أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الجمعة، 28 أبريل 2023

الاحتجاج بمنهج السلف، رضوان الله عليهم.

نسبة حكم أو منهج أو قاعدةٍ ما للسلف الكرام ليس أمرًا سهلا؛ لأنه - ببساطة - دعوى إجماع، والإجماع لا بد فيه من الاستقراء، والاستقراء يعني الرجوع للآثار المنقولة عنهم، والتدقيق فيها ثبوتًا ودلالة. وما كان للسلف من حكم ورأي، ولو لبعضهم، ولو لواحد منهم = فإنّه مذهبٌ معتبر ينقض الإجماع، ويخرم اتفاق أكثرهم على خلافه.

وممّا تساهل فيه كثير من الفقهاء قديما وحديثا التقليد في نقل الإجماع، أي الاعتماد على ناقل معين نقل الإجماع، كابن المنذر، وابن حزم، وابن عبد البر، وغيرهم، رحمهم الله جميعا، دون القيام باستقراء أقوال السلف وفتاوى الصحابة والتابعين. والصواب "ترك التقليد" في دعوى الإجماع، والتشديد فيها والتدقيق والتحقيق، ولاسيّما ما يُدّعى من إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، رضوان الله عليهم، والاعتياد على الرجوع إلى كتب الآثار وإلى آحاد الفتاوى المنقولة عنهم في الكتب التي اعتنت بنقل فتاواهم وأقوالهم، فكم من إجماع ادعاه ناقل وبان خطؤه، بل ينقل بعضهم الإجماع على حكم في مسألة أحيانا، وينقل آخرون الإجماع على خلافه.

قال الإمام مالك في الموطأ (2/722) في مسألة "رد اليمين على المدعي": «هذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس. ولا ببلد ‌من ‌البلدان». فعلّق ابن حزم على ذلك قائلا: «هذه عظيمة جدا، وإن القائلين بالمنع من ردّ اليمين أكثر من القائلين بردها». ثم قال: «هذا الشافعي يقول في زكاة البقر: "في الثلاثين تبيع، وفي الأربعين مُسنّة، لا أعلم فيه خلافا". وإنّ الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وعمّال ابن الزبير بالمدينة، ثم عن إبراهيم النخعي، وعن أبي حنيفة، لأشهر من أن يجهله من يتعاطى العلم، إلى كثير لهم جدًّا من مثل هذا». (الإحكام لابن حزم  4/ 178).

وقد جمع صاحب "الإجماعات الفقهية التي حكاها الإمام أحمد" مسائل حكى فيها الإمام احمد الإجماع فبلغت ستا وثمانين، وبعد التحقق ظهر وجود الخلاف في ستة عشر منها، أي كان هناك خطأ بنسبة 20% تقريبا. وهذا مع أن الإمام أحمد رحمه االله من أعلم الناس بالآثار فكيف بمن دونه!

وأمّا صاحب «الإلماع بما لم يعلم فيه مخالف، أو تحقق فيه إجماع» فذكر أن:

الشافعي حكى الإجماع ١١٩، وعدد المتحقق منها ٨٤، والنسبة ٧٠.٥٪
وابن جرير حكاه ١٠٢، والمتحقق ٧٤، والنسبة ٧٢.٥٪
وابن المنذر حكاه ٦٧٧، والمتحقق ٤٧٩، والنسبة ٧٠.٧٪
وابن حزم حكاه ٩٤٣، والمتحقق ٧٣٩، والنسبة ٧٨.٣٪
وابن عبدالبر حكاه ٩٣٢، والمتحقق ٦٣٣، والنسبة ٦٨٪
ابن قدامة حكاه ١٣٤٩، والمتحقق منها ٩٨٣، والنسبة ٧٣٪
والنووي حكاه ٧٨٤، والمتحقق ٥٥٣، والنسبة ٧٠.٥٪
وابن تيمية حكاه ٦٠٦، والمتحقق ٤٧٠، والنسبة ٧٧.٥٪
وابن القيم حكاه ١١٠، والمتحقق ٧٧، والنسبة ٧٠٪
وابن حجر حكاه ٢٦٨، والمتحقق ٢٠٨، والنسبة ٧٧.٦٪
وابن مفلح (صاحب المبدع) حكاه ١٧٢، والمتحقق ١٣٥، والنسبة ٧٨.٤٪
والمرداوي حكاه ٢٠٢، والمتحقق ١٤١، والنسبة ٦٩.٨٪
والبهوتي حكاه ٨٨، والمتحقق ٧١، والنسبة ٨٠.٦٪

فيُلاحظ أن معدل نسبة الخطأ في نقل الإجماع في كلام العلماء تصل إلى 30% تقريبا. وهذا مع أن من تحقق من هذه الإجماعات هم افراد قلائل من الباحثين المعاصرين، ولو اجتمعت جهود أكثر في التحقق لزادت نسبة الخطأ في نقل الناقلين للإجماع عن النسب المذكورة، والله أعلم.
 
هذا وفضلا عن ذلك نقول: إن أكثر الذين يحتجون على مذاهبهم بمنهج السلف إنّما يستندون - في أحسن الأحوال - إلى منهج أو قاعدة أو حكم أو طريقة في العمل أو الاستدلال نُقلت عن بعض السلف، أو ربّما، عن كثير منهم. ومثل هذا - على حياله - لا يكفي للاحتجاج؛ لأنه لا يمثل إجماعا إلا بأربعة شروط:

1. أن يثبت كونه قولًا أو فعلًا منتشرًا فيهم. ودليل الانتشار ثبوته بالسند الصحيح عن كثير منهم.

2. ألا يثبت عن أحد منهم ما يدل على خلاف هذا القول أو الفعل.

3. أن تكون الواقعة أو الفعل محل الإجماع مما يتكرَّر وقوعه في العادة.

4. ألا يكون القول مبنيًّا على مصلحة أو عرف أو علة مرتبطة بزمانهم، وقد تغيّرت.

بهذه الشروط الأربعة يتحقّق الإجماع السكوتي - في نظرنا - وهو دليل اختلف الأصوليّون في صحّة الاحتجاج به. والقول في حجّيته وعدمها في غاية الإشكال من الجانبين كما قال السمعاني. والذي نراه أنّه بالشروط المذكورة أعلاه يصح اعتباره حجة ظنية في المسائل، أدنى من السنة، وأعلى من القياس، ولا سيّما ما ثبت انتشاره عن الصحابة. ومعنى كونه ظنيًّا أنّه يُعامل بصفته أحد أدلّة المسألة، لا سيّد هذه الأدلّة، والقاطع لدابر الخلاف فيها.

وقول من قال بقطعية الإجماع من الأصوليين لا يقصد هذا النوع من الإجماع، بل الإجماع الصريح. والصريحُ يصعب تصوّر حصوله، وإمكان نقله، في غير المعلوم من الدين بالضرورة، الذي ينقله العامة عن العامة، مما تضافرت عليه دلالات النصوص، كوجوب الصلاة، وأعداد الركعات، وتحريم الخمر، ونحو ذلك من الأحكام التي يشترك في العلم بها العام والخاص، كما بينه الإمام الشافعي حين سأله محاوره:«فكيف يصحّ أن تقول إجماعا؟ قلت: يصحّ في الفرض الذي ‌لا ‌يسع ‌جهله ‌من ‌الصلوات والزكاة وتحريم الحرام. وأمّا علم الخاصّة في الأحكام الذي لا يضير جهله على العوام، والذي إنّما علمه عند الخواصّ من سبيل خبر الخواصّ، وقليل ما يوجد من هذا، فنقول فيه واحدا من قولين: نقول: "لا نعلمهم اختلفوا" فيما لا نعلمهم اختلفوا فيه، ونقول فيما اختلفوا فيه: "اختلفوا واجتهدوا فأخذنا أشبه أقاويلهم بالكتاب والسنة"». الأم 7/ 278 ط الفكر.

ومن أمثلة ما ثبت من مناهج الاستدلال عن الصحابة، رضوان الله عليهم، ممّا ليس فيه نصٌّ صريح = الاستدلال بالقياس واستعماله. قال الرازي وغيره: أقوى ما تمسّك به مثبتو القياس على حجّيته = إجماعُ الصحابة. قلت: ومع ذلك هذا الإجماع حجّة ظنّية، والقياس - كما قال ابن القيم - حجّيته ظنية لا قطعية. ومن التابعين من أنكر القياس صراحة، كابن سيرين والشعبي.

والله أعلم.


وكتبه أيمن صالح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق