الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:
فبالاستقراء والتأمّل فيما يُوجد عند الفقهاء من
مسائل فقهية، يتردَّد الحكم فيها بين أن يُناط بالمظنة، أو يُناط بالحكمة، وجدتُّ
أنّ تصرُّفاتِهم، تتّخذ أشكالًا أربعة:
الأوّل: أن يقطعوا
الحكم عن المظنّة المنصوصة، ويديروه مع الحكمة وجودًا وعدمًا، وهذا إذا كانت
الحكمة منفردة بالحكم، ومفهومة بوضوح من النصَّ على المظنّة.
ومثاله: «لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان»([1])، أداروا حكم
كراهة القضاء مع تشوُّش الذهن (الحكمة) وجودًا وعدمًا، وقطعوه عن الدوران مع ذات
الغضب (المظنّة المنصوصة)، فكلُّ ما يشوِّش - كالألم والاحتقان والجوع
والعطش المفرطين - مكروهٌ معه القضاء. والغضبُ اليسير غير المشوِّش
يرتفع عنه حكم الكراهة. فالغضب نفسه لم يعد مَناطًا للحكم، بل تشوّش الذهن، وجودًا
وعدمًا([2]).
ومثاله أيضًا: اجتهاد الجمهور في حديث: «إذا استيقظ أحدُكم من نومه فليغسل يده قبل أن يُدخلها
في وَضوئه، فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده»([3])، أداروا حكم
ندب غسل اليد على الشكّ في نجاستها (الحكمة)، سواء أكان ذلك بسبب الاستيقاظ من
النوم (المظنة المنصوصة)، أم غير ذلك من الحالات، ورفعوا حكم ندب الغسل عن
المستيقظ من نومه المتيقِّنِ عدمَ نجاسة يده، كمن نام ويداه مقيّدتان خلف ظهره، أو
كمن نام ويداه في قفّازين. فالاستيقاظ من النّوم ليس مناطًا للحُكم، بل الشكّ في
نجاسة اليد، وجودًا وعدمًا([4]).
والشكل الثاني: عكس الأول
وهو: أن يديروا الحكم مع المظنّة المنصوصة، ويقطعوه عن الحكمة بالكلّية، وهذا في
الأحكام التعبّدية والتقديرية والمخصوصة بأصحابها.
ومثاله: تحريم لحم الخنزير، فالحكمة هي كونه
رجسًا وقذرًا، ومع هذا لا يُقاس عليه غيره من الحيوان، حتى لو فُرض كونه أقذر منه،
ولا يرتفع حكم التحريم عن الخنزير، حتى لو جعلناه يعيش في بيئة نظيفة، ولم نطعمه
إلا طعامًا نظيفًا. فحكم التحريم هنا يدور مع المظنّة (محل الحكم)، وهي تناول لحم
الخنزير، وجودًا وعدمًا، وهو مقطوع عن حكمة التحريم، وهي كون الخنزير رجسًا وقذرًا
أو مصدرًا لكثير من الأمراض، وغير ذلك ممّا يُقال في حكمة تحريم أكل الخنزير.
ومثاله أيضًا: وجوب افتتاح الصلاة عند الجمهور
بلفظ التكبير "الله أكبر" لحِكمة إجلال الله تعالى وتعظيمه، ولا يُقاس
على لفظ التكبير غيره، وإن أدَّى معنى الإجلال والتعظيم، كـ "الله
أعظم"، و"الله أجلّ"، كما أنّ الصلاة تصحّ مع لفظ التكبير، حتى لو
كان المصلّي وقتئذٍ غافلًا عن معنى التعظيم والإجلال (فقدان الحكمة)([5]).
ومثاله أيضًا: الأحكام المخصوصة بالنصّ، كشهادة
خزيمة التي جُعلت بشهادة رجلين([6])، وإجزاء العَناق
عن أبي بردة([7])،
وإباحة الزواج بأكثر من أربع للنبي، صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الأحكام المخصوصة
بأصحابها بالنصّ، التي قد تُفهم حكمةُ تخصيصها بأصحابها، ولكن، مع ذلك، لا يُقاس
عليها.
والشكل الثالث: أن يُبقوا
الحكم دائرًا مع المظنّة المنصوصة لا مع الحكمة، ولكن يشترطون في المظنّة شرطًا
إضافيًّا التفاتًا إلى الحكمة.
