أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الأحد، 21 مارس 2021

موازنات الفقهاء وتلفيقات المعاصرين



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فالفقيه الحق ينظر إلى المسائل الفقهية المنضوية تحت موضوع واحد نظرة متكاملة، أي أن حُكمَه في مسألة تعالج جانبًا من موضوعٍ ما يتأثّر بحكمه على مسألة أخرى تعالج جانبًا آخر في الموضوع نفسه. وعليه، فربَّما خفّف حكمه في مسألة ثم تدارك ما قد ينشأ عن هذا التخفيف من مفاسد محتملة بوضع اشتراطات وتشديدات في مسألة أخرى متعلّقة بالموضوع من جهة أخرى.

فمثلًا أبو حنيفة، رحمه الله، لَمّا لم يشترط عبارة الولي ولا موافقته لصحّة نكاح المرأة فإنّه شدَّد وبالغ في شروط الكفاءة التي يُسمح بموجبها للولي بفسخ عقد مولّيته إذا نكحت من غير موافقته. وبذلك أحدث نوعا من التوازن بين حق المرأة في اتخاذ قرار النكاح، وحق الولي في دفع الضرر عن نفسه وعن مولّيته فيما لو قررت الزواج بغير كفء.

وبعكس ما فعل أبو حنيفة فعل مالك، فتساهل في شروط الكفاءة وجعلها قاصرة على الدين فقط لكنه في المقابل اشترط عبارة الولي وموافقته. وتوسّط باقي الأئمة بين المذهبين.

مثال آخر: لَمّا لم يشترط مالك الشهود لصحة النكاح فإنه اشترط الإعلان بخلاف الجمهور الذين اشترطوا الشهود ولم يشترطوا الإعلان. وبهذا يحدث التوازن على المذهبين في إخراج النكاح عن السرية إلى دائرة العلنية.

مثال ثالث: لَمّا بالغ الحنابلة في إبطال العقود بالنوايا الفاسدة فإنهم في المقابل تساهلوا في اعتبار الشروط التي يُسمح للعاقدين أو أحدهما باشتراطها زيادة على مقتضى العقد وتوسعوا في قبولها إذا حققت مصلحة لهما أو لأحدهما وكذلك قال المالكية بلزوم الوعد في بعض الفروع.

أما الحنفية والشافعية فلمّا بالغوا في الاعتداد بالظاهر في العقود وعدم التعويل على النوايا والبواعث فإنهم في المقابل بالغوا في المنع من الشروط التي قد يشترطها أحد المتعاقدين وإبطالها حتى لا تُستغلّ هذه الشروط في التحيُّل على الشرع، والتوصُّل بها إلى الممنوعات.

وهكذا ديدن الفقهاء، على تفاوتٍ بينهم، الموازنةُ في معالجة الموضوعات المركّبة من مسائل شتّى حتى لا تميل كفّة على كفّة. وما يُخشى أن يفوت من مصالح، أو ينشأ من مفاسد، من الحكم في مسألة يُستدرك أو يُتلافى في الحكم في مسألة أخرى ذات علاقة بالمسألة الأولى.

ولكن مع فشوّ التلفيق في عصرنا الحاضر تُنوسيت موازنات الفقهاء، وأُخذ بالأسهل عند كل منهم وتُرِك الأشد فاختلت المعالجات الفقهية للموضوعات التشريعية في صورتها الكلية.

فكثير من قوانين الأسرة مثلا لا تشترط الولي، ومع ذلك تتساهل في اشتراط الكفاءة في الوقت نفسه. وفي هذا تضييع للتوازن بين مصالح المرأة ومصالح الولي.

وغالب المشتغلين من "فقهاء الثروة" في هيئات المصارف الإسلاربوية، يحكمون بظاهر العقود ولا يحكِّمون البواعث ولا يبطلون الذرائع على طريقة الشافعي وأبي حنيفة، ومع ذلك يتوسعون في تجويز الشروط والوعود الملزمة على طريقة أحمد في الشروط وعلى طريقة مالك في الوعود. وهذا نوع من العبث واللعب في المعالجات التشريعية للقضايا الفقهية، لأن من بالغ في منع الحيل والذرائع تساهل في الشروط، ومن بالغ في ترك الذرائع تشدد في الشروط. واقتفاء خطة تخالف المذهبين في شق المنع وتوافقه في شق الجواز إخلال بالتوازن الذي من شأنه منع الحيل والشروط الفاسدة.

ومن أجلى الأمثلة على ذلك عقد المرابحة للآمر بالشراء (الذي سمّاه القدماء بالمواصفة، أو اشتري لي كذا حتى أُربحك كذا) الذي هو ذريعة واضحة للتحيُّل على تحريم الربا بالتربّح من الإقراض باسم البيع الآجل من غير تحمّل تبعات البيع والتجارة، ولذلك جزم جماهير فقهاء السلف بتحريمه، كما حققناه في بحث مستقل. ولَمّا كان الشافعي لا يلتفت في الحكم بالصحة على العقد إلى الذرائع والتحايلات فقد صار إلى إبطال هذا العقد إذا اقترن بالشرط ونص على ذلك، فجاء بعض المعاصرين فأخذ من الشافعي شطر كلامه في عدم الالتفات إلى باطن هذا العقد من حيث هو ذريعة إلى الربا، وترك الشطر الآخر الذي هو في منع الشرط الملزم. واستبدل به ما أقره الإمام مالك من لزوم الوعد في بعض الفروع الفقهية، فلفَّق بين المذهبين في هذه المعاملة، مغفلا أن من نظر إلى الظاهر وأغفل الحيل كالشافعي أبطل الشروط، ومن قال بلزوم الوعد في بعض المسائل كمالك شدَّد في اعتبار البواطن ومنع الحيل.

وهذا التلفيق هو من النوع الممنوع شرعا، وهو الذي ينشأ منه في مسألة "حقيقة مركّبة" لا يقول بها أحد من المجتهدين كما ذكر السبكي والقرافي وغيرهم، ومثَّلوا له بمن يتزوَّج من غير ولي ولا شهود ولا صداق، فهذه الصورة المركبة في النكاح لم يقل بجوازها أحد.

والمنع من هذا النوع من التلفيق يشمل المقلِّد والمجتهد سواء، لأن الصورة المركبة التي يُذْهَب إليها ممتنعة بالإجماع، والممنوع بالإجماع ممنوع على جميع المكلفين: مقلِّدين ومجتهدين.

الأحد، 21 فبراير 2021

20 موضوعا مقترحا لبحوث أكاديمية أو رسائل علمية في مجالي الفقه وأصوله


رغم قناعتي التامة بأن أفضل مواضيع البحوث هو ما توصل إليه الباحث بنفسه نتيجة لمطالعاته فإني إسعافا لبعض الطلبة أنوه بالموضوعات الآتية، علما بأن بعضها قد يصلح لبحث قصير محكم، وبعضها قد يصلح لرسالة، وبعضها قد يكون درس سابقا فيحتاج الطالب إلى مراعاة ما كتب وهل هو قادر على الإضافة العلمية عليه أو لا.

  1. انتفاء الحكم لانتفاء العلة (عكس العلة): دراسة أصولية تطبيقية على أحاديث الأحكام في باب (المعاملات).
  2. مشروع يحيى محمد التجديدي في الفقه والأصول: عرض وتقويم
  3. المسائل المختلفة في الاسم المتحدة في المضمون (الأشباه) في أصول الفقه: جمع ودراسة
  4. نوازل وسائل الاتصال السمعي والمرئي: جمع ودراسة
  5. ظاهرة كثرة الاستثناء والتقييد في قواعد أصول الفقه عند الحنفية: دراسة في الأسباب والآثار
  6. معالم التجديد الأصولي عند الإمام الغزالي
  7. قول الصحابي المخالف للقياس: دراسة نظرية تطبيقية
  8. تطبيقات قادح القول بالموجب في القياس في كتاب تحصين المآخذ للغزالي (أو الاصطلام للسمعاني): دراسة وتقويم
  9. تطبيقات قادح الفرق في القياس في كتاب تحصين المآخذ للغزالي (أو الاصطلام للسمعاني): دراسة وتقويم
  10. تطبيقات قادح القلب في كتاب تحصين المآخذ للغزالي (أو الاصطلام للسمعاني): دراسة وتقويم
  11. تطبيقات قادح نقض العلة في كتاب تحصين المآخذ للغزالي (أو الاصطلام للسمعاني): دراسة وتقويم
  12. دراسة مقارنة بين منهجي السمعاني والغزالي في الجدل الفقهي في كتابيهما تحصين المآخذ والاصطلام
  13. القياس الطردي عند الأصوليين: مفهومه وحجيته وأمثلته
  14. التطور العلمي في مؤلفات الغزالي الأصولية في مسائل التعليل والقياس: دراسة وتقويم
  15. اجتهادات الصحابة رضوان الله عليهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: جمع ودراسة
  16. ما حرم من البيوع سدا لذريعة الربا: دراسة فقهية
  17. قصد الشريعة إلى الحد من المداينات وأثره في تقويم منتجات المصارف الإسلامية (كتبت فيه بعض البحوث القصيرة لكنه محتمل للتوسيع ولاسيما في بيان أثر الديون على الاقتصاد)
  18. قصد الشريعة إلى الحد من الإنفاق البذخي وأثر ذلك في تقويم شروط التمويل وأدواته في المصارف الإسلامية.
  19. الاستحسان للمصلحة وتطبيقاته المعاصرة
  20. النماذج البديلة التي اقترحت عوضا عن المصارف الإسلامية في وضعها الراهن: جمع ودراسة

الجمعة، 5 فبراير 2021

التشاغل عن القرآن الكريم بغيره من الكتب والعلوم من المنظور التربوي الأصيل

 

قال تعالى عن القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}. [العنكبوت: 49].

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون}. [العنكبوت: 51].

القرآن الكريم هو أُسُّ العلوم الشرعية ومحورها، فعليه تدور، ومنه تبدأ، وإليه تعود، والفقه في معاني القرآن هو الحكمة التي يؤتيها الله تعالى من يشاء من عباده، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. [البقرة: 269]. عن ابن عبّاس، رضي الله عنهما، في تفسير: {ومن يُؤتَ الحكمة}، قال: «المعرفة بالقرآن: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدَّمه ومؤخَّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله»([1])، وعنه، أيضاً: «الفقه في القرآن»([2])، وعن أبي الدرداء، رضي الله عنه: {يؤتَ الحكمة} قال: «قراءة القرآن والفِكرة فيه»([3])، وعن أبي العالية: «الكتاب والفهم به»([4])، وعن مجاهد: «الكتاب يؤتي إصابته من يشاء»([5])، وعن قتادة: «الفقه في القرآن»([6])، وعن مكحول: «إنّ القرآن جزءٌ من اثنين وسبعين جزءاً من النبوّة، وهو الحكمة التي قال الله: {ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}»([7]).

ولـمّا كان القرآن الكريم، والفقه في معانيه، بهذه الأهميّة، لمن أراد العلم حقّاً، قال الشافعي (ت: 204هـ)، رحمه الله، موجِّهاً طلاب العلم:

«فكلُّ ما أَنزل في كتابه - جلَّ ثناؤه - رحمةٌ وحجّة، عَلِمه من عَلِمه، وجَهِله من جَهِله، لا يَعلم من جَهِله، ولا يَجهل من عَلِمه. والنّاس في العلم طبقات، موقعهم من العلم بقدْر درجاتهم في العلم به. فحقٌّ على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصَّبر على كلّ عارضٍ دون طلبه، وإخلاص النِّية لله في استدراك علمه نصّاً واستنباطاً، والرّغبة إلى الله في العون عليه، فإنّه لا يُدرك خيرٌ إلا بعونه. فإنّ من أدركَ عِلْمَ أحكام الله في كتابه نصَّاً واستِدلالاً، ووفّقه الله للقول والعمل بما علم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيب، ونوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدّين موضع الإمامة»([8]).

وقال ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ)، رحمه الله: «إنّ أولى ما صُرفت فيه نفائس الأيام، وأعلى ما خُصَّ بمزيد الاهتمام الاشتغالُ بالعلوم الشرعية المتلقّاة عن خير البريّة، ولا يرتاب عاقلٌ في أنَّ مدارها على كتاب الله المقتَفى، وسنَّة نبيِّه المصطفى، وأنَّ باقي العلوم: إمَّا الاتٌ لفهمهما، وهي الضّالّة المطلوبة، أو أجنبيةٌ عنهما، وهي الضّارَّة المغلوبة»([9]).

والنّاظر في تاريخ التعليم في الأمّة الإسلامية منذ بعثة النبي، صلّى الله عليه وسلم، يجد أنّ تعليم القرآن الكريم، حفظاً وفهماً، كان له نصيبُ الأسد في ذلك، وكان هو المقدّمَ على كلِّ ما عداه من العلوم، بل كان النبي، صلى الله عليه وسلم، ينهى حتى عن كتابة حديثه لئلا يَشتغل به أصحابُه، رضوان الله عليهم، عن القرآن.

فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: «كنّا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي، صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا، فقال: ما هذا تكتبون؟ فقلنا: ما نسمع منك، فقال: أكتابٌ مع كتاب الله؟! فقلنا: ما نسمع، فقال: أكتابٌ غير كتاب الله؟! أَمْحِضوا كتاب الله، وأخلصوه، قال: فجمعنا ما كتبنا في صعيدٍ واحد، ثمّ أحرقناه بالنّار...»([10]).

وكذلك نهى، صلى الله عليه وسلّم، عن الانشغال عن القرآن بالنَّظر في كتب أهل الكتاب. ورُوي عنه، صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: «كفى بقومٍ ضلالاً، أن يرغبوا عمّا جاء به نبيُّهم، إلى ما جاء به نبيٌّ غير نبيِّهم، أو كتاب غير كتابهم...»([11]).

وقال، صلى الله عليه وسلم، في وصف الرعيل الأول من الصّحابة: «إنّ الأمانة نزلت في جذْر قلوب الرجال، ثمّ عَلِموا من القرآن، ثم علموا من السنّة»([12]). قال ابن حجر: «"ثمّ علموا من القرآن ثم علموا من السنة"، كذا في هذه الرواية بإعادة "ثمّ"، وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم كانوا يتعلّمون القرآن قبل أن يتعلّموا السنن»([13]). ولذلك قال، صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلّمه»([14]). وقال لحذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، عندما سأله أن يحدِّثه عن الفتن: «يا حذيفة عليك بكتاب الله فتعلّمه، واتّبع ما فيه خيراً لك»([15]).

وعلى ذلك سار أصحابه، رضوان الله عليهم: فعن قَرَظَة بن كعب الأنصاري، رضي الله عنه، قال: «بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة وشيّعنا، فمشى معنا إلى موضع يُقال له صِرَار، فقال: أتدرون لِمَ مشيت معكم؟ قال: قلنا: لحقّ صحبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولحقّ الأنصار، قال: لكنّي مشيت معكم لحديث أردت أن أحدِّثكم به، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم: إنّكم تقدُمون على قومٍ للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المِرجل، فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمد، فأقلوا الرواية عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم أنا شريككم»([16]).

قال البيهقي (ت: 458هـ)، رحمه الله: «أَمَرَهم بتجريد القرآن عند عدم الحاجة إلى الرّواية؛ لأنَّ القوم كانوا رغبوا في أخذ القرآن فلم يُرد اشتغالهم بغيره قبل استحكامه، شفقةً منه على رعيّته»([17]).

وعن عُروة بن الزبير (ت: 130هـ)، رحمه الله، قال: «إنَّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السُّنن، فاستشار أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفِق يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: إنّي كنت أريد أن أكتب السُّنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتُباً، فأكبُّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنّي واللهِ لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً»([18]).

وعن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: «أعزم على من كان عنده كتابٌ إلا رجع فمحاه، فإنّما هلك الناس، حيث تتبَّعوا أحاديث علمائهم، وتركوا كتاب ربهم»([19]). وذَكر في وصف الفقيه بأنّه الذي «لم يدعِ القرآن رغبةً عنه إلى غيره»([20]).

وعن إبراهيم التيمي، قال: «بلغ ابنَ مسعود، رضي الله عنه، أنّ عند ناس كتاباً يُعجبون به، فلم يزل بهم حتى أتوه به، فمحاه ثم قال: إنّما هلك أهل الكتاب قبلكم، أنّهم أقبلوا على كُتُب علمائهم، وتركوا كتاب ربهم»([21]). ولذلك قال، رضي الله عنه: «إنَّ هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره»([22])، وقال: «من أراد العلم فليقرأ القرآن فإنَّ فيه علم الأولين والآخرين»([23]). وقال: «جرِّدوا القرآن لِيربُوَ فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم...»([24]). وقال: «جرِّدوا القرآن، ولا تخلطوه بشيء»([25]).

