أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الجمعة، 12 أبريل 2019

ذكر نتيجة البحث في عنوانه أو مقدّمته هل يتنافى مع الموضوعية في البحث؟


الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فيعترض كثير من دارسي أدبيات البحث العلمي ومناهجه على بعض الكتب أو الرسائل أو المقالات أو الأوراق المنشورة أو المقدّمة للنشر بأنها تفتقر إلى الموضوعية والحياد، ويعلِّلون ذلك بأنّ نتيجة البحث مذكورة في عنوان المؤلَّف (الكتاب أو الرسالة أو المقال أو الورقة ...الخ)، أو أن الباحث صرّح في مقدمة مؤلَّفه أو في أهدافه أن ما يكتبه مسوق بقصد إثبات هذه النظرية (الرأي أو القول)، أو تفنيد تلك النظرية (الرأي أو القول)، وهذا يدل على أن نتيجة البحث متبناة لديه سلفًا.

وهذا الاعتراض ليس في مكانه، ولو طُبِّق على مصنّفات القدماء من علماء الإسلام، بل والمعاصرين، لَحَكم على معظمها بعدم الموضوعية وعدم الإنصاف، لأنّ أكثرها إلا ما ندر يتبين منه القارئ نتيجة البحث من عنوانه أو مقدّمته.

وسبب خطأ هؤلاء المعترضين هو أنهم لم يميزوا بين مرحلتين متمايزتين من مراحل الإنتاج العلمي: مرحلة البحث نفسه، ثم مرحلة صياغة البحث (التأليف) لتقديمه للنشر. وبين المرحلتين فرق كبير:

إذ هدف المرحلة الأولى (التي هي البحث) هو حلّ إشكاليّة البحث والوصول إلى نتيجة، كشفا، أو إثباتًا، أو نفيًا، أو تفصيلًا، وعادة ما تشتمل هذه المرحلة على مسوَّدات أوليّة للبحث أو لأجزاء منه.

وأما هدف المرحلة النهائيّة (التي هي التأليف) فهو عرْض البحث للقارئ بأفضل ما يمكن من ترتيب وبيان لإيقافه على نتيجة البحث وما انبنت عليه من أدلّة. وهي المرحلة التي تُكتب فيها النسخة النهائية من البحث بما يشمل مقدماتِه وخواتيمَه، وفيها يستقرّ المؤلِّف على أفضل عنوان يمثِّل مؤلَّفه، الذي قد يكون موافقًا لعنوان البحث عند الشروع فيه، أو مخالفًا له على وجه من الوجوه.

فمثلا قد يكون «مشروع البحث» معنونًا بـ «الحكم الشرعي للمظاهرات السلمية»، وبعد البحث والتفتيش في الأدلة وإعمال النظر فيها، يتبين للباحث أن الحكم هو المشروعيّة مثلا، أو التحريم، أو التفصيل بين حال وآخر، فيُعنون مؤلَّفه في المرحلة النهائية (مرحلة التأليف) بـ «مشروعية المظاهرات في الإسلام»، أو «حرمة المظاهرات في الإسلام»، أو «حرمة التظاهر ضد الإمام العادل» ...، وغير ذلك مما يمكن أن يكون وصل إليه الباحث نتيجةً للبحث. ولعلّ العنونة بهذه الطريقة التي تُضمَّن فيها النتيجةُ في عنوان المؤلَّف أدقّ وأفضل من العنونة العامّة أو المجملة التي كانت عند الشروع في البحث، لأنّ هذه العنونة الخاصة توقف القارئ على غرض المؤلَّف ونتيجته بمجرد قراءة العنوان، وهو أمر محمود لا مذموم، وإن كان بعض المؤلفين يتجنبه لأنّه يقلل من التشويق إلى قراءة البحث الذي يسببه الإجمال والغموض، وكذا لأنه يوحي بانحياز الباحث لرأي معين سلفا مع أنه قد لا يكون كذلك في مرحلة البحث.

والحاصل هو أن متطلبات الموضوعية في المرحلة الأولى (البحث) تختلف عن متطلبات الموضوعية في المرحلة النهائية (التأليف)، فالمرحلة الأولى هي التي ينبغي ألا يجزم الباحث فيها بنتيجة بحثه فيها قبل تمامها. ومن هنا لم يكن مقبولًا في عناوين مشاريع البحث وخططه ما يدلّ على أن الباحث قد استقرّ على نتيجة البحث، لأن مثل هذا يصيِّر مشروعَ البحث وخطتَه خطةً للتأليف لا خطةً للبحث. وأما المرحلة النهائية للبحث (التأليف) فليس من متطلبات اتصافها بالموضوعية عدم تقديم النتيجة في عنوان المؤلَّف أو مقدمته أو أهدافه، بل يكفي أن يكون فيها المؤلِّف منصفا في عرض أدلّة الخصوم المعارضين للنتيجة التي وصل إليها، بأن يستوفيها ذكرا في مرحلة العرض كما استوفاها دراسة في مرحلة البحث، وأن يبين الطعون التي وجهوها للأدلة التي تدعم رأيه، من غير تحريف ولا انتقاء ولا تهويل ولا تهوين.

وبالنظر إلى متطلبات الموضوعية في كلّ من هاتين المرحلتين: البحث والتأليف، نجد أن الباحثين/المؤلفين من حيث الموضوعية أربعة:

الأول: موضوعي في البحث موضوعي في العرض:

وهو في أعلى المراتب وأسلمها، وهو الذي يُقبل على الحقائق والأدلة في مسألة البحث من غير نظريات مستقرة لديه ومتبناة سلفًا، ثم في مرحلة العرض يلتزم الإنصاف بعرض ما يؤيِّد النتيجة التي رجّحها وما يعارضها من غير انتقاء ولا تحريف ولا تهويل لفظي للأدلة المؤيدة وأصحابها ولا تهوين لفظي للأدلة المعارضة وأصحابها.

الثاني: موضوعي في البحث متحيِّز في العرض:

وهو أدنى من الذي قبله. وهو الذي عند البحث يتسم بالحياد لكنه إذا وصل إلى النتيجة طار بها، وهوّن من معارضيها ومن أدلتهم، وقدَّم في هذه الأدلّة وأخّر، وحذف وأبقى بما يخدم إظهار رأيه في أعلى مراتب القوة، ورأي غيره في أدنى مراتب الضعف، بينما الأمر في الحقيقة ليس كذلك، بل قد يكون الرأيان متقاربين متناطحين.

الثالث: متحيِّز في البحث متحيِّز في العرض:

وهو من يبحث لإثبات نتائج متبناة لديه سلفًا ونظريات مستقرة في رأسه، فهذا في الحقيقة ليس باحثًا وإنما مسوِّق أو مروِّج، يهدف إلى الإقناع لا إلى عرض الحقائق كما هي، فهو مؤلّف أو جامع للأدلة المؤيدة لرأيه لا أكثر، متغافل عن أدلة خصومه في الرأي ومعارضيه أو مشوّه لها انتقاء وتحريفًا وتهوينًا.

الرابع: متحيِّز في البحث موضوعي في العرض:

وهو شر الباحثين، هذا إن صّح وصفه بالباحث، لأنّه يوهم القارئ بأنه موضوعي مهتم بالوصول إلى الحقائق مع أنه مجرّد مسوِّق وبائع للرأي، لكنه يأبى أن يظهر في صورة المسوّق ومندوب المبيعات لأن الناس عادة يفترضون بالمسوقين قلة الإنصاف والتحيُّز، فلا يأخذون كلامهم على محمل الجدّ، فلذلك يتحايل صاحبنا بأن يبدو في عرضه لرأيه على أنه نتيجة بحث وصل إليها بطريقة منهجية سليمة، كما يُظهر أنه استوفى النُّقود التي توجهت على النتيجة التي يتبناها والأدلة المعارضة لها بينما هو ليس كذلك، ويغلِّف كلامه بشيء من الثناء على خصومه في الرأي وبيان فضائلهم، وربما سلَّم ببعض نقودهم أو أدلتهم بما لا يؤثر كثيرًا في الرأي الذي يتبناه ويريد الترويج له.

الأربعاء، 3 أبريل 2019

20 موضوعا مقترحا للبحوث والرسائل العلمية في الفقه وأصوله

1. تقسيمات القياس وأنواعه عند الأصوليين

2.أصول الفقه في عهد التابعين: دراسة استقرائية في كتب الآثار

3. أصول الفقه عند سفيان الثوري

4. تجديد أصول الفقه عند مصطفى الزلمي

5. التعليل بالاسم: دراسة تطبيقية في فقه الشافعية

6. الإصلاح الأسري: دراسة في الضوابط الفقهية والأساليب التربوية

7. التجديد في الفقه وأصوله عند الزحيلي

8. اختلاف رواية أحاديث الوقائع النبوية وأثره في الفقه

9. شروط الاجتهاد بين التيسير والتعسير

10. تعارض الأحاديث وأثره في اختلاف الفقهاء: دراسة استقرائية على كتاب بداية المجتهد

11. تعارض اللفظ والمعنى وأثره في اختلاف الفقهاء: دراسة استقرائية على كتاب بداية المجتهد

12. الأحاديث صحيحة الإسناد التي اتفق الفقهاء الأربعة على عدم العمل بها: جمع ودراسة

13. الاحتجاج بقول التابعي في مذهب أحمد: دراسة استقرائية

14. قاعدة الأخذ بما ينطلق عليه الاسم وأثرها في الفقه

15. الخلاف الأصولي: (أسبابه، ومناهج الوقوف على حقيقته)

16. قادح كسر العلة وتطبيقاته في الاجتهادات المعاصرة

17. الأحكام الفقهية المتعلقة بطرق تخسيس الوزن

18. تحرير محل النزاع في مسائل أصول الفقه: دراسة استقرائية

19. أنماط البحث الأصولي المعاصر

20. تعارض المفهوم مع المنطوق وتطبيقاته الفقهية


الأحد، 17 مارس 2019

12 ميزة للكتاب الإلكتروني على الورقي وفي كل خير





اثنا عشر ميزة للكتاب الإلكتروني على الكتاب الورقي، وفي كليهما خير:

1. خفة المحمل: فيمكن حمل آلاف الكتب الإلكترونية في فلاش مموري بحجم رأس الأصبع.

2. التوفير: فالإلكتروني غالبا مجاني أو رخيص جدا مقارنة بالورقي.

3. إمكانية البحث: الكتب الإلكترونية النصية يمكن البحث فيها ـ كما في الشاملة - بسهولة ويسر وسرعة هائلة لا تقارن مع الكتاب الورقي.

4.التحكم في الخط: يمكنك التحكم بخط الكتاب الإلكتروني النصي نوعا وحجما ولونا بما يناسب قوة ناظريك بخلاف الورقي.

5. الرؤية الليلية: بإمكانك ذلك في الإلكتروني دون إضاءة الحجرة، ولكن ينصح بجعل الإضاءة في الحد الأدنى حفاظا على البصر.

6. الإعارة والهبة: يمكنك أن تعير أو تهدي نسخا لا نهائية من الإلكتروني دون الورقي.

7.الوفرة: لأن النسخ الإلكترونية لا تنتهي ولا تتوقف على إعادة الطبع ولا غير ذلك.

8. المحافظ على البيئة: وذلك بتقليل الاعتماد على الورق المتسبب بقطع الأشجار التي توفر الأكسجين وتحافظ على طبقة الاوزون. 

9. سهولة الأرشفة: الكتب الإلكترونية يمكن ترتيبها في مكتبة إلكترونية بكل سهولة وسرعة، وترتيبها بطرق مختلفة: حسب المؤلف والموضوع والعنوان والكلمات المفتاحية...الخ، ويسهل الوصول إليها بخلاف الكتاب في المكتبة الورقية.

10. سهولة الاقتباس: الكتاب الإلكتروني يمكن الاقتباس منه نصا أو صورة لنص بثوان معدودة بخلاف الورقي الذي تحتاج إلى نسخ النص المقتبس منه يدويا.

11. التفاعلية: الكتب الإلكتروني الحديثة يمكن أن تكون تفاعلية وغنية بأنواع الميديا الرقمية الحديثة كالصور ثلاثية الأبعاد و الصور المتحركة وأفلام الفيديو، والأسئلة التفاعلية التي تصحح تلقائيا، وغير ذلك. 

12. التفنن في التعليق: أغلب القارئات الحديثة للكتب الإلكترونية توفر إمكانية التعليق على نصوصها وحفظ هذه التعليقات وتلوين خطوطها والإشارة إلى الأخطاء الطباعية أو تصحيحها. وغير ذلك.

هذه 12 ميزة للكتاب الإلكتروني على الورقي، إحداها كافية في تفضيله عليه، فكيف بها جميعا. 

