الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله
ومن والاه، وبعد:
فمسألة ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب هي من المسائل
الطبولية التي يتكرر الكلام فيها كثيرا ويشتد فيها الخلاف ويطول فيها الجدال.
وهي من المسائل التي يدور الخلاف فيها على اعتبار
اللفظ أو المعنى. ولطالما كان هذا السبب (أعني اعتبار اللفظ أو المعنى) مثارا
للنزاع في المسائل بين الفقهاء قديما وحديثا. (يُنظر كتاب أهل الألفاظ وأهل
المعاني: دراسة في تاريخ الفقه).
وهي في ذلك مثل مسألة زكاة الفطر هل تُقصر على الطعام
أو تجوز بالقيمة.
ومثل مسألة فرض الدية على العاقلة هل هو مقصود
لذاته أو لمعنى التناصر في العاقلة فيمكن نقله إلى غيرها، كأهل الديوان مثلا، على
ما قاله الحنفية.
ومثل مسألة إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة هل هو
لمجرد التأليف والتحبيب في الإسلام، أو لمعنى ضعف الإسلام وقت إعطائهم وحاجة
الدولة إليهم.
فكل هذه المسائل، وكثيرٌ مثلها، اختلف فيه الفقهاء
قديما وحديثا ما بين دائر مع اللفظ، ودائر مع ما يظنّه المعنى والمقصود.
ومن المسائل المعاصرة الشبيهة بمسألة الرؤية والحساب إلى حد بعيد مسألة نفي النسب باللعان هل يجوز مع القطع (عن طريق فحص
البصمة الوراثية) بكون الولد من الملاعن أو لا. فالدائر مع اللفظ (ومع أقوال
الفقهاء القدماء) يقول بنفي النسب حتى لوثبت بالفحص أن الولد مخلوق من ماء
الملاعن، والقائل بالمعنى وأن اللعان إنما شرع لنفي النسب عندما لم تكن هناك وسيلة
متيسرة للتحقق من البعضية والجزئية التي هي علة النسب، فلا يجيز اللعان مع ثبوت
البعضية بالفحص على وجه القطع.
وحرف مسألة ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب، هو أن
الرؤية المأمور بها في الحديث (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) هل هي مقصودة لذاتها
أو أنها لحكمة التيسير (حيث كانت الأمة أمية زمن النص لا تكتب ولا تحسب، ومن ثم لو
كان التعويل إذ ذاك على الحساب لحصل في ذلك مشقة على عموم الناس، فضلا عن اضطراب
الحساب وقتئذ وعدم دقته، بل عدم علم أكثر العرب به).
فالقائل بالرؤية من المعاصرين يرى بأنها مقصودة
لذاتها تعبُّدًا، وأنها بذاتها ووحدَها هي علامة دخول الشهر، وأن قوله، صلى الله
عليه وسلم: نحن أمة أمية بيان للحال لا إيماء إلى العلة.
والقائل منهم بالحساب يرى بأن الأمر بالرؤية معلَّل،
وأن الرؤية وسيلة لا غاية، وأنها كانت العلامة المتيسرة للجمهور في زمن النص على دخول
الشهر بعد تولد الهلال، بقرينة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: نحن أمة أمية
لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا، فرتب عدم القدرة على الجزم بعدد أيام الشهر
بالضبط وترددها بين أن تكون ثلاثين أو تسعة وعشرين، على وجود الأمية وعدم المعرفة
بالكتابة والحساب. وهي من الطرق الجلية للإيماء إلى العلة التي بني عليها الحكم.
وإذا كان الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فزوال الأمية الحسابية عن الأمة في هذه
الأعصار على نحو لم يكن من قبل يقضي بأن يُعتد بالحساب الآن، لأنه أيسر من الرؤية
وأضبط وأقل إثارة للخلاف، بل هو قطعي بلا نزاع في وقت تولد الهلال لو اعتُمد على
ذلك في إثبات دخول الشهر.
فالحساب عندهم يُقاس على الرؤية بجامع كونه دالًّا
مثلها على دخول الشهر وتولد الهلال، ثم هو يحقق حكمتها من التيسير والضبط.