 وعن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه، قال: «إنّ من أشراط الساعة أن يُبسط القول، ويُخزن الفعل، وإنّ من أشراط الساعة أن تُرفع الأشرار وتُوضع الأخيار، وإنّ من أشراط الساعة أن تُقرأ المثنّاة على رؤوس الملأ لا تُغيّر. قيل: وما المثنّاة؟ فقال: ما استُكتب من غير كتاب الله. قيل: يا أبا عبد الرحمن، وكيف بما جاء من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال: ما أخذتموه عمّن تأمنونه على نفسه ودينه فاعقلوه، وعليكم بالقرآن فتعلَّموه وعلِّموه أبناءكم؛ فإنّكم عنه تُسألون، وبه تُجزون، وكفى به واعظاً لمن كان يعقل»([26]). وقال: «من قرأ القرآن فكأنّما استُدرجت النّبوّة بين جنبيه إلا أنّه لا يُوحى إليه»([27]).

وقال ابن أبي خالد: قلتُ لعبد الرحمن بن الأسود (تابعيٌّ كبير)، رحمه الله: «ما منعك أن تَسأل كما سأل إبراهيم [النَّخَعي]؟ قال: إنّه كان يُقال: جرّدوا القرآن»([28]).

وفي وصية ميمون بن مهران (ت: 117هـ)، رحمه الله، ليُونس بن عبيد: «عليك بكتاب الله تعالى، فإنّ النّاس قد لهوا عنه واختاروا عليه الأحاديث: أحاديث الرّجال»([29]).

وقال الليث بن سعد (ت: 175هـ)، رحمه الله: «يُقال: إنّما يُرفع القرآن حين يُقبل النّاس على الكُتُب، ويُكِبُّون عليها، ويتركون القرآن»([30]).

وكان الإمام أحمد (ت: 241هـ)، رحمه الله، ينهى عن كتابة كتب الرأي «فقال له السائل: إنّ ابن المبارك قد كتبها، فقال له أحمد: ابن المبارك لم ينزل من السَّماء، إنّما أُمِرنا أن نأخذ العلم من فوق»([31]). قال ابن القيم (ت: 751هـ)، رحمه الله: «إنّما كره أحمدُ ذلك، ومنع منه؛ لما فيه من الاشتغال به، والإعراض عن القرآن والسنّة»([32]).

وقال الغزالي (ت: 505هـ)، رحمه الله: «كان الأوّلون يكرهون كتب الأحاديث وتصنيف الكتب؛ لئلا يشتغل النّاس بها عن الحفظ، وعن القرآن، وعن التدبُّر والتذكُّر. وقالوا: احفظوا كما كنّا نحفظ»([33]).

ولهذا كلِّه كَثُر في تراثنا التربوي حثُّ طالب العلم على البدء بالقرآن، وتجريده وتقديمه على غيره من العلوم.

قال ابن عبد البر (ت: 463هـ)، رحمه الله: «أوَّلُ العلم حفظُ كتاب الله جلّ وعزّ، وتفهُّمُه. وكلُّ ما يُعين على فهمه فواجبٌ طلبُه معه، ولا أقول: إنّ حفظَه كلَّه فرض، ولكن أقول: إنَّ ذلك واجبٌ لازم على من أحبَّ أن يكون عالماً»([34]).

وقال الخطيب البغدادي (ت: 463هـ)، رحمه الله: «ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عزّ وجلّ؛ إذ كان أجلَّ العلوم وأولاها بالسّبق والتقديم»([35]).

وقال ابن الجوزي (ت: 597هـ)، رحمه الله: «أوَّل ما ينبغي أن يُكلَّف حفظ القرآن مُتقناً؛ فإنَّه يثبت، ويختلط باللّحم والدّم»([36]).

 وقال النّووي (ت: 676هـ)، رحمه الله: «أوَّل ما يَبتدئ به حفظُ القرآن العزيز فهو أهمُّ العلوم، وكان السَّلف لا يعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن، وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتِغالاً يؤدِّي إلى نسيان شيءٍ منه، أو تعريضه للنِّسيان»([37]).

وقال ابن جماعة (ت: 733هـ‍.)، رحمه الله: «يبتدئ أولاً بكتاب الله عزَّ وجل فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنَّه أصلُ العلوم، وأمُّها، وأهمُّها»([38]).

وقال ابن تيمية (ت: 728هـ)، رحمه الله:

«وأمّا طلب حفظ القرآن: فهو مقدَّمٌ على كثيرٍ ممَّا تسمِّيه النَّاس علماً: وهو إمّا باطل أو قليل النفع. وهو أيضا مقدَّمٌ في التعلُّم في حقّ من يريد أن يتعلَّم علم الدين من الأصول والفروع، فإنّ المشروع في حقّ مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنَّه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثيرٌ من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم، حيث يشتغل أحدهم بشيءٍ من فُضول العلم من الكلام، أو الجدال والخلاف، أو الفروع النادرة، أو التقليد الذي لا يُحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا يُنتفع بها، وكثيرٍ من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجّة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهمُّ من ذلك كلِّه... والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به، فإن لم تكن هذه هِمَّةُ حافظه لم يكن من أهل العلم والدّين»([39]).

وقال ابن خلدون (ت: 808هـ)، رحمه الله: «اعلم أنّ تعليم الولدان للقرآن شعار الدّين أخذ به أهل الملّة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم؛ لِـما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث. وصار القرآن أصل التّعليم الّذي يُبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات»([40]).

وقد أشار عدد من الدراسات العلمية التربوية المعاصرة إلى الأثر الإيجابي لتعلُّم الطالب القرآن الكريم في أدائه الأكاديمي في المقررات الأخرى([41]).

ومع كل هذا، فقد حَدث في بعض الأعصار المتأخِّرة الإقلال من الاهتمام بفقه القرآن انشغالا عنه بغيره من العلوم. قال الذهبي (ت: 748هـ)، رحمه الله: «قلَّ من يعتني اليوم بالتفسير»([42]). وقال بدر الدين الحلبي (1324هـ/1906م) يصف حال طلاب العلوم الشرعية مع علم التفسير في القرن الهجري الماضي:

«طلاب العلوم الشرعية أقلّ الناس عنايةً به، وأزهدُهم فيه، فالطالب الذي يصرف عشر سنوات من عمره في تعلّم النحو من حواشي المتأخِّرين، أو بالحَري يُمضي عشر سنوات في قراءة قيل وقال، واعتُرض وأُجيب، ممّا ليس بعلم من العلوم، يَضِنُّ على كتاب الله، قانونِ دينه، ومبدأ سعادة البشر في النشأتين، بسَنَةٍ يصرفها في قراءة تفسير من تفاسيره اللطيفة الموثوق بها...، وليس هذا الذي نقوله خاصّاً بطلبة مِصرٍ أو قُطْرٍ، بل طلاب العلوم الشرعية في جميع الأمصار والأقطار قد اطّرحوا هذا القسم من الفنون، ولم يُعيروه أدنى نظرٍ والتفات»([43]).

وقال الشيخ ابن باديس (ت:1359هـ)، رحمه الله:

«حصلنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة، ونحن لم ندرس آيةً واحدةً من كتاب الله، ولم يكن عندنا أيُّ شوقٍ أو أدنى رغبة في ذلك. ومن أين يكون لنا هذا ونحن لم نسمع من شيوخنا يوماً منزلة القرآن من تعلُّم الدين والتفقُّه فيه، ولا منزلة السنّة النبوية من ذلك. هذا في جامع الزيتونة فدع عنك الحديث عن غيره ممّا هو دونه بعديد المراحل»([44]).

وفي عصرنا الحاضر تعافت، إلى حدٍّ ما، كثيرٌ من الكلِّيات الشرعية من تهميش دراسة القرآن الكريم: حفظاً وتفسيراً، كما كان الحال عليه قبل قرن من الزمان، فلا تخلو الآن خُطَّة من خطط التدريس في مختلف الجامعات من مقرَّرات في الحفظ والتفسير. ومع هذا فلا يزال الاهتمام بالقرآن الكريم وتفسيره، دون المستوى المطلوب بكثير، خصوصاً لطلاب تخصُّصات الفقه والحديث والدّعوة. والمأمول أن يزداد الاهتمام بالقرآن الكريم بشكل ملحوظ، ولو على حساب غيره من العلوم؛ فإنّه، كما قال الشافعي، رحمه الله: «لا يَعلم من جَهِله، ولا يَجهل من عَلِمه»([45]). فلا أقلَّ من أن تُخصَّص سنةٌ واحدة من سنوات الدّراسة الأربع لتعلّم القرآن والانكباب عليه، حفظاً وفهماً، دون خلط ذلك بغيره من العلوم.

ا
لمقال مقتبس من بحث بعنوان ضعف خرّيجي كلّيات الدّراسات الشّرعية: أهمّ الأسباب، والحلولُ الممكنة، في ضوء أدبيّات التعليم في تراثنا التربوي، للمؤلف. تجده على هذا الرابط



([1]) السيوطي، الدر المنثور، (2/66) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنّحاس.