ولا أرى فضيلة واحدة للكتاب الورقي على الإلكتروني إلا ما يُسمى هراء بـ "البركة"، والاعتياد. وما مثل من يفضّل الكتاب الورقي على الإلكتروني - في نظري - إلا كمن يفضل ركوب الحمار على ركوب الطائرة؛ لأنه يستمتع بركوب الحمار.

تحياتي لعشاق الكتاب الورقي، والخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.😎

الأحد، 10 مارس 2019

ظاهرة رواية الحديث النبوي بالمعنى وأثرها في منهج فقه الحديث

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

ظاهرة "رواية الحديث بالمعنى" اشتط فيها طرفان:

أحدهما: المستشرقون وأتباعهم من الحداثيين الذين اتخذوا هذه الظاهرة الملازمة للنقل الشفاهي مدخلا للطعن في الاحتجاج بالسنة النبوية والتشكيك بها.

والآخر: قوم - من المعاصرين - أرادوا الرد على هؤلاء فزعموا أن الرواية بالمعنى في الحديث جاءت في أضيق نطاق، وجعلوا الأصل هو أن الحديث منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم بنفس حروفه وألفاظه.

والذي أراه - وأزعم أنه مذهب جماهير الفقهاء - هو أن الحق وسط بين هذين الطرفين، وهو أن الحديث منقول في أكثره بالمعنى لا باللفظ.

ويدل على ذلك أمور:

أحدها: ما تفيده الروايات عن السلف وجمهور الرواة في تجويز الرواية بالمعنى من كثرة ذلك وشيوعه عن كثير منهم. قال ابن كثير: "جوَّزذلك [أي الرواية بالمعنى] جمهور الناس سلفاً وخلفاً، وعليه العمل، كما هو المشاهد في الأحاديث الصحاح وغيرها، فإن الواقعة تكون واحدة، وتجيء بألفاظ متعددة، من وجوه مختلفة متباينة". [الباعث الحثيث، ص141]

ومن النقول الكثيرة عن أئمة الرواية ونقلة الحديث في تجويز الرواية بالمعنى وكثرتها وشيوعها [ينظر: كتب علوم الحديث ككفاية الخطيب والمحدث الفاصل للرامهرمزي وجامع بيان العلم لابن عبد البر] ما يأتي:

عن واثلة بن الأسقع، رضي الله عنه، قلنا له، يا أبا الأسقع، حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه وهم، ولا تزيد، ولا نسيان قال: "هل قرأ أحدكم الليلة من القرآن شيئا، فقلنا: نعم، وما نحن له بالحافظين جدا، إنا لنزيد الواو والألف وننقص قال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألون حفظه، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن لا يكون سمعناها منه إلا مرة واحدة، حسبكم إذا ما حدثناكم بالحديث على المعنى.

وعن أبي سعيد الخدري قال: «كنا نجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم عسى أن نكون عشرة نفر نسمع الحديث، فما منا اثنان يؤديانه على حرف، غير أن المعنى واحد».

وعن الشعبي قال: قلت لابن العباس: إنك تحدثنا بالحديث اليوم، فإذا كان من الغد قلبته قال: فقال وهو غضبان: «أما ترضون أن نحفظ لكم معاني الحديث، حتى تسألونا عن سياقتها».

وعن أبي حمزة قال: قلت لإبراهيم النخعي: " إنا نسمع منك الحديث، فلا نستطيع أن نجيء به كما سمعناه، قال: أرأيتك إذا سمعت تعلم أنه حلال من حرام؟ قال: نعم، قال: فهكذا كل ما نحدث".

وعن محمد بن سيرين، قال: كنت أسمع الحديث من عشرة المعنى واحد واللفظ مختلف.

وقيل للحسن: يا أبا سعيد، إنك تحدثنا بالحديث اليوم وتحدث من الغد بكلام آخر؟ فقال: لا بأس بالحديث إذا أصبت المعنى. وقال غيلان للحسن: يا أبا سعيد الرجل، يحدث بالحديث فلا يحدثه كما سمعه يزيد فيه وينقص، فقال الحسن: إنما الكذب على من تعمده. وقيل للحسن: إنك تحدثنا بالحديث أنت أجود له سياقاً منا، قال إذا كان المعنى واحداً فلا بأس. وقال عمرو بن عبيد : «ما سمعت من الحسن حديثا مرتين قط إلا بلفظتين مختلفتين والمعنى واحد».

وعن عمرو بن مرة، قال: إنا لا نستطيع أن نحدثكم الحديث كما سمعناه، ولكن عموده.

وعن جعفر بن محمد، قال: إن رجلين يأتيان من أهل الكوفة فيشددان علي في الحديث، فما أجيء به كما سمعته، إلا أني أجيء بالمعنى.

وعن عبد الرزاق قال: قلت لسفيان الثوري: حدثنا بحديث أبي الزعراء كما سمعت، قال: يا سبحان الله، ومن يطيق ذلك، إنما نجيئكم بالمعنى.

وعن الفريابي، يقول: سمعت سفيان، يقول: لو أردنا أن نحدثكم بالحديث كما سمعناه - وقال ابن برهان: كما سمعنا - ما حدثناكم بحديث واحد.

وعن زيد بن الحباب، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول: إن قلت لكم: إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني.

وعن عبد الرزاق، يقول: قال صاحب لنا لسفيان الثوري: حدثنا كما سمعت، فقال: لا والله ما إليه سبيل، وما هو إلا المعنى.

وعن محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي، قال: سمعت ابن بكير، يقول: ربما سمعت مالكا، يحدثنا بالحديث، فيكون لفظه مختلفا بالغداة والعشي. [هذا مع أن مالكا لا يجيز الرواية بالمعنى، لكن الضبط التام دومًا ليس في القدرة].

وعن علي بن خشرم، يقول: كان ابن عيينة يحدثنا، فإذا سئل عنه بعد ذلك حدثنا بغير لفظ الأول والمعنى واحد.

وعن يحيى بن سعيد، يقول: أخاف أن يضيق على الناس تتبع الألفاظ، لان القرآن أعظم حرمة ووسع أن يقرأ على وجوه إذا كان المعنى واحدا.

وعن أزهر بن جميل، يقول: كنا عند يحيى بن سعيد ومعنا رجل يتشكك، فقال له يحيى: يا هذا، إلى كم هذا؟ ليس في يد الناس أشرف ولا أجل من كتاب الله تعالى، وقد رخص فيه على سبعة أحرف.

وعن محمد بن مصعب القرقساني يقول: إيش تشددون على أنفسكم، إذا أصبتم المعنى فحسبكم.