وذلك مثلما قيست القيمة على الطعام في الزكاة
بجامع سدها لحاجة الفقير.
ومثلما قيست الأوراق على الأحجار في الاستنجاء
بجامع حصول الإنقاء.
ومثلما قيست فرشاة الأسنان والمعجون على السواك
بجامع تنظيف الفم والأسنان.
بل مثلما قيست تقديرات مواقيت الصلوات بالساعات
والدقائق على حصول علاماتها الفلكية الثابتة بالنصوص.
وأمّا القول – تبعا للقرافي - بأن رؤية العلامات
الفلكية لمواقيت الصلوات غير مأمور بها بخلاف رؤية الهلال، فغير دقيق، لأن الله
تعالى قال: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الأسود من الفجر}، فغيّا بدء الصيام
ووقت الصلاة بتبيُّن الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، والتبين للخيط الأبيض إنما
يكون بالرؤية، ولا فرق بين أن يقول: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض، وأن يقول: حتى تروا
الخيط الأبيض، ومما يشير إلى هذا أنه عندما
نزلت الآية قال عدي بن حاتم، رضي الله عنه: عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار". (متفق عليه).
فانظر إلى قوله "جعلت أنظر فلا يستبين لي"، فأرشده النبي، صلى الله عليه
وسلم، إلى النظر في سواد الليل وبياض النهار لا إلى العقال الأبيض والأسود.
والمعتمد عليه في هذه الأعصار في مواقيت الصلوات هو
الحساب بالوقت لا غير، ولا يكاد يوجد أحد يتحرى ويتبين الخيط الأبيض من الأسود كل
يوم ليصلي الفجر، بل لو حاوله أحد لما استطاعه بسبب التلوث الضوئي داخل المدن إلا أن يكون في فلاة.
فإن قيل: هناك إجماع قديم على عدم مشروعية الحساب
في تحديد بدء دخول الشهر.
فيقال: على فرض التسليم بوجود مثل هذا الإجماع،
فإنه إذا كان مبنيا على علة، أو على نص معلل بعلة، فهو كذلك يدور معها كما النص
نفسه، ولا يصلح الاستدلال به. فالحساب قديما ولاسيما في عصور السلف وأئمة الاجتهاد
لم يكن شائعا شيوعه اليوم ولا كان دقيقا ولا ميسورا، وكان التعويل على الرؤية أدق
وأيسر فلا غرو حينئذ أن لم يعول عليه الجماهير، بل أجمعوا على عدم مشروعيته وعلى اعتماد
الرؤية جريا مع ظاهر الحديث. أما وقد تغير الحال وصارت الرؤية – مع وجود التلوث
الضوئي في عامة المدن – أكثر عسرا وأقل دقة من الحساب، فإنه يحلّ محلها أو على
الأقل يُقاس عليها من باب أولى.
والمصالح الدنيوية التي تنبني على تحديد أوائل
الشهور سلفًا بالحساب لسنواتٍ تأتي– كما في الأشهر الميلادية – كثيرةٌ لا تخفى، كترتيب الإجازات
والأسفار والحجوزات والرواتب ونحوها، هذا فضلا عما في ذلك من توفير جهود التحري
والترقب، وتقليل اختلاف الناس وتنازعهم، بين من يقول باختلاف المطالع وبين من لا
يقول بذلك حتى إنك تجد في البلد الواحد، بل وفي البيت الواحد، من يفطر مع أول دولة
تعلن الرؤية لأنه مع رأي الجمهور بثبوت الشهر على الجميع برؤية الهلال في بلد من بلاد
المسلمين، ومن لا يفطر لأنه يجيز اختلاف المطالع على رأي الشافعي. وتجد في المدن
والقرى الحدودية بين البلدان المفطر من هذا البلد والصائم من البلد الآخر في الجهة الأخرى لأن دولته لم تر الهلال، وما
بينهما إلا أمتار أو كيلومترات، وفائدة أخرى لا تقل أهمية عما مضى أن التعويل على الحساب يقطع على السياسيين والحكام تلاعبهم بالمسلمين لمقتضيات السياسة في موافقة
بلد ومعارضة آخر.
والله أعلم.
وكتبه أيمن صالح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق