الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:
فيعترض كثير من دارسي أدبيات البحث العلمي ومناهجه على بعض الكتب أو الرسائل أو المقالات أو الأوراق المنشورة أو المقدّمة للنشر بأنها تفتقر إلى الموضوعية والحياد، ويعلِّلون ذلك بأنّ نتيجة البحث مذكورة في عنوان المؤلَّف (الكتاب أو الرسالة أو المقال أو الورقة ...الخ)، أو أن الباحث صرّح في مقدمة مؤلَّفه أو في أهدافه أن ما يكتبه مسوق بقصد إثبات هذه النظرية (الرأي أو القول)، أو تفنيد تلك النظرية (الرأي أو القول)، وهذا يدل على أن نتيجة البحث متبناة لديه سلفًا.
وهذا الاعتراض ليس في مكانه، ولو طُبِّق على مصنّفات القدماء من علماء الإسلام، بل والمعاصرين، لَحَكم على معظمها بعدم الموضوعية وعدم الإنصاف، لأنّ أكثرها إلا ما ندر يتبين منه القارئ نتيجة البحث من عنوانه أو مقدّمته.
وسبب خطأ هؤلاء المعترضين هو أنهم لم يميزوا بين مرحلتين متمايزتين من مراحل الإنتاج العلمي: مرحلة البحث نفسه، ثم مرحلة صياغة البحث (التأليف) لتقديمه للنشر. وبين المرحلتين فرق كبير:
إذ هدف المرحلة الأولى (التي هي البحث) هو حلّ إشكاليّة البحث والوصول إلى نتيجة، كشفا، أو إثباتًا، أو نفيًا، أو تفصيلًا، وعادة ما تشتمل هذه المرحلة على مسوَّدات أوليّة للبحث أو لأجزاء منه.
وأما هدف المرحلة النهائيّة (التي هي التأليف) فهو عرْض البحث للقارئ بأفضل ما يمكن من ترتيب وبيان لإيقافه على نتيجة البحث وما انبنت عليه من أدلّة. وهي المرحلة التي تُكتب فيها النسخة النهائية من البحث بما يشمل مقدماتِه وخواتيمَه، وفيها يستقرّ المؤلِّف على أفضل عنوان يمثِّل مؤلَّفه، الذي قد يكون موافقًا لعنوان البحث عند الشروع فيه، أو مخالفًا له على وجه من الوجوه.
فمثلا قد يكون «مشروع البحث» معنونًا بـ «الحكم الشرعي للمظاهرات السلمية»، وبعد البحث والتفتيش في الأدلة وإعمال النظر فيها، يتبين للباحث أن الحكم هو المشروعيّة مثلا، أو التحريم، أو التفصيل بين حال وآخر، فيُعنون مؤلَّفه في المرحلة النهائية (مرحلة التأليف) بـ «مشروعية المظاهرات في الإسلام»، أو «حرمة المظاهرات في الإسلام»، أو «حرمة التظاهر ضد الإمام العادل» ...، وغير ذلك مما يمكن أن يكون وصل إليه الباحث نتيجةً للبحث. ولعلّ العنونة بهذه الطريقة التي تُضمَّن فيها النتيجةُ في عنوان المؤلَّف أدقّ وأفضل من العنونة العامّة أو المجملة التي كانت عند الشروع في البحث، لأنّ هذه العنونة الخاصة توقف القارئ على غرض المؤلَّف ونتيجته بمجرد قراءة العنوان، وهو أمر محمود لا مذموم، وإن كان بعض المؤلفين يتجنبه لأنّه يقلل من التشويق إلى قراءة البحث الذي يسببه الإجمال والغموض، وكذا لأنه يوحي بانحياز الباحث لرأي معين سلفا مع أنه قد لا يكون كذلك في مرحلة البحث.
والحاصل هو أن متطلبات الموضوعية في المرحلة الأولى (البحث) تختلف عن متطلبات الموضوعية في المرحلة النهائية (التأليف)، فالمرحلة الأولى هي التي ينبغي ألا يجزم الباحث فيها بنتيجة بحثه فيها قبل تمامها. ومن هنا لم يكن مقبولًا في عناوين مشاريع البحث وخططه ما يدلّ على أن الباحث قد استقرّ على نتيجة البحث، لأن مثل هذا يصيِّر مشروعَ البحث وخطتَه خطةً للتأليف لا خطةً للبحث. وأما المرحلة النهائية للبحث (التأليف) فليس من متطلبات اتصافها بالموضوعية عدم تقديم النتيجة في عنوان المؤلَّف أو مقدمته أو أهدافه، بل يكفي أن يكون فيها المؤلِّف منصفا في عرض أدلّة الخصوم المعارضين للنتيجة التي وصل إليها، بأن يستوفيها ذكرا في مرحلة العرض كما استوفاها دراسة في مرحلة البحث، وأن يبين الطعون التي وجهوها للأدلة التي تدعم رأيه، من غير تحريف ولا انتقاء ولا تهويل ولا تهوين.
وبالنظر إلى متطلبات الموضوعية في كلّ من هاتين المرحلتين: البحث والتأليف، نجد أن الباحثين/المؤلفين من حيث الموضوعية أربعة:
الأول: موضوعي في البحث موضوعي في العرض:
وهو في أعلى المراتب وأسلمها، وهو الذي يُقبل على الحقائق والأدلة في مسألة البحث من غير نظريات مستقرة لديه ومتبناة سلفًا، ثم في مرحلة العرض يلتزم الإنصاف بعرض ما يؤيِّد النتيجة التي رجّحها وما يعارضها من غير انتقاء ولا تحريف ولا تهويل لفظي للأدلة المؤيدة وأصحابها ولا تهوين لفظي للأدلة المعارضة وأصحابها.
الثاني: موضوعي في البحث متحيِّز في العرض:
وهو أدنى من الذي قبله. وهو الذي عند البحث يتسم بالحياد لكنه إذا وصل إلى النتيجة طار بها، وهوّن من معارضيها ومن أدلتهم، وقدَّم في هذه الأدلّة وأخّر، وحذف وأبقى بما يخدم إظهار رأيه في أعلى مراتب القوة، ورأي غيره في أدنى مراتب الضعف، بينما الأمر في الحقيقة ليس كذلك، بل قد يكون الرأيان متقاربين متناطحين.
الثالث: متحيِّز في البحث متحيِّز في العرض:
وهو من يبحث لإثبات نتائج متبناة لديه سلفًا ونظريات مستقرة في رأسه، فهذا في الحقيقة ليس باحثًا وإنما مسوِّق أو مروِّج، يهدف إلى الإقناع لا إلى عرض الحقائق كما هي، فهو مؤلّف أو جامع للأدلة المؤيدة لرأيه لا أكثر، متغافل عن أدلة خصومه في الرأي ومعارضيه أو مشوّه لها انتقاء وتحريفًا وتهوينًا.
الرابع: متحيِّز في البحث موضوعي في العرض:
وهو شر الباحثين، هذا إن صّح وصفه بالباحث، لأنّه يوهم القارئ بأنه موضوعي مهتم بالوصول إلى الحقائق مع أنه مجرّد مسوِّق وبائع للرأي، لكنه يأبى أن يظهر في صورة المسوّق ومندوب المبيعات لأن الناس عادة يفترضون بالمسوقين قلة الإنصاف والتحيُّز، فلا يأخذون كلامهم على محمل الجدّ، فلذلك يتحايل صاحبنا بأن يبدو في عرضه لرأيه على أنه نتيجة بحث وصل إليها بطريقة منهجية سليمة، كما يُظهر أنه استوفى النُّقود التي توجهت على النتيجة التي يتبناها والأدلة المعارضة لها بينما هو ليس كذلك، ويغلِّف كلامه بشيء من الثناء على خصومه في الرأي وبيان فضائلهم، وربما سلَّم ببعض نقودهم أو أدلتهم بما لا يؤثر كثيرًا في الرأي الذي يتبناه ويريد الترويج له.