وعن عبد الله بن سعيد ثنا بن علية عن بن عون قال: كان الشعبي والنخعي والحسن يحدثون بالحديث مرة هكذا ومرة هكذا فذكرت ذلك لمحمد بن سيرين فقال أما انهم لو حدثوا به كما سمعوه كان خيرا لهم.

وقال وكيع: إن لم يكن المعنى واسعا، فقد هلك الناس.

فهذه الروايات لا تدل على تجويز هؤلاء الأئمة للرواية بالمعنى فحسب بل يدل أكثرها على شيوعها وانتشارها وأنه لا سبيل إلى الرواية باللفظ غالبا.

الدليل الثاني: أن العادة المعلومة من أحوال البشر تحيل في النقل الشفاهي غير المكتوب أن يضبط بألفاظه نفسها في الغالب ولاسيما ما يتناقل عبر الأجيال كما في الحديث. ولذلك وقع في كلام الأئمة كسفيان والحسن وغيرهم مع شهرتهم بالحفظ والضبط أنهم لا يطيقون رواية الحديث باللفظ، بل غالب ما يرونه بالمعنى.

الدليل الثالث، وهو أقوى الأدلة: أن غالب الأحاديث الصحاح التي نقلت إلينا - سواء اتحد مخرجها (أي الصحابي) أو تعدد - إنما رويت بألفاظ مختلفة. وقلَّ أن تجد حديثا تعددت رواياته واتحدت ألفاظه. وحسبك في هذا النظر في الأحاديث التي كررها البخاري في صحيحه من طرق مختلفة، وكذلك ما يرويه الإمام مسلم في صحيحه في الباب الواحد من طرق مختلفة، فغالبه إن لم يكن جميعه مختلف في اللفظ قلة وكثرة. وحتى الأحاديث التي قيل بتواترها لا تكاد تسلم من تغيير في الألفاظ وأكثر ما جاء من المتواتر إنما تواتر بالمعنى لا باللفظ كما قاله غير واحد من المحدثين. وحتى حديث" نضر الله امرأ سمع مقالتي فيلغها كما سمعها"، الذي استدل به بعضهم على عدم جواز النقل بالمعنى، ورد بألفاظ مختلفة كـ "رحم الله امرأ" و"رب مبلغ أوعى من سامع"، و"رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، و"رب حامل فقه ليس بفقيه"، وغير ذلك.

قال ابن حجر بعد ما ذكر قصة الثلاثة الذين دخلوا الكهف فأطبقت عليهم الصخرة، وماا فيها من اختلاف الألفاظ والتقديم والتأخير: "وفي اختلافهم دلالة على أن الرواية بالمعنى عندهم سائغة شائعة وأن لا أثر للتقديم والتأخير في مثل ذلك". [فتح الباري لابن حجر 6/ 511)]

وقال السيوطي: "غالب الأحاديث مرويٌّ بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها، فرووها بما أدت إليه عبارتهم فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا، وأبدلوا ألفاظا بألفاظ، ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويًّا على أوجه شتى بعبارت مختلفة".[الاقتراح في أصول النحو، ص74ٍْ].

وقال أبو حيان: "من نظر في الحديث أدنى نظر علم علم اليقين أنهم إنما يروون بالمعنى" [المرجع السابق]

وقال الشيخ محمد رشيد رضا: "لا شك في أن أكثر الأحاديث قد روي بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه العلماء، ويدل عليه اختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها". [تفسير المنار 9/ 422].

وقال الشيخ أحمد شاكر: "والمتتبِّع للأحاديث يجد أن الصحابة – أو أكثرهم - كانوا يروون بالمعنى، ويعبرون عنه في كثير من الأحاديث بعباراتهم، وأن كثيراً منهم حرص على اللفظ النبوي، خصوصاً فيما يتعبد بلفظه، كالتشهد، والصلاة، وجوامع الكلم الرائعة، وتصرفوا في وصف الأفعال والأحوال وما إلى ذلك". [شرح الباعث الحثيث، ص404]

وقال أستاذ الحديث وعلومه د. إبراهيم اللاحم: "الناظر في الأحاديث الصحيحة وفي اختلاف طرقها وفي ألفاظها لا يتخالجه شك أن الرواية بالمعنى كانت هي السائدة". [شرح الباعث الحثيث، دروس مفرغة في المكتبة الشاملة].

الدليل الرابع: أن أئمة الحديث بينوا أن من الخطأ الاتكاء في الفهم على رواية واحدة للحديث بل لا بد من جمع الطرق جميعها حتى يفهم الحديث على وجهه. ولو كان الحديث منقولا بلفظه لما احتيج إلى هذا الأمر. قال ابن معين: "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه"، وقال الإمام أحمد: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا''. وقال ابن المديني: "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه".

وممّا يترتب على هذه الظاهرة (نقل الحديث بالمعنى) وشيوعها أمور:

1. أنه لا يجوز الاستنباط من الحديث والتعويل عليه قبل جمع رواياته جميعا، والنظر فيها ليتبين المعنى المتفق عليه بينها فيكون هو المعول عليه. وأما ما كان تغييرا وزيادة ونقصا فلا يجوز الاحتجاج به حتى يوزن بموازين النقد الحديثية في الجمع أو الترجيح أو التوقف، بشرط عدم التكلُّف في الجمع الذي يكثر منه متأخرو الشراح كالنووي وابن حجر.

2. أن ألفاظ الحديث لا تفيد اليقين إلا إذا تواتر اللفظ، وأن الحديث الغريب (ذو الطريق الواحد) ينبغي أن يتشدد في الاستدلال به، ولا يحتج به حتى يعرض على الأحاديث الأخرى في الباب، وعلى كليات الشرع ومحكمات القرآن.

3. أنه لا يجوز في الاستدلال الإغراق في التمسك بألفاظ الحديث بمعناها الحرفي القياسي من عموم وإطلاق وأمر ونهي، مع عدم الالتفات إلى قرائن القصد والسياق والحال، كما يفعله الظاهرية وبعض أهل الحديث. قال ابن عاشور: "ومن هنا يقصِّر بعض العلماء ويتوحّل في خَضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجّه رأيه إلى اللفظ مقتنعاً به، فلا يزال يقلَّبه ويحلّله ويأمل أن يستخرج لُبَّه. ويهمل ما قدمناه من الاستعانة بما يحفَ بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق". [مقاصد الشريعة الإسلامية 3/ 81]. وقال الشيخ عبد الحميد الفراهي: "السنة معظم العناية فيها نقد الرواة، فلا يتعمق في متونها من قبل خواص ألفاظها وتراكيبها، فإن الروايات أكثرها بالمعنى.وأما القرآن فيُعض عليه بالنواجذ فيُحافظ على حروفه وحركاته ويعتمد على ما يستنبط من نظمه وإشاراته، وينفى الاحتمالات الضعيفة عن تأويل آياته". [التكميل في أصول التأويل ص216].

والله أعلم وأحكم.

السبت، 24 ديسمبر 2011

خواطر في المطلق والمقيد

موضوع المطلق والمقيد موضوع دقيق للغاية وينبغي تحريره جيدا ، وهو ما قد يحوج الباحث إلى الخروج عن طريقة الطرح الأصولي المعتادة في كتب الأصول. وللوصول إلى تحرير مناسب في هذا الموضوع فإن لي الملاحظات الأربع الآتية؟

أولا: ما الفرق بين حمل المطلق على المقيد وحمل العام على الخاص؟ مع انتشار التمثيل بهما على السواء في هذا الباب عند الأصوليين متقدميهم والمتأخرين، كما في {حرمت عليكم الميتة والدم} و {إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا} مع أن "الدم" عام لا مطلق (اسم جنس) و"دما مسفوحا" أيضا عام مخصوص (نكرة في سياق النفي {قل لا أجد...الآية})، وكذا "في الغنم في أربعين شاة شاة" و"في سائمة الغنم زكاة"، فهذه الأمثلة المشهورة للمسألة وغيرها هي من قبيل حمل العام على الخاص لا المطلق على المقيد؟ فهل كان الأصوليون ـ سيما المتقدمين ـ  لا يفرقون بين المطلق والعام والمقيد والخاص، بل يجرونهما مجرى واحدا؟ أم أن ما زعمه القرافي من تأثير الفرق بين الكلية والكلي في هذه المسألة صحيح؟ حيث إن حمل العام على الخاص الموافق له في الحكم يندرج في مسألة "إفراد بعض أفراد العام بالذكر" ـ والأكثرون على أن هذا ليس بمخصص خلافا لأبي ثور ـ ولا يصح التمثيل به على مسألة حمل المطلق والمقيد. وما أراه بادي الرأي في هذه المسألة أن حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد كليهما سواء، وأما مسألة إفراد بعض أفراد العام بالذكر، فهي حيث كان إفراد الخاص بالذكر لا مفهوم له (مفهوم لقب أو قيد غير معتبر) كما في مسألة "أيما إهاب دبغ فقط طهر" وقوله في شاة ميمونة "دباغها طهورها" فلا يصح حمل العام في الحديث الأول على مأكول اللحم فقط استدلالا حديث ميمونة ـ كما نسب لأبي ثور ـ لأن ذكر الشاة في الحديث الثاني (الخاص) مفهوم لقب فلا منافاة بين النصيين، وهذا بخلاف مسألة "في الغنم في أربعين شاة شاة" و"في سائمة الغنم زكاة"، لأن قيد السائمة في الحديث الثاني له مفهوم يدل على نفي الزكاة عما عدا السائمة (مفهوم صفة) وهو يعارض عموم النص الأول فيخصصه. قال السبكي في رفع الحاجب (3 / 351):

إذا أفرد الشارع فردا من أفراد العام بالذكر ، وحكم عليه بما حكم على العام لم يخصصه ؛ ' خلافا لأبي ثور ، مثل ' ما في صحيح مسلم من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أيما إهاب دبغ فقد طهر ' ، وقوله عليه السلام في شاة ميمونة : ' دباغها طهورها ' الشرح : ' لنا ' : أن المخصص لا بد أن يكون بينه وبين العام تعارض ، و ' لا تعارض 'بين الكل والبعض في الحكم إذا حكم عليهما بحكم واحد ، ' فليعمل بهما ' .وأبو ثور ومتابعوه ' قالوا ' : مفهوم تخصيص الفرد بالذكر كما في : ' دباغها طهورها 'نفى الحكم عن المخالف ، و ' المفهوم يخصص العموم ' .' قلنا ' إنما يخصص العموم من المفاهيم ما تقوم به الحجة ، فأما ' مفهوم اللقب 'كالشاة ، فإنه ' مردود ' كما سيأتي إن شاء الله تعالى .وأنا أقول : إن أبا ثور لا يستند إلى أن مفهوم اللقب حجة ؛ فإن غالب الظن أنه لايقول به ، ولو قال به لكان الظاهر أنه يحكى عنه ، فقد حكى عن الدقاق وهو دونه ، ولكنه يجعل ورود الخاص بعد تقدم العام قرينة في أن المراد بذلك العام هذا الخاص، ويجعل العام كالمطلق ، والخاص كالمقيد ، وليس ذلك قولا منه بمفهوم اللقب فافهمه أهـ

ثانيا: ما هو مأخذ القول بحمل المطلق على المقيد؟

هل هو مأخذ لغوي؟ أي أنه جرى سنن العرب في الكلام أن أحدهم إذا تكلم بالمطلق في موضوع ما ثم تكلم بالمقيد في موضوع آخر فإنه يجب حمل المطلق على المقيد؟ (وهذا ربما يعسر إثباته)

أم هو مأخذ عادي؟ لأن عادة الناس في كلامهم ذكر العام والمطلق قاصدين به الخاص والمقيد وإن غفلوا عن ذكر التخصيص والتقييد أحيانا

أم هو مأخذ قياسي؟ وحينئذ يشترط فيه توفر شروط إجراء القياس، سواء أكان قياس علة أو شبه

أم هو مأخذ حديثي؟ بسبب توقع نسيان أحد الرواة للقيد وذكر آخر له؟ وحينئذ فالأمر خاضع لمسألة زيادة الثقة عن المحدثين، وهذا خاص بأدلة السنة لا الكتاب.

أم هو مأخذ أصولي تأويلي؟ للجمع بين الدليلين المتعارضين بتأويل المطلق بالمقيد؟ حيث إن المفهوم المخالف للمقيد يعارض دليل الإطلاق، وكلاهما ظني والقول في تعارضهما كالقول في تخصيص العموم بالمفهوم.

والأمثلة التي يذكرها الأصولييون متنوعة: بعضها يندرج تحت المأخذ القياسي كمسألة الرقبة في كفارة الظهار وكفارة القتل، ومسألة غسل اليدين في الوضوء والتيمم. فالقول في هذه المسائل يتوقف على تحقق شروط القياس وهي أقيسة شبهية يصعب إثباتها. وبعضها يندرج تحت المأخذ الحديثي: كما في النهي عن الإمساك بالذكر في اليمين، ومسألة جعلت الأرض لي مسجدا وترابها طهورا" ومسألة إحداهن أو أخراهن أو أولاهن بالتراب، والقول في هذه المسائل يتوقف على الترجيح بين الروايات أو الكم باضطرابها أو قبول زيادة الثقة إذا تحققت شروط القبول. وهذه صناعة حديثية. وبعض الأمثلة مأخذه أصولي تأويلي؟ راجع إلى التوليف بين مدلول المفهوم المخالف للقيد ومقتضى الإطلاق أو العموم. ولا ينبغي هنا وضع قاعدة عامة بل لكل مسألة مذاق خاص تتوقف على قوة العموم والإطلاق وعلة الحكم الشامل لهما وطبيعة القيد في المقيد هل هو معتبر أم لا، وإذا كان معتبرا هل هو مخيل (مناسب بحيث يظهر من ورائه حكمة) أم لا، وغير ذلك من الاعتبارات، ويحسن التمثيل هنا بمسألة قيد السوم في الغنم لوجوب الزكاة فقيد السوم هو قيد مناسب لحكم الزكاة لأنه يتضمن معنى إعفاء المعلوفة من الزكاة لزيادة الكلفة وهذا أمر معقول.

ثالثا: تفصيل الحالات بذكر اتحاد السبب والحكم واختلافهما تفصيل غير مطرد في المسائل المندرجة وإنما انبثق خصوصا عن مسألة حمل المطلق على المقيد في مسألة كفارة القتل والظهار التي كثر جدل الحنفية والشافعية حولها. والسبب في كونه غير مطرد أنه لا يصلح إجراؤه في الأحكام المبتدأة التي لا تتوقف على أسباب، كتحريم جر الثوب خيلاء مثلا، وكذا في الأخبار التي لا تتضمن أحكاما أصلا، مع أن حمل المطلق على المقيد كما يمكن أن يكون في الإنشاءات ممكن أن يكون في الأخبار كقولك جاء الطلاب وقولك بعد ذلك جاء الطلاب المجتهدون، فيحمل العام من كلامك على الخاص، وليس ثمة سبب هنا ولا حكم. نعم يمكن أن تقول أن السبب هنا ليس هو السبب الأصولي، والحكم هنا هو الحكم اللغوي الذي هو أعم من الحكم التكليفي، لكن هذا فيه خروج عن الاصطلاح الشائع  من غير حاجة داعية وهو غير محمود. والأولى من وجهة نظري أن نقول:

المطلق والمقيد إما أن يتحدا أفي موضوعهما أو يختلفا

فإذا اختلفا فلا حمل بالإجماع

وإذا اتحدا إما أن يتحدا من كل وجه كما في "حرمت عليكم الميتة والدم" و "دما مسفوحا" فيحمل المطلق على المقيد عند القائلين بالمفهوم

وأما أن يتحدا من وجه دون وجه كما في كفارة القتل والظهار واليدين في الوضوء والتيمم وغير ذلك فالأصل عدم الحمل إلا أن يكون بدليل خارجي كالقياس.

رابعا: في بحث هذه المسألة وغيرها الأولى من وجهة نظري استقراء المسائل التي قيل فيها بحمل المطلق على المقيد من كتب الفقه المقارن ثم وسبرها ثم تقسيمها ثم تشييد القواعد، وذلك حتى لا يكون البحث تنظيريا نجري فيه التقسيمات أولا ثم نؤصل القواعد بعد ذلك ثم نبحث عن الأمثلة.

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011

منهج التعلم والتفقه في نظر ابن الجوزي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:

فقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس صيد الخاطر (ص: 183):

"ينبغي لمن له أنفةٌ أن يأنَفَ من التقصير الْمُمْكِن دفعُه عن النفس، فلو كانت النبوة مثلًا تأتي بكسب؛ لم يجز له أن يقنع بالولاية، أو تصوَّر أن يكون مثلًا خليفة، لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صحَّ له أن يكون مَلَكًا، لم يرض أن يكون بشرا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العِلم والعَمل"

قلت ـ أيمن: وهذا هو ما يدندن حوله كثير من المختصين بما بات يعرف في وقتنا الحاضر بعلوم النجاح أو علوم تطوير النفس من التفكير عاليا والتصويب بعيدا والجموح في التهديف (Thinking big).

ثم قال رحمه الله تعالى:

"وقد علم قِصَر العمر، وكثرة العلم: فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسِّطًا، لا يخفى عليه بذلك منه شيء، وإن صحَّ له قراءة القراءات السبع، وأشياء من النحو، وكتب اللغة، وابتدأ بأصول الحديث من حيث النَّقل، كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث، كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك، وقد رتَّبَتِ العلماءُ من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب.

ولينظر في التواريخ، ليعرف ما لا يُستغنى عنه، كنسب الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأقاربه به وأزواجه وما جرى له".

قلت: وهو بهذا يدعو إلى البدء بالمنقولات (القرآن، السنة، اللغات، السيرة)، ولكنه يدعو في ذلك إلى التوسط وعدم الإغراق وإفناء العمر في فن واحد، وقد أشار إلى ذلك بقوله قبل أن يذكر هذا المنهج المتوازن:

"أمّا العالم، فلا أقول له: اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه، بل أقول له: قدِّمِ المهم؛ فإن العاقل من قدر عمره، وعمل بمقضتاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب، فإن وصل، فقد أعد لكل مرحلة زادًا، وإن مات قبل الوصول، فنيتُه تسلك به. فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلًا بسماع الحديث ونسخه، ليحصل كل طريق، وكل رواية، وكل غريب، وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة، خصوصًا إن تشاغل بالنسخ، ثم لا يحفظ القرآن، أو يتشاغل بعلوم القرآن، ولا يعرف الحديث، أو بالخلاف في الفقه، ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة".

ثم استأنف منهج التعلم رحمه الله تعالى فقال:

"ثم ليقبل على الفقه، فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه، فيطلبه من مظانِّه، كتفسير آية وحديث وكلمة لغة. ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، وليعلم أن الفقه عليه مدار العلو".

قلت: وهو في هذا يدعو إلى دراسة الفقهين معا المذهبي والمقارن ويشدِّد على الاهتمام بمسائل الخلاف، مع عدم الاعتماد على كتب الفقهاء في النقل والتفسير واللغة بل يعود إلى مظان ذلك في التفسير يطلبه من كتبه والحديث من أهله وكذا اللغة، وهذا والله منهج رصين لأنه أولا يوصي بدراسة الخلاف في المراحل الأولى وهذا أدفع للتعصب المذهبي وأجدى في توسيع المدارك وتقليب المسائل والآراء وفهم النصوص. وثانيا: لأنه يطلب العودة إلى المصادر الأصلية لا التابعة، وهذه هي قمة الموضوعية والدقة العلمية. وانظر إليه كيف طلب التشاغل والاهتمام بأصول الفقه مع دراسة الخلاف، لأن الناظر في الخلاف من غير تبصر بالأصول يضيع. ثم هو يوصي بالفقه ويجعله الغاية من التعلم، وعليه "مدار العلو" والفقه هنا قد يكون بالمعنى الخاص (أي العلم بالأحكام العملية واستنباطها) وهو الظاهر، أو بالمعنى العام (أي العلم بالنصوص وتدبرها واستباط مراد الشارع منها) وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".

ثم قال رحمه الله:

"ويكفيه من النظر في الأصول [يقصد أصول الدين وعلم الكلام] ما يستدل به على وجود الصانع، فإذا أثبته بالدليل، وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز، وأثبت إرسال الرسل، وعلم وجوب القبول منهم؛ فقد احتوى على المقصود من علم الأصول".

وهو في هذا يزهِّد فيما سُمي بعلم أصول الدين وعلم الكلام وعلوم العقيدة، وهو حقيق بالتزهيد فيه، لأنه لا يزيد طالبه علما ولا إيمانا بل يفتح عليه أبواب الشبه ويقسِّي القلوب ولا يوصل إلى يقين، كما قال الغزالي، رحمه الله، في الإحياء: "فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحرِّكه الدواهي والصواعق، وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مُرسَلٍ في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا، إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقَّفه تقليدا كما تلقَّف نفس الاعتقاد تقليدا".

ثم قال رحمه الله تعالى:

"فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم، فليكن من الفقه، فإنه الأنفع".

قلت: وهو تأكيد آخر على فضل الفقه والفهم والتدبر

ثم قال رحمه الله:

"ومهما فسح له في المهل، فأمكنه تصنيفٌ في علم، فإنه يخلِّف بذلك خلفه خلفًا صالحًا. مع اجتهاده في التسبب إلى اتخاذ الولد".

قلت: وهو هنا يدعو إلى التصنيف وذلك بعد إحكام الآلات والنظر في جملة العلوم، وهو إذ يوصي بالتسبب إلى الخلف العلمي (علم ينتفع به). يدعو إلى التسبب إلى الخلف المادي (ولد صالح يدعو له).

ثم قال رحمه الله تعالى:

"ثم يعلم أن الدنيا معبرة، فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل، فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه. فإذا تعرض لتحقيق معرفته، ووقف على باب معاملته، فَقَلَّ أن يقف صادق إلا ويجذب إلى مقام الولاية، ومن أُريد وُفِّق، وإن لله عزَّ وجل أقوامًا يتولى تربيتَهم، ويبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدبًا؟ ويُسمَّى العَقْل، ومُقَوِّمًا، ويُقال له: الفَهْم، وَيتولى تأديبهم وتثقيفهم، ويُهيء لهم أسباب القرب منه؛ فإن لاح قاطع قطعهم عنه، حماهم منه، وإن تعرَّضت بهم فتنة؛ دفعها عنهم. فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد".

قلت: وهو هنا أخيرا يشير إلى الثمرة النهائية للعلم وهي العمل والمعاملة ويؤخرها عن كل ما تقدم ويجعل مجموع ما حصله من علوم وفقه دالا عليها، لأنه من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق كما قالوا، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. ثم أشار إلى مقام الولاية الناشئ عن العلم والعمل والصدق والإخلاص مع الله ولله فيهما، وأشار إلى التوفيق الإلهي لذلك.

رحمه الله تعالى ما أحسن ما قال على وجازته، وما أنفع ما نصح به على اقتصاده.

الاثنين، 31 يناير 2011

حمل المطلق على المقيد- رؤية مختلفة

ليس للتفريق بين حمل المطلق على المقيد، وحمل العام على الخاص، فائدة عملية تُذكر في نظري، وقد كان المتقدمون يسمون المطلق عاما، ولم يكن هذا يحدث عندهم بلبلة واضطرابا.

أما التفريق بين العام عموما استغراقيا (=العام)، والعام عموما بدليا (=المطلق) فذو جدوى ضئيلة في تعزيز ملكة الاستنباط لدى المتعلم؛ وذلك لأنه أمر فطري تشترك فيه اللغات ولا يحدث لبسا لدى العامي فضلا عن المتكلم. فالطفل الصغير يفرِّق بين قولك: "أعطني كتابا" وقولك: "أعطني الكتب". نعم هناك بعض لبس قد يحدث مع المفرد المعرف بأل هل هو عام عموما استغراقيا أو هو للجنس مجردا (للطبيعة كما يقول النحويون)، أو هو يدل على معرفة معهودة ذهنيا، لكن التفريق بين هذه المعاني سهل جدا بالنظر إلى سياق الكلام والقرائن المحتفة به، لذلك لا أذكر ـ على قلة باعي ـ أن الفقهاء اختلفوا في مسألة بسبب الخلاف في معنى أل في آية ما أو حديث..

أما فيما يتعلق بالتقسيمات المنطقية غير العملية التي وضعها الأصوليون في مجال حمل المطلق على المقيد، فهي ـ من وجهة نظري القاصرة ربما ـ توسُّعٌ غير محمود أوقعهم في كثير من الاضطراب والتعقيد وتكلف الأمثلة وضعفها.

وقد كنت وعدت بإيراد رؤية نقدية لهذه التقسيمات في وقت لاحق ولكن يبدو أني مضطر لتوفية جانب من هذه الرؤية في هذا المقام كبرهان على ما ذكرت، علما بأن ما أقول هنا حري بالتأمل والنقد لا سيما في هذه المرحلة البدائية من البحث.

أولا: في هذه القسمة المقترحة لا بد من الاقتصار في تعريف المطلق على أنه اللفظ الخالي عن القيد (التعريف العام، وهو تعريف اللغويين وبعض الأصوليين). وهذا ينبني عليه عدم السير مع من اصطلح على المطلق بأنه الدال على فرد شائع في الجنس.

ثانيا: وحتى لا يظن أنا نشجع الخلط بين الشائع والمستغرق فعند بحث العام ينبغي على الأصولي أن يُنوَّه بأنه نوعان: عموم الاشتمال وعموم البدل أو الصلاحية، ويفرق بينهما، مع الإشارة إلى أن عموم البدل يسمى عند قطاع عريض من الأصوليين بالمطلق ولكن منعا لتعدد الاصطلاحات وتداخلها يختار عدم استعمال لفظ المطلق بهذا المعنى بل بمعناه الواسع أي اللفظ (أي لفظ) الخالي عن القيود اللفظية.

ثالثا: أهم ما ينبني على اصطلاحي العام والمطلق من مسائل أصولية مسألةُ الجمع بين الأدلة الواردة في موضوع واحد، وهو ما نود بيانه بقسمة جديدة تخالف جزئيا ما شاع في كتب الأصول، فنقول:

إذا ورد دليلان يشتملان على عموم وخصوص في موضوع واحد (أقصد بالموضوع الواحد نفس المسألة محل التناول) فإما أن يتفقا في الحكم أو يتعارضا (ظاهريا).

- فإن تعارضا وكان أحدهما عاما والآخر أخص فهذا هو تخصيص العام، وبموجبه يتم استثناء الخاص من حكم العام. مثلا "حرمت عليكم الميتة"، و"أحلت لنا ميتتان (السمك والجراد) ودمان..."، فهنا يخصص عموم لفظ الميتة فيحمل على الميتات ما عدا السمك والجراد. وأرجو أن ينتبه هنا إلى شيء مهم جدا كثيرا ما يقع اللبس على المتعلمين بسبب عدم فهمه جيدا، وهو نسبية العموم والخصوص. فلفظ "الميتة" عام بالنسبة إلى لفظ "ميتة السمك"، ولفظ "ميتة السمك" عام كذلك بالنسبة لميتة نوع محدد من السمك: كسمك القرش مثلا. وعليه فقولنا هذا عام وهذا خاص هو أمر نسبي لا مطلق، فالعام هو خاص بالنسبة لما هو أعم منه، والخاص هو عام بالنسبة لما هو أخص منه.

- وإن اتفق الدليلان أو اللفظان ـ أي في الموضوع والحكم ـ فإما أن يتفقا في الإطلاق والتقييد أو يختلفا:

* فإن اتفقا بأن كان كلاهما مطلقا أو كان كلاهما مقيدا فهنا لا إشكال ولا تعارض بل هذا من باب توارد الأدلة على المدلول الواحد لتأكيده.

* وإن اختلفا بأن كان أحدهما مطلقا (خاليا عن قيد) والآخر مقيدا فيُنظر (ثلاثة احتمالات):
  1. إن كان اللفظان مختلفين في موضوعهما من كل وجه، مثل: لفظ الأيدي في "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"، و "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"، فهنا لا يحمل المطلق على المقيد بالإجماع، إذ الموضوع المحكوم فيه مختلف في الآيتين والحكم كذلك، والمشترك بينهما هو فقط لفظ "الأيدي". وهذا لا عبرة به.

  2. وإن كان اللفظان متفقين في موضوعهما من كل وجه:
فإما أن يكونا في سياق واحد أو لا.

#فإن كانا في سياق واحد مثل قوله تعالى: "والذاكرين الله كثيرا والذاكرات" فيُحمل المطلق (الذاكرات) على المقيد (الذاكرين الله كثيرا) إجماعا، ولا شك في أن الحمل هنا من باب اللغة وقد ذكر بعضهم لذلك شواهد كثيرة من اللغة لا مجال لذكرها.

#وإن لم يكونا في سياق واحد فكذلك يُحمل المطلق على المقيد عند الجمهور إذا كان للقيد مفهوما مخالفا كما في مثال الدم والدم المسفوح، وعند الحنفية تفصيل لسنا بصدد بيانه هنا دفعا للتعقيد لا تضعيفا لمذهبهم في هذه المسألة بل خلافهم في جانب منه قويٌ مُتَّجِه.
  1. وإن كان اللفظان متفقين في موضوعهما من وجه دون وجه، كاللفظ "رقبة" في كفارة الظهار واللفظ "رقبة مؤمنة" في كفارة القتل، إذ كلاهما في موضوع التكفير لكن لأفعال مختلفة، فالمختار أن لا حمل للمطلق على المقيد إلا أن يصح قياس أحد الحكمين على الآخر.
وعليه فالمسألة هنا ليست لغوية دلالية بل قياسية تخضع لتحقق شروط القياس في المسألة محل البحث، وتختلف من مثال لآخر بحسب قوة القياس وضعفه.

هذا المأخذ في التقسيم لحالات الجمع بين العام والأخص، وحمل المطلق على المقيد هو الذي نراه أكثر سلاسة وعَمَليَّةً من التقسيمات المعتادة عند الأصوليين، وذلك لأسباب:

أحدها: أنه يتجاوز إشكالية التفريق بين حمل العام على الخاص وحمل المطلق على المقيد، وهو تفريق لا ثمرة له على التحقيق في باب الجمع بين الأدلة.

والثاني: أنه يتجاوز الفرض الخطأ الذي اعتمد عليه الأصوليون في تقسيم حالات الحمل، وهو افتراض أن لكل حكم سببا، والخلط بين السبب بمعنى الوصف الذي يترتب عليه الحكم، وبين العلة بمعنى الغرض أو المصلحة المقصودة من الحكم. فالأحكام بالنسبة للأسباب نوعان:

أحدهما: ما يقوم على سبب، كوجوب جلد الزاني ووجوب الكفارة ووجوب صلاة الظهر...الخ،

والنوع الثاني: مُبتدأ لا يترتب على سبب معين، كتحريم الخمر وتحريم الزنا وأكل الميتة.

ولما ألزم الأصوليون أنفسهم بتقسيم حمل المطلق على المقيد تبعا للاتفاق والاختلاف في السبب والحكم ألزموا أنفسهم عند التمثيل بإيراد أسباب لأحكام مبتدأة لا تقوم على أسباب أصلا، ولذلك تجدهم مضطربين في ذكر أسباب هذه الأحكام، ويوردون في ذلك الحِكم والمقاصد والمصالح كما في مثال حكم تحريم الدم.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أنه لا يصح اصطلاحا إطلاق السبب على العلة بمعنى المصلحة والغرض والمقصود، بينما تطلق العلة على السبب، فمصطلح العلة في الاستعمال الأصولي أعم من السبب في هذا المقام.

والثالث: أنه مع شيء من التحرير للألفاظ والتحسين في الصياغة والتزيُّد في الأمثلة سيكون هذا التقسيم أسهل في الفهم وأرفق بطالب الأصول بل وأكثر إقدارا له على تمييز المسائل في مجال التطبيق.

والله أعلم.