلفة لما يقارب العشرين سنة هو أن التفوّق في البحث والنشاط المكثف فيه لدى الأستاذ مظنة لضعف أدائه في مجال التعليم، وقليل من الأساتذة من يبرِّز في التعليم والبحث معا. وممّا يمكن أن نقترحه من تعديلات على نظام التعليم الحالي في الدراسات العليا في العلوم الشرعية ما يأتي: 

(‌أ) جعل مقرر الرسالة اختياريًّا في مرحلة الماجستير، ويُعوّض عنه في المقابل بدراسة مقررات علمية تكوينية. مع اشتراط التفوق العلمي في تأهل الطالب لأخذ مقرر الرسالة نفسه وتزكية الأساتذة له بناء على تقييم موضوعي للبحوث الفصلية التي قدمها في المقررات أثناء دراسته التكوينية، وإلا جبر على دراسة المقررات التكوينية دون مقرر الرسالة. وهذا الحلّ تعمل به بعض الجامعات بشكل أو بآخر. ومن شأنه توجيه طالب الماجستير، غير الراغب بالبحث، أو ضعيف القدرة فيه، إلى مجالات مهنية يحتاجها سوق العمل ليس البحث أو إتقانه من مستلزماتها، فما كل من أراد الرقي في السلك الأكاديمي يبغي أن يكون باحثا أو يلزمه ذلك، أو ينوي أن يواصل إلى مرحلة الدكتوراه. 

(‌ب) تقليل أعداد المقبولين في الدكتوراه واشتراط أن يكونوا ممّن أنهى الماجستير بالرسالة لا بالمقررات وحدها، مع تقييم بحثه للماجستير وجعل جودته شرطا للقبول في مرحلة الدكتوراه. 

(‌ج) التوسّع في السماح لحملة الماجستير في التدريس في مؤسسات التعليم العالي في مرحلة البكالوريوس إذا كانوا مؤهّلين للتعليم تأهيلا جيّدًا. وتوجيه حملة الدكتوراه إلى تعليم طلاب الدراسات العليا، وإلى العمل في مراكز البحث العلمي. وهذا من شأنه تقليل التركيز على المؤهّل البحثي للتدريس في مؤسّسات التعليم العالي؛ إذ لا معنى لجعل المهارة المتقدِّمة في البحث شرطًا في التأهل لتعليم طلاب البكالوريوس في الدراسات الشرعية، بل ثمة مهارات أخرى أولى بالحاجة والاعتبار، كالتحصيل العلمي والتفوق فيه، وإتقان أساليب التدريس، والمهارة في تكنولوجيا التعليم. 

2. وضع الكليات والمؤسّسات الشرعية مشاريع بحثية كبرى وتقسيمها وتوزيع العمل فيها على عدد من طلاب الدراسات العليا. وهذا تقوم به بعض الجامعات، وهو لا شك يخفِّف من عناء إيجاد مواضيع فرعية مستقلة تصلح لبحوث الماجستير والدكتوراه، لسببين: أحدها أنّ المشاريع الكبرى أيسر إيجادًا لقلة التوجه إليها بالكتابة مقارنة بالعناوين الصغرى التي استهلكتها رسائل الماجستير والدكتوراه وبحوث الأساتذة، والسبب الثاني: أنّها تحتمل عددًا لا بأس به من الباحثين ربما العشرات منهم. لكن يظل عبء الإشراف على هذه المشاريع ووضع خطط دقيقة ومناهج موحّدة لإنجازها تحدّيًا لا بأس به أمام القائمين على المؤسسات التعليمية. 

3. استبدال الرسالة سواء الدكتوراه أم الماجستير بمجموعة من البحوث الدقيقة المحكمة ولو في موضوعات متفرقة. لأن هذه الموضوعات الدقيقة أوفر عددا وأعظم عائدًا. ومن حسنات هذه الطريقة تقليل الحشو في الرسائل العلمية، لأن كثيرا من الباحثين يضطر للحشو في موضوعه الضيق لغاية الاستجابة إلى متطلبات المؤسسة التعليمية والأعراف الأكاديمية التي تشترط حجمًا معيّنا لرسالة الماجستير والدكتوراه. 

4. التوجّه نحو البحوث الشرعية الميدانية الخليطة، حيث ينقسم البحث إلى جزئين جزء نظري وهذا قد لا يشتمل على إضافة علمية، والآخر جزء ميداني في مجال الأسرة أو الدعوة أو الإعلام أو القضاء أو الإفتاء أو الأوقاف ...الخ. مع ملاحظة أن إعداد هذه البحوث بجودة يتطلب تدريب طلاب الدراسات العليا في العلوم الشرعية على مهارات البحث الميداني كطرق جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها. 

5. التوجّه نحو البحوث البينية بين التخصصات بحيث يتناول الطالب موضوعًا واحدًا من زاويتين: زاوية الشرع، وزاوية علم آخر، كعلم النفس مثلا، أو علم الاجتماع، أو الاقتصاد، أو الإدارة، أو الإعلام، أو القانون، ونحو ذلك. وهذا النوع من البحث ليس سهلا؛ لأنه يتطلب الإلمام الجيد بالشريعة من جهة، وبالعلم الآخر من جهة أخرى، لكنّه مع ذلك يفتح آفاقا واسعة للبحث التكاملي بين علوم الشرع والعلوم الأخرى. 

6. استبدال مقرّر الرسالة، ولا سيّما في مرحلة الماجستير، بمشروع يسفر عن منتج شرعي ليس بالضرورة أن يكون قائمًا على البحث، كابتكار وسيلة تعليمية شرعية حديثة متطورة، أو إنتاج مادة إعلامية شرعية كفلم وثائقي، أو تصميم برمجية شرعية ما، أو موقع إلكتروني ذي محتوى شرعي متجدد... الخ. والقصد هنا توسيع مجال الإنتاج الابتكاري لا ليكون مقتصرا على الكتابة العلمية بل يشمل أي إنتاج سمعي أو بصري أو حاسوبي من شأنه أن يخدم الشريعة الإسلامية. وفي نظري مثل هذه المنتجات أولى بالاعتبار من تحقيق مخطوط قديم غير ذي أهمية مثلا، أو كتابة رسالة غالبها النقل عن الآخرين باللفظ أو المعنى. 

هل لديك مقترحات أخرى؟ اكتبها في التعليق لو سمحت.

الثلاثاء، 21 أبريل 2020

تعليل القول بجواز أداء صلاة الجماعة عن بُعد (بواسطة البث الفضائي وغيره)


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد: 

فلا شك في أنّ لصلاة الجماعة في المسجد مقاصد لا تحصل إلا بالاجتماع في المكان، ومن أهم هذه المقاصد تعارف المسلمين في الحي وتآلفهم، وتحقيق التساوي بين غنيهم وفقيرهم وخاملهم ووجيههم حيث يقفون في الصف نفسه، هذا فضلا عن أنها شعار للإسلام ومظهر من مظاهر الدعوة إليه وتذكير الغافلين بربهم حيث يرون المصلين ذاهبين وعائدين من المسجد داخلين فيه وخارجين منه، ثم إن المساجد، كما جاء في الحديث، هي أفضل بقاع الله في الأرض، وفي القول بتجويز انعقاد جماعتها خارجها مطلقًا تعطيلٌ لها. قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36-37]، "أذن" في الآية بمعنى أمر وقضى، و"أن ترفع" أي تُبنى وتقام، كما قال ابن عباس، رضي الله عنهما، وغيرُه، و"يُذكر فيها اسمه"، "فيها" أي في داخلها يُذكر عزَّ وعلا بالصلاة والتسبيح ونحوه. 

ومع هذا، أجاز أكثر الفقهاء الاقتداء بإمام المسجد لمن هو خارج المسجد إذا كان مجاورا له عالما بانتقالات الإمام سمعًا أو بصرًا لما جاء من الآثار الصحيحة في ذلك كصلاة عائشة، رضي الله عنها، مع جماعة المسجد وهي في حجرتها الملاصقة للمسجد، وكصلاة المسلمين التراويح بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حجرته. 

فهل يُقاس من كان بعيدًا عن المسجد على المجاور له إذا أمكنه العلم بانتقالات الإمام وسماع صوته، كما يحصل هذه الأيام في الفنادق المحيطة بالحرم حيث توضع في غرفها موصلات للصوت موصولة بالحرم وقت الصلاة، وكما يمكن ذلك الآن باستعمال أجهزة البث المباشر في التلفزيون وغيره. 

ويغدو الجواب على هذا السؤال مُلحًّا الآن في ظل تعطيل الجماعات في المساجد بسبب فايروس كورونا، وفي ظل قدوم شهر رمضان وصلاة التراويح التي لا يقوى كثير من الناس على صلاتها منفردين أو مع جماعة أهله في البيت. 

والعلماء المعاصرون مختلفون في هذه المسألة بين مجيز ومانع، والذي أراه والله أعلم جواز ذلك إذا لم يُتّخذ هذا الأمر عادة فيؤدّي إلى تعطيل المساجد من عُمّارها. ووجه الجواز هو قياس البعيد عن المسجد على المجاور له بجامع علم كليهما بانتقالات الإمام، ولا فرق مؤثِّرا يمنع من هذا القياس، وكل ما قد يرد من قوادح على اقتداء البعيد بالإمام يرد نفسه على اقتداء المجاور للمسجد بالإمام، حيث إن الفرق الوحيد بينهما هو القرب والبعد، وإلا فكلاهما خارج المسجد في مكان ليس له حكم المسجد لا شرعا ولا عرفا. وفرق البعد والقرب هذا بينهما فرقٌ "طردي" غير معتبر ولا مؤثر؛ لأنه لا يخل بالاقتداء ولا بمعنى حصول الجماعة. حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلى قائما فصلوا قيامًا» [متفق عليه]، وفي الحديث إيماء إلى أن الإتمام والاقتداء إنما يحصل مع العلم بالانتقالات ومتابعتها. 

وقد قال ابن قدامة منتقدًا القول بمنع صلاة المأموم العالم بانتقالات الإمام إذا حال بينه وبين الإمام حائل من طريق ونحوه: 

"وإذا كان بينهما طريق أو نهر تجري فيه السفن، أو كانا في سفينتين مفترقتين: ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح أن يأتم به، وهو اختيار أصحابنا ومذهب أبي حنيفة؛ لأنّ الطريق ليست محلا للصلاة فأشبه ما يمنع الاتصال. والثاني: يصح وهو الصحيح عندي ومذهب مالك و الشافعي؛ لأنه لا نص في منع ذلك، ولا إجماع، ولا هو في معنى ذلك؛ لأنه لا يمنع الاقتداء، فإن المؤثر في ذلك ما يمنع الرؤية أو سماع الصوت، وليس هذا بواحد منها. وقولهم: إن بينهما ما ليس بمحل للصلاة فأشبه ما يمنع وإن سلّمنا ذلك في الطريق فلا يصح في النهر فإنه تصح الصلاة عليه في السفينة، وإذا كان جامدًا، ثم كونه ليس بمحل للصلاة، إنما يمنع الصلاة فيه أما المنع من الاقتداء بالإمام فتحكُّم محض لا يلزم المصير إليه ولا العمل به". [المغني 2/ 39]. 

ولا أراه سليمًا الاعتراض على الجواز بالقول إن الاقتداء هيئة عبادية توقيفية وردت فيُقتصر عليها، وذلك لأن هذه المسألة فيما نرى داخلة في معنى ما ورد النص بجوازه من جواز اقتداء المجاور للمسجد بجماعة المسجد إذا علم بانتقالات الإمام، فصارات كدخول الأرز في معنى الشعير والتمر الوارد الإخراج منه في صدقة الفطر. وأما استخدام بث الصوت أو الصورة فهو وسيلة حادثة لا أثر لها في الحكم، تماما كاستعمال مكبرات الصوت التي لم تكن قديما لا أثر لها في جواز اقتداء المجاور أو عدمه، والوسائل يُغتفر فيها ما لا يغتفر في المقاصد، على أن وسيلة البث الصوتي والمرئي أكثر إفضاء إلى مقصد الجماعة من مجرد الاعتماد على سماع المجاور صوت الانتقالات كما فعلت عائشة رضي الله عنها وغيرها في زمن النص. والله أعلم.