([2]) السيوطي، الدر المنثور، (2/66). وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

([3]) السيوطي، الدر المنثور، (2/66) وعزاه لابن أبي حاتم.

([4]) السيوطي، الدر المنثور، (2/66). وعزاه لابن جرير.

([5]) السيوطي، الدر المنثور، (2/66). وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

([6]) السيوطي، الدر المنثور، (2/67). وعزاه لعبد بن حميد.

([7]) السيوطي، الدر المنثور، (2/67). وعزاه لابن أبي حاتم.

([8]) الشافعي، الرسالة، ص19.

([9]) ابن حجر، فتح الباري، (1/ 3).

([10]) أحمد، المسند، (17/ 156). وقال الأرناؤوط: صحيح.

([11]) الدارمي، السنن، (1/425)، من مرسل يحيى بن جعدة بسند صحيح.

([12]) البخاري، الصحيح، (8/ 104).

([13]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، (13/ 39).

([14]) البخاري، الصحيح، (6/ 192).

([15]) ابن حبان، صحيح ابن حبان، (1/ 323). وصحّحه الألباني والأرناؤوط.

([16]) ابن ماجه، السنن، (1/12). وقال ابن كثير، مسند الفاروق، (2/624): إسناده جيد، وصحّحه الألباني والأرناؤوط.

([17]) البيهقي، معرفة السنن والآثار، (1/ 146).

([18]) معمر بن راشد، جامع معمر بن راشد، (11/ 257). وقال ابن كثير، مسند الفاروق، (2/625): «إسناد جيّد وقوي إلا أنّ عروة لم يلق عمر بن الخطاب والله أعلم».

([19]) ابن أبي شيبة، المصنف، (5/ 314). وابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، (1/271). وفي إسناده جابر الجعفي: ضعيف.

([20]) ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، (2/ 811).

([21]) الدارمي، السنن، (1/ 419). وقال محقق الكتاب حسين سليم أسد: إسناده صحيح.

([22]) ابن أبي شيبة، المصنف، (6/ 126). وإسناده متصل رجاله موثوقون.

([23]) ابن أبي شيبة، المصنف، (6/ 126). وإسناده متصل رجاله ثقات.

([24]) أبو عبيد، فضائل القرآن، ص76. وإسناده متصل رجاله ثقات.

([25]) أبو عبيد، فضائل القرآن، ص76. وإسناده متصل رجاله موثوقون.

([26]) أبو عبيد، فضائل القرآن، ص71.  والدارمي، السنن، (1/ 423). قال محقق الدارمي حسين سليم أسد: إسناده جيد.

([27]) ابن أبي شيبة، المصنف، (6/ 120). والحاكم، المستدرك على الصحيحين، (1/ 738).

([28]) الذهبي، سير أعلام النبلاء، (5/ 11).

([29]) أبو عبيد، فضائل القرآن، ص79.

([30]) محمد بن نصر المروزي، مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر، ص 179.

([31]) ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة، (1/329).

([32]) ابن القيم، الطرق الحكمية، ص235.

([33]) الغزالي، إحياء علوم الدين، (1/ 79).

([34]) ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، (2/ 1129).

([35]) الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، (1/ 106).

([36]) ابن الجوزي، صيد الخاطر، ص257.

([37]) النووي، المجموع شرح المهذب، (1/ 38).

([38]) ابن جماعة، تذكرة السامع والمتكلّم في أدب العالم والمتعلّم، ص51.

([39]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (23/55).

([40]) ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، (1/ 740).

([41]) يُنظر نتائج خمسة من هذه الدراسات مقال: عبد الملك بن عثمان ابن الأمير، وفق دراسات علمية: القرآن له أثر كبير في زيادة التحصيل الدراسي وتفوُّق الطلاب، صحيفة الجزيرة، الخميس 28 شوال 1428هـ الموافق 08/11/2007، العدد 12824، http://www.al-jazirah.com/2007/20071108/el6.htm

([42]) الذهبي، زغل العلم، ص40.

([43]) الحلبي: بدر الدين، التعليم والإرشاد، ص83.

([44]) الطالبي: عمار، ابن باديس: حياته وآثاره، (3/2019).

([45]) الشافعي، الرسالة، ص19.