ومثاله حكم إباحة الفِطر في رمضان مع السّفر،
أداروا الحكم مع السّفر لا مع المشقَّة، فلم يجيزوا للحمَّالين وأصحاب المهن
الشاقَّة الفطر كالمسافر([8])،
ومع هذا فإنّهم، في جمهورهم، قيَّدوا السّفر المبيح للفطر بكونه طويلًا، وضبطوا طوله:
إمّا بمسافة معيّنة، كأربعة بُرُد، وإمّا بمسافة تُقطع في مدّة معيّنة، كمسيرة
ثلاثة أيام، أو يوم وليلة، وذلك التفاتًا إلى معنى المشقّة([9]).
وكذلك المرض المبيح للفطر ضبطوه بكونه يشقّ، أو يضرّ، معه الصوم، حالًا أو مآلًا([10]).
ومثاله أيضًا: حكم نقض الوضوء بلمس المرأة عند
الجمهور، فالسّبب المنصوص هو مطلق لمس النِّساء، ومع هذا فقد اشترط الفقهاء في هذا
اللمس شروطًا لكي يكون مظنّةً للحِكمة، أي للمعنى المناسب لحصول الانتقاض بلمس
لمرأة، وهو الشهوة، فاشترط المالكية([11]) والحنابلة([12])
وجودَ الشهوة (اللذة) أو قصدَها، واشترط الحنفية([13]) وجودَ المسّ
الفاحش، أي مباشرة الجسد الجسد، إذ المعتبر عندهم شهوة قويّة تكون مظنة لخروج
المذي لا أي شهوة، واشترط الشافعيّة([14]) أن تكون المرأة
من اللاتي يُقصدن باللمس للالتذاذ والشهوة عادةً، فلم يعتبروا لمس الصغيرات، ولا
لمس المحارم، لأنّهنّ لسن مظنّة للشهوة. وكلُّ هذه الاشتراطات - على
تفاوتها - تلتفت في نهاية المطاف إلى حكمة الحُكم بنقض الوضوء من لمس
المرأة، وهو أنّه مظنّة للشهوة والالتذاذ.
والشكل الرابع: وهو عكس
السابق: أن يديروا الحُكم مع الحكمة لا مع المظنّة المنصوصة، ولكن يشترطون مع
تحقُّق الحكمة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى المظنّة المنصوصة.
ومثال ذلك اجتهاد الشافعيّة([15])
والحنابلة([16])
في حديث الاستنجاء أنه، صلى الله عليه وسلم، «أمر بثلاثة أحجار»([17])، فقد أداروا
الحكم على إنقاء المحلّ من النجاسة (الحكمة)، ولم يديروه على استعمال الثلاثة
أحجار (المظنة)، فمن جهة الوجود: قاسوا على الحجارة كلّ مزيل من الطاهرات، كالورق
وغيره، ومن جهة العدم: قالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ.
ولكنّهم، مع ذلك، اشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسَحاتٍ على الأقلّ، وهذا
الاشتراط التفاتٌ منهم إلى لفظ التثليث الوارد في المظنّة المنصوصة.
أمَّا الحنفيّة([18]) والمالكيّة([19])، فأداروا الحكم مع حكمة الإنقاء وقطعوه عن المظنة تمامًا، فأجازوا الاستنجاء بكلّ طاهر مزيل، وقالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ، ولم يشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسحات، بل تكفي المسحة الواحدة إذا كانت مُنقية، فالعبرة عندهم بحكمة الإنقاء لا بعين المزيل ولا عدده. فهم أداروا الحكم مع الحكمة بالكُلِّية، وجودًا وعدمًا، لوضوحها وانفرادها، فاجتهادهم في هذه المسألة من الشكل الأول. والشافعيّة والحنابلة أداروه مع الحكمة، ولكنّهم اشترطوا معها شرطًا استمدّوه من المظنة المنصوصة، إمّا احترامًا لظاهر النصَّ، وإمّا لأنَّهم قدَّروا وجود نوعٍ من التعبُّد في الحكم المنصوص. وإمّا لأمر معنوي وهو أنَّ إنقاء الدّبُر يعسر أن يكون بمسحة واحدة، كما يعسر غالبًا التحقّق من حصول الإنقاء في الواقع لغياب موضعه عن نظر المستجمر، فكان الاحتياط ألّا يُجتزأ بأقلَّ من ثلاث مسحات. وهو ملحظٌ وجيه.
___________________
([1]) أحمد، المسند،
34/14 واللفظ له. قال الأرناؤوط: إسناده صحيح؛ البخاري، الصحيح، 9/65؛
مسلم، الصحيح، 3/1342.
([6]) قال الألباني: «صحيح. أخرجه أبو داود (3607)، والنسائي (2/229)،
والحاكم (2/17 ـ 18)، وأحمد (5/215)». الألباني، إرواء الغليل، 5/127.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق