أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الخميس، 21 نوفمبر 2019

استعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي: عوائق وتحديات


هذا عنوان بحث نشر لي حديثا في المجلة الأكاديمية العالمية للعلوم الشرعية، وملخصه هو الآتي:
ملخص:
هدفت هذه الورقة إلى دراسة قضايا هامة متعلّقة باستعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي.
فتطرقت إلى فوائدها وسلبياتها، وعلَّلت ظاهرة تراجع التعليم الشرعي رغم تقدم وسائله وتطورها، وأوضحت العوائق والتحديات التي تحول دون استعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي، والضوابط التي ينبغي التقيد بها عند استعمال هذه الوسائل في التعليم الشرعي.


وقد كان ذلك بمنهجية الوصف والتحليل بعد استقراء عدد من الدراسات التي تناولت استعمال تقنيات التعليم
بوضع عام، وتلك التي تناولت استعمالها في التعليم الشرعي بوضع خاص، وخرجت الورقة بعدد من النتائج والتّوصيات تتعلّق باستعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي ولاسيما في مجال تشخيص العوائق والتحديات التي أدَّت وتؤدّي إلى تقليل قدر استعمال هذه الوسائل في التعليم الشرعي مقارنة بالعلوم الأخرى، وفي مجال رسم ضوابط هادية لاستعمال الوسائل الحديثة في التعليم الشرعي الاستعمال الأمثل.


لقراءة البحث كاملا أو تنزيله استخدم هذا الرابط:


الأحد، 17 نوفمبر 2019

23 فكرة مقترحة في مناحي التجديد الفقهي


هذه 23 فكرة في مناحي التجديد الفقهي استقرأتها من الكتب التي تحدثت عن تجديد الفقه، بعضها مهم، وبعضها أقل أهمية، وبعضها فيه مجال للنظر والأخذ والرد:
  1. تقريب الفقه إلى العامّة والدّارسين بصوغه في لغة عصريّة واضحة خالية من التعقيد.
  2. استبدال ما كان قديمًا من الألفاظ والأساليب والاصطلاحات بما حلّ محلّه جديدًا منها، كالأوزان والمقاييس، ونحو ذلك.
  3. ربط الفقه بالدليل المنتج له، ولاسيّما نصوص الكتاب والسنّة.
  4. ربط الفقه بالأصول والقواعد التي بُني عليها «فإنّ كلّ فقه لم يُخرّج على القواعد فليس بشيء» كما قال القرافي (الذخيرة 1/55).
  5. ربط الفقه بالتعليل والمقاصد وحِكَم المشروعيّة.
  6. تحديد الملكات والمهارات الفقهيّة وتصنيفها وتنميتها عن طريق الإكثار من الأمثلة والتدريبات.
  7. ردم الهوّة بين الفقه والحديث والعناية عند الاستدلال بتجنّب الأحاديث الموضوعة والواهية.
  8. مزج الفقه بالقضايا الخُلُقيّة والرّوحيّة.
  9. تأليف الموسوعات الفقهيّة المرتّبة معجميًّا.
  10. إخراج المخطوطات الفقهيّة وتحقيقها.
  11. تنظير الفقه، أي ترتيبه في مفاهيم كبرى جامعة تسري في أبواب عدّة، كنظريّة العقد، ونظريّة الضّمان، ونظريّة التعسّف، ونحو ذلك، على غرار البحوث القانونيّة.
  12. تقنين الفقه، أي صوغه على هيئة موادّ قانونيّة.
  13. المقارنة التشريعيّة في عرض الفقه بين المذاهب الفقهيّة المختلفة حتّى غير السنّي منها.
  14. الاهتمام عند المقارنة بذكر مذاهب الفقهاء غيرالأربعة من الصّحابة والتابعين فمن بعدهم من فقهاء الأمصار.
  15. المقارنة التشريعيّة في عرض الفقه بين الفقه والقانون الوضعي.
  16. توسيع مفهوم الفقه ليشمل العقائد (الفقه الأكبر)، والأخلاق، والفقه المذهبي التقليدي وبحوث السّياسة الشرعيّة.
  17. وضع أحكام عامّة ضابطة للعلوم الاجتماعية المختلفة، كعلم النفس والتربية والإدارة والاجتماع ونحوها، وتسكينها في البناء الفقهي العام.
  18. إعادة ترتيب موضوعات الفقه حتى تتّسع لكلّ ما مضى في بناءٍ واحدٍ متكامل.
  19. تسكين محتوى كتب النّوازل والفتاوى والأقضية والقرارات المجمَعية في مواضعها المناسبة في هذا البناء الفقهي الجامع.
  20. استبعاد الأمثلة والمباحث الفقهية القديمة التي لا واقع لها من الكتب الحديثة، ولاسيّما في التّعليم، كموضوع الرِّقّ مثلا.
  21. وضع كتب فقهيّة من مستويات مختلفة، بعضها يناسب العامّة، وبعضها يخاطب المبتدئين في العلم الشرعي، ثمّ المتوسطين، ثم ّالمتقدمين. وأمّا كتب التراث فيُدرَّب على التعامل معها الذين يرغبون بالتخصّص فقط.
  22. فهرسة كتب الفقه وتكشيفها موضوعيًّا حتى يسهل على الباحثين الوصول إلى بغيتهم فيها بيسر وسهولة.
  23. الاهتمام بالنّشر الإلكتروني للفقه، سواء عن طريق الكتاب الإلكتروني، أم البرمجيات الموسوعيّة الإلكترونية، أم الموادّ الإلكترونية التفاعلية الغنيّة بالوسائط السمعيّة والبصريّة.
هل لديك أفكار أخرى؟ اكتبها في التعليقات.

السبت، 9 نوفمبر 2019

بين الدعوة إلى التمذهب والدعوة إلى اتباع الدليل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه وبعد:

فجماعة "فقه الدليل" ونبذ التقليد والتمذهب يرتكبون خطئا بقولهم: نحن نتبع الكتاب والسنة لا أقوال الرجال، وإنّ هذا هو الواجب على كل مسلم يفقه الدليل وإلا كان من المقلدين الذين ذمهم الله في كتابه.

ودعاة المذهبية من جهتهم يرتكبون خطئا بالإنكار عليهم بقولهم: وأئمة المذاهب يتبعون الكتاب والسنة وهم أعلم بها منكم. ودعوتكم إلى اتباع الكتاب والسنة لا تعني إلا اتباع فهمكم لهما. ووقولكم السابق لا يعدو كونه إنشاء لمذاهب جديدة لا تنحصر، أصحابها أفراد لا يملك أكثرهم أدوات الاجتهاد من لغة ونحو وأصول فقه ومعرفة بالخلاف ومآخذه، أو لا يُسلم لهم بامتلاك هذه الأدوات وإن ظن بعضهم ذلك في نفسه .

أما خطأ جماعة "فقه الدليل" فلأنهم زعموا أنهم يتبعون النص ذاته. وهذا يقتضي بالضرورة أن غيرهم من المتمذهبين لا يتبعه، وأن فهمهم للنص (أو لمجموع النصوص والأدلة في المسائل) هو النص، وهذا غير صحيح، كما أنهم ظنوا باتباعهم الدليل أنهم خرجوا عن التقليد بالكلية بينما أكثرهم مقلد في الحكم ومقلد في تعيين الدليل وفهمه، فتقليدهم مركب لا مفرد، وهو رغم ما ينطوي عليه من زيادة العلم بالمقارنة مع المقلد الذي لا يعلم الدليل إلا أنه يرافقه غالبا جهلٌ من نوع آخر، وهو الظن بنفسه أنه بمعرفة هذا الدليل وفهمه على هذا النحو قد حاز الصواب وأن مخالفه مخطئ غالبا أو قطعا. ثم إنهم لم يتبعوا النص والدليل عندما حكموا بتحريم اتباع مذهب بعينه؛ إذ لا نص في هذه المسألة، وإذا جاز اتباع أكثر من مجتهد في نفس الوقت فمن أين يحرم اتباع واحد بعينه إذا غلب على الظن أن رأيه الصواب كما يظنه أتباع المذاهب في متبوعيهم.

وأمّا خطأ دعاة المذهبية فلأنهم جعلوا "فقه الدليل" بمنزلة إنشاء لمذاهب جديدة. وهذا فيه مبالغة كبيرة لأن المذهب بنيان متكامل من أصول وفروع نصية واجتهادية في كل المجالات من عبادات ومناكحات ومعاملات وجنايات وغيرها، بينما الواقع أن جماعة "فقه الدليل" إنما أبدوا آراء في مسائل محدودة تشكل نسبة ضئيلة من مجموع ما بحثه الأئمة وأتباعهم أصولا وفروعا.

كما أخطؤوا بل ناقضوا أنفسهم عندما زعموا أن الممارسة الفقهية التي يقوم به جماعة "فقه الدليل" تتطلب شخصا كامل الأهلية في الاجتهاد حتى تسوغ منه هذه الممارسة، وذلك لأن جماعة "فقه الدليل" لم يخرجوا عن فقه الأئمة في الجملة فهم لا ينشئون أقوالا بل يتخيرون من بين أقوال الأئمة المسلّم لهم بأهلية الاجتهاد بما بدا لهم أنه الراجح والأقرب للنص والدليل. ولا يملك أحد أن يزعم أن هذا الأمر لا يجوز، بل جمهور الأصوليين - من المتمذهبين أنفسهم - على جواز تنقل المقلد بين المذاهب إذا لم يكن تنقلا للهوى وتتبعا للرخص.

فالقول بوجوب اتباع مذهب معين قولٌ يحمل في طياته تناقضا داخليا، لأنه في ذاته قول غير ملتزم بمذهب معين، أي أنه اجتهاد من غير مؤهّل للاجتهاد (مقلد) لتحريم الاجتهاد؛ فأئمة الاجتهاد لم يقولوا بلزوم تقليد مذهب معين والاقتصار عليه ولا حتى تقليد أنفسهم. وإنما أُثر هذا القول عن بعض مقلدي الأئمة، فكأن هؤلاء المقلدة منحوا أنفسهم أهلية الاجتهاد فأفتوا بما هو خارج عن مذاهب الأئمة في هذه المسألة. فلا أقل من أن يوصف هذا الرأي بالشذوذ بتطبيق القواعد المذهبية نفسها.

فإن قيل هو سد لذريعة الفوضى وتتبع الرخص وتصدر غير المؤهلين للترجيح والفتوى ودعوى الاجتهاد.

فالجواب: أنه إنما يحكم بمقتضى سد الذريعة المجتهد دون غيره وأنتم بإقراركم لستم من أهل الاجتهاد. كما أن الأئمة الذين أخذو بمبدأ سد الذريعة لم يقولوا بوجوب اتباع إمام بعينه في جميع المسائل أو حتى معظمها. والحاجة إلى ضبط الفتوى والاجتهاد كانت قائمة في عصرهم كما هي قائمة في عصرنا، بل ربما في زمنهم أكثر لكثرة المشتغلين بالعلم في ذلك الزمان.

ثم إن جماعة "فقه الدليل" يمكنهم مواجهتكم بنفس الدليل (سد الذريعة) وهو أن الدعوة لاتباع إمام بعينه في كل ما يقول، يلزم منه - بحسب الواقع - التعصب للمذهب والموالاة والمعاداة عليه والتفرق المذموم. وشواهد هذا التعصب وآثاره الكارثية في تاريخ المذاهب حتى وقت قريب كثيرة معروفة مشهورة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنه يلزم من هذا القول مفسدة الحرج والتضييق على الناس بإلزامهم وإلزام علمائهم بما لم يدل على لزومه لا نص ولا إجماع ولاعقل، بل جاء النص: بـ "استفت قلبك وإن أفتاك الناس"، وأجمع العلماء - عمليا - قبل نشوء المذاهب على عدم لزوم اتباع مذهب معين في كل ما جاء به أو حتى في غالب ذلك، إلى أن جاء بعض مقلدة المذاهب وهم الأقل فخالفوا ذلك.

والحاصل هو أن ثمة شططا في تقرير هذه المسألة عند كلا طرفيها في هذا الزمان: دعاة المذهبية، ودعاة "فقه الدليل". وفي نظري أن الصواب وسطٌ بين القولين، وهو يتلخص في نقطتين:

1. التمذهب بمذهب معين ليس بحرام إلا على من بلغ رتبة الاجتهاد. وفقه الدليل ليس بواجب إلا على مجتهد. وهذا خلاف قول دعاة "فقه الدليل".

2. فقه الدليل جائز حتى لغير المتأهل للاجتهاد إذا لم يخرج في اختياره وترجيحه عن أقوال الائمة السابقين من أهل الاجتهاد. فإن أتى بما لم يقله أحد من الأوائل فهذا لا يجوز له؛ لأنه وإن جاز له الاختيار والترجيح فلا يجوز له إنشاء فقه جديد لعدم الأهلية الكاملة للاجتهاد. وهذا القول خلاف قول دعاة المذهبية.
والله أعلم.


الأربعاء، 6 نوفمبر 2019

المبادئ السبعة للارتقاء بالتعليم الجامعي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:

فاعتمادًا على ما يُقارب خمسين سَنَةً من البحث العلمي حول كيفية التعليم وكيفية التعلُّم خرج الباحثان آرثر شيكيرينج وزيلدا جامسون (1987م) بمبادئ سبعة للممارسة الجيدة في التعليم الجامعي.

وقد لاقت هذه المبادئ السّبعة قبولا ورواجا كبيرين لدى كافّة الأوساط الأكاديمية ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية لما تستند إليه من أساس علمي متين. ومن ثمَّ أصبحت هذه المبادئ معيارا تُوزَنُ به كافة مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة الأمريكية، فبقدْر حَظِّ المؤسسة التعليمية من الممارسة لهذه المبادئ يكون اعتمادها وتقديرها ورتبتها.

تَنَصُّ هذه المبادئ السبعة على ما يلي[1]:

التعليم الجامعي الجيد يتصف بما يلي:

1. يُشَجِّع على الاتصال بين الأستاذ والطالب:
إن الاتصال المتكرِّر بين الأستاذ والطالب داخل حجرة الصف وخارجها هو أهم عامل في تحفيز الطالب ودفعه نحو التعلُّم. واهتمام الأستاذ بالطالب يساعد الطالب على تخطي العقبات التي تواجهه، ويجعله يستمر في دراسته واجتهاده. ومعرفة الطالب عن قرب ببعض الأساتذة تعزز فيه الوفاء بالتزاماته الفكرية وتدفعه إلى التفكير بقِيَمِهِ الخاصَّة وخططه المستقبلية.

2. يُنَمِّي التبادلية والتعاون بين الطلبة أنفسِهم:
إن عملية التعلُّم تزداد فعالية عندما ينخرط فيها المتعلمون بصفتهم فريقا واحد لا بصفتهم أفرادا، كل فرد منهم يجري في مضمار مستقل عن الآخر. فالتعلم الجيد هو تماما كالعمل الجيد يقوم على التعاون والاشتراك، لا على التنافس والانعزال. إن العمل بصحبة الآخرين يزيد من انخراط الطلاب في العملية التعلُّمية، وعندما يُبادِل الطالب الطلاب الآخرين أفكاره ويستجيب لردود أفعالهم فهذا من شأنه أن يزيد من حدَّةِ فِكْره ويُعمِّقَ فهمَه.

3. يُشَجِّع (( التعليم الفعَّال )):
التَّعلُّم ليس كمشاهدة مباراة لكرة القدم. لا يتعلم الطلاب جيدا بمجرد الجلوس في حجرة الصف والاستماع إلى الأستاذ، ولا بحفظ المادة العلمية المعدَّة سلفًا، ثم رشق الأستاذ بالإجابات. وإنما ينبغي أن يتحدَّث الطلاب، وأن يكتبوا، حول ما يتعلمون، ثم يربطوه بخبراتهم السابقة، ويحاولوا تطبيقه في حياتهم اليومية. يجب عليهم أن يجعلوا ما يتعلمونه جزءا من ذواتهم.

4. يُزوِّد الطلاب بتقييمٍ عاجل:
معرفة الطالب بالقدْر الذي يعلمه والقدر الذي لا يعلمه تجعله أكثر تركيزًا في عملية التعلُّم. ولذلك يحتاج الطلاب دومًا إلى تغذية راجعة حول أدائهم لكي يستفيدوا من موادِّهم الدراسية. في البداية وقبل البدء يحتاج الطلاب لمن يقيِّم لهم حصيلتهم العلمية وكفاءتهم، وفي حجرة الصف لا بد أن تُتاح لهم الفرصة مرارًا كي يوجِّهوا الاقتراحات ويستقبلوها لتطوير أدائهم. وفي مراحل مختلفة أثناء التعليم الجامعي، وفي نهايته، لا بد من إتاحة المجال للطلاب للقيام بتسجيل ما تعلموه، وتعريفهم بما لم يتعلموه بعد، وكيف يمكنهم تقييم أنفسهم في هذا المجال.

5. يُؤكِّد على أداء المهمَّات في أوقاتها:
الوقت مضافا إليه الجهد يساوي التَّعلُّم. إنه لا بديل عن أداء المهمّات الدراسية في أوقاتها. أنْ يتعلم المرء كيف ينظِّم وقته مهمٌّ جدًا للطلاب والمحترفين على حد سواء. وفي هذا الصدد يحتاج الطلاب إلى مساعدة لتعليمهم كيف يديرون أوقاتهم إدارة فاعلة. إن تخصيص فترات معقولة من الوقت لأداء المهام يعني تعلُّما جيِّدا من قِبَل الطلاب وتعليما جيِّدا من قِبَل الأساتذة. والكيفية التي تصوغ فيها المؤسسة التعليمية توقّعاتها المرحلية المنشودة من الطلاب والأساتذة والإداريين من شأنها أن تضع أساسا لأداء راقٍ من قِبَل الجميع.

6. يَتَوَقَّع نتائج عالية:
تَوَقَّعِ المزيد تحصلْ على المزيد. توقُّعُ الأساتذة والمؤسسة التعليمية نتائجَ عالية لأداء الطلاب مهمٌّ جدا، سواء أكان الطلاب من غير المؤهّلين تأهيلًا جيّدًا، أو من أولئك الذين لا يحبّون بذل الجهد في التعلُّم، أو من المتفوّقين والمجتهدين. فَمِثْلُ هذا التوقُّع سيكون كالنُّبوءة التي تتحقَّق إذا ما اعتقد بها صاحبها، وسيدفع هذا التوقّع الأساتذة والإداريين إلى بذل جهود إضافية لتحقيقه.

7. يُراعي تنوُّع المواهب واختلاف طرائق الناس في التعلُّم.
هناك طرق متعددة يسلكها الناس كي يتعلموا، وينضم الطلاب إلى المؤسسة التعليمية وهم يتمتعون بمواهبَ مختلفة وأنماطٍ متعدِّدَة للتعلّم. فالطالب اللامع في حجرة المناقشة ربما لا يحسن شيئًا في غرفة المختبر أو المرسم، والطالب المبدع في الأعمال اليدوية ربما لا يكون كذلك في الجانب النظري. إذن، لا بدَّ من إتاحة الفرصة للطلاب لإظهار مواهبهم، وجعلهم يسلكون الطريق المناسب لهم في عملية التعلُّم، وبعد ذلك يمكن دفعُهم لسلوكِ طُرُقٍ جديدة في التعلم لا تبدو سهلة.

هذه هي المبادئ السبعة التي وضعها أصحابها أساسا لتطوير وتقييم أداء أي مؤسسة تنخرط في التعليم الجامعي. وتتمتع هذه المبادئ بالعموم المفرط، ولا تشتمل في ثناياها على أيَّة إجراءات عَمَلِيَّة وتطبيقية يمكن امتثالها لتحقيق هذه المبادئ، وهذا شيء مقصود لواضعي هذه المبادئ لأنهم أرادوا لهذه المبادئ أن تنسجم مع أيَّة مؤسَّسة تعليمية سواء أكانت تُعلِّمُ موادَّ نظريةً أم مهاراتٍ مِهْنِيَّةً أم تمزج بين التعليم النظري والمهْني. ويأتي الدور بعد ذلك على كل مؤسسة أن تضع من الإجراءات العملية والوسائل التطبيقية ما تضمن به تحقيق أكبر قدر ممكن من كل مبدأ من هذه المبادئ السبعة. فهذه المبادئ هي مجرَّد موجِّهات عليا للتعليم العالي فحسب.

وفي سبيل تمتُّع المؤسسة التعليمية بأكبر قدْرٍ ممكن من هذه المبادئ فإني أقترح ما يلي:

أولا: دراسة هذه المبادئ وفهمها ثم تَبَنِّيها من قِبَل العاملين في المؤسسة والدارسين.
وفي هذا الصدد يمكن القيام بما يلي:

أ. تخصيص جلسات وعلى كافة المستويات (اجتماع رؤساء الأقسام، اجتماع كل قسم) للحوار والنقاش حول هذه المبادئ بغية فهمها فهما أعمق.

ب.البحث عن متخصصين في العلوم التربوية لإلقاء المحاضرات وعقد ورش العمل للعاملين في المؤسسة في سبيل تعزيز فهم هذه المبادئ عندهم.

ج. عقد جلسات "عَصْف ذهني" (=brain storming) مع الطلبة والأساتذة على حد سواء في سبيل إيجاد وسائل لتفعيل هذه المبادئ.

ثانيًا: وضع خطة سنوية عامة من قبل الإدارة ثم من قبل رؤساء الأقسام ثم من قبل كل محاضر تتضمن الوسائل التي سيتبعها كل منهم من خلال موضعه الوظيفي لتفعيل هذه المبادئ، ومتابعة سير المؤسسة في التقدم نحوها. ثم مراجعة ما نُفِّذ من الخطة في نهاية العام.

يدٌ واحدةٌ لا تُصَفِّق، والجهود الفردية التي قد تُبذَل هنا أو هناك من قِبَل هذا الشخص أو ذاك لتفعيل المبادئ السبعة لن تُؤتي أُكُلَها حتى يكون الأمر عامًّا وكاسحًا وعلى كلّ صعيد، ومن هنا كانت المسؤوليّة الكبرى للرُّقِي بالعَمَليَّة التعلُّميَّة التعليمية تقع على أصحاب القرار لأنّ بيدهم الحل والربط والتدريب والتوجيه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أيمن صالح
عدل في 6 نوفمبر 2019


[1] Chickering, A.W, and Gamson, Z.F. "Seven Principles for Good Practice in Undergraduate Education." AAHE Bulletin, 1987, 39(7), P 3-7.

الثلاثاء، 5 نوفمبر 2019

وصايا موجزة في البحث العلمي ولاسيما في العلوم الشرعية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فهذه وصايا موجزة ومركزة، نتيجة خبرة متراكمة في الإشراف ومناقشة الرسائل العلمية وتحكيم البحوث وتدريس مناهج البحث، ولا سيما في المجال الفقهي، مسرودةٌ على غير ترتيب في الأهمية.

وقد تجمعت عندي على فترة متراخية من الزمن، ولا زالت قابلة للزيادة. 

بعض هذه الوصايا لازم أكيد ولاسيما في العرف الاكاديمي، وبعضها الآخر محل نظر واجتهاد. ومن جهة أخرى بعضها الخطب فيه يسير، وبعضها الآخر في الغاية القصوى من الأهمية.

إليكها:
  1. لا تبدأ بذكر الأدلة قبل استيفاء الأقوال في المسألة، أو بعبارة أخرى، لا تخلط في العرض الأولي بين الأدلة والأقوال بل استوف ذكر الأقوال ثم اشرع بعد ذلك بذكر أدلة كل قول.
  2. عند عرض الأقوال قسّمها تقسيما منطقيا (طرفان ووسط)، أو ردها إلى أصول واتجاهات كلية، ثم تفرعات من كل اتجاه، أو اعرضها عرضا تاريخيا متسلسلا، مع ذكر تاريخ الوفاة بالنسبة للقدماء أو تاريخ نشر الكتاب/البحث بالنسبة للمعاصرين، أمام كل صاحب قول.
  3. حرّر محل النزاع بذكر مواطن الاتفاق قبل البدء بذكر الأقوال في المسألة.
  4. ضمّ المتشابه من الأقوال في قول واحد ثم عدِّد أصحابه. ولا تقل قال الحنفية ثم قال المالكية ثم قال الشافعية ثم قال الحنابلة، موردا نقولا عن كل مذهب منهم، بل انظر إلى المعنى المشترك بين الأقوال ثم انسبه إلى قائليه. فمثلا قل: القول الأول: لا خيار للمجلس في البيع، وهو مذهب الحنفية والمالكية، والقول الثاني: وجود خيار للمجلس. وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
  5. إذا ذكرت أدلة القول فلا تقل: أدلّة القول الأول وتذكرها، ثم أدلّة القول الثاني وتذكرها، بل أعط وصفًا مناسبًا للقول: مثلا: أدلة المجيزين، أو أدلة المانعين. أو أدلة المضيِّقين، أو أدلة الموسِّعين، أو أدلة الموجبين، أو أدلة المحرمين، أو أدلة القائلين بالوجوب، أو أدلة القائلين بالندب، وهكذا...
  6. لا تُطل في التعريف اللغوي إلا لغرض كبيان التطور التاريخي للفظ وصولا إلى المعنى الاصطلاحي.
  7. لا تكرِّر نقل (اقتباس) الفكرة نفسها عن أكثر من كتاب كأكثر من معجم أو أكثر من كتاب فقهي من المذهب نفسه، وإنما اقتبس الفكرة من أحد تلك الكتب وإن شئتَ اسْردِ الكتب الأخرى في الحاشية بعد توثيق الفكرة من مصدرها. وقد تحتاج لتكرار نقل نفس الفكرة أحيانا لغرض: كاشتمال أحد الكتب على زيادة مهمة لا توجد في غيره، أو لأن الفكرة موضع جدل وتحتاج تأكيدا بتكرار النقل عن أكثر من كتاب، أو لأن الاقتباس عن الكتاب عزيز غير مشهور أو موجود في غير مظنته من الأبواب.
  8. ليكن هدفك عند التعريف اللغوي بيان تدرج معنى اللفظ حتى وصوله إلى المعنى الاصطلاحي لا أكثر.
  9. بعض المعاجم كتاج العروس تذكر المعاني الاصطلاحية للفظ فانتبه أن تنقلها على أنها تعريفات لغوية، بل هي اصطلاحية وإن وجدت في المعجم.
  10. من الأهمية بمكان عند بيان معنى اللفظ في اصطلاح العلماء بيان معناه قبل ذلك في خطاب الشارع كتابا وسنة.
  11. إذا نقلت من المعجم فاحرص على تشكيل اللفظ المقصود بالبيان لتفريقه عن مشتقاته.
  12. لا تضع مسافة (Space) قبل علامات الترقيم والتنصيص بل ألصقها بالنص الذي يسبقها من دون مسافة بينهما، وأما واو العطف فبالعكس أبعدها عما قبلها بمسافة وألصقها بما بعدها دون مسافة.
  13. في الحاشية رتّب كتب المذاهب عند التوثيق تاريخيا إلا إذا نقلت بالنص من أحد تلك الكتب فاذكره أولا ثم رتب ما بعده تاريخيا بعد قولك: "وينظر".
  14. إذا نقلت بالمعنى فلا تضع علامتي التنصيص، وإذا نقلت باللفظ فضع علامتي التنصيص.
  15. إذا نقلت بالمعنى من مرجع ما فلا داعي لأن تقول "انظر" أو "ينظر" في الحاشية، لأن رفع علامتي التنصيص يفيد أن الكلام منقول بالمعنى.
  16. "ينظر" بالبناء للمجهول أفضل من "انظر"، ويجادل بعضهم في هذا التفريق، والخَطب يسير.
  17. استخدم "ينظر" في العزو عندما تريد لفت نظر القارئ إلى مراجع معززة للفكرة أو متوسعة فيها أو في أدلتها، وإلا فلاحاجة لكتابتها لمجرد التوثيق بالمعنى، لأن رفع علامتي التنصيص يفيد وحده أنك تنقل بالمعنى او بتصرف.
  18. لا تقل أجمعوا أو اتفقوا إلا نقلا عن أهل النقل في ذلك (مثل ابن المنذر وابن عبد البر وابن قدامة والنووي وغيرهم).
  19. كتب الشروح والحواشي هي ثلاثة كتب لا كتاب واحد، فانتبه عند العزو لا تعزو لأحد تلك الكتب ما ليس فيه، وإذا أخذت منها جميعا فاذكرها ثلاثة باستقلال بعضها عن بعض في ثبت المراجع.
  20. عند نقل الحديث وتوثيقه بيِّن لمن اللفظ من الكتب التي نقلت منها.
  21. وثّق الآية في المتن لا في الحاشية. هذا هو العرف الغالب، وهو أفضل من التوثيق في الحاشية.
  22. انتبه عند النقل من الشاملة إلى تعدُّد الطبعات. انقل من طبعة واحدة واثبت على ذلك في البحث كله ولا تستعمل طبعة أخرى إلا لغرض، مع الإشارة إلى ذلك عند التوثيق من الطبعة غير المعهودة.
  23. شكّل الكلمات الملتبسة فقط، أي التي يظن خطأ القارئ في قراءتها، أو التي يتغير المعنى بحسب حركة آخرها أو أحد حروفها، وإياك أن تنقل من الشاملة أو غيرها بالتشكيل الكامل (إلا النص القرآني) فإن هذا معيب ومزعج في النظر فضلا عن الأخطاء التي يشتمل عليها.
  24. كتاب ابن فارس اسمه مقاييس اللغة وليس معجم مقاييس اللغة كما هو مثبت في الشاملة.
  25. إذا امتد الكلام المنقول على أكثر من فقرة ولم يكن نقلا بالنص بل بالمعنى أو بتصرف فوثِّق كل فقرة على حدتها، وقُل عند توثيق الفقرات التالية للفقرة الأولى "المرجع السابق"، ولا تكتف بتوثيق الفقرة الأخيرة، فيظن القارئ أن المنقول فقط هو الفقرة الأخيرة وحدها.
  26. إذا ذكرت قولا ونسبته لمذهب من المذاهب وكان في المذهب قول غيره فبين ذلك وتأكد بأن المنقول هو معتمد المذهب من الكتب التي اعتنت بنقل المعتمد من كتب المتأخرين في كل مذهب.
  27. اذكر تاريخ وفاة الشخص الذي تنقل قوله عقب اسمه مباشرة ولاسيما عندما تذكره أول مرة.
  28. انتبه بأن اسم الشهرة للعالم ليس بالضرورة يقع في آخر اسمه في كتب التراجم أو كما هو مكتوب على عنوان الكتاب. مثلا الإمام مسلم صاحب الصحيح، اسم شهرته مسلم وليس النيسابوري، والإمام مالك اسم شهرته مالك وليس الأصبحي. إذا خفي عليك اسم الشهرة فانظر إلى غيرك من الباحثين كيف يوثقون الاسم. استعن بمشرفك أو بجوجل.
  29. لا تذكر ألقاب التفخيم مثل: الإمام والعلامة والألقاب الأكاديمية مثل الدكتور في توثيق المرجع، ولك أن تذكر ذلك في المتن، لكن لا في بيانات التوثيق.
  30. إذا كنت تذكر اسم الكتاب عند التوثيق في الحاشية بعد اسم المؤلف، كما هو المعتاد في توثيق الدراسات الشرعية في أكثر الجامعات، فلا داعي لأن تكتبه (أي اسم الكتاب) في متن البحث تجنبا للتكرار، فمثلا: لا تقل في متن البحث: قال النووي في المجموع كذا وكذا، ما دمت ستوثق القول في الحاشية بقولك: النووي، المجموع، ثم رقم الجزء والصفحة.
  31. النقل باللفظ أفضل وأدق من النقل بالمعنى، ولا ينبغي اللجوء إلى النقل بالمعنى إلا لغرض كالاختصار.
  32. في غير الدراسات الحديثية إذا وجد الحديث في الصحيحين أو أحدهما فلا داعي لذكر غيرها من الكتب الحديثية إلا لغرض كلفظة مذكورة في الحديث لم توجد في الصحيحين بل في غيرهما.
  33. عندما تنقل كلاما لعالم عن كتاب تأكد أن الكلام المنقول هو للعالم نفسه لا أنه ينقله عن غيره، أو يذكره في معرض بيان حجج الخصوم لا في معرض بيان حججه هو، أو في أثناء رده على حجج الخصوم.
  34. قال القرافي: كل فقه لم يُخرَّج على القواعد فليس بشيء، لذلك فإن كل رأي أو ترجيح يذكره الباحث دون بيان دليله ووجهه فلا قيمة له.
  35. حافظ على توازن الفصول من حيث الحجم إن أمكن، بما لا يؤثر في التقسيم المنطقي لمحتوى البحث، وإلا فلا تعبأ بالتوازن، لأن تقسيم البحث يخضع لاعتبارات الواقع فقد يكون أحد الأقسام واضحًا فيقل فيه الكلام، وغيره مشكلا فيطول بحثه. واعتبر ذلك بأبواب الفقه ففيها الطويل جدا والقصير جدا.
  36. من المفروض أن يكون الفصل التمهيدي أقصرَ فصل في فصول البحث.
  37. من أكبر عيوب البحوث الاستطراد في غير مشكلة البحث، ويغلب أن يكون ذلك بسبب عدم وضوح مشكلة البحث لدى الباحث أو عدم استحضارها في أثناء البحث.
  38. ما لا يشتمل على إضافة علمية معقولة لم يُسبق إليها (تحليلا أو بناء أو نقدا) لا يُسمى بحثا، وإنما قد يكون جمعا وتأليفا أو مجرد تدريب على البحث.
  39. ما كانت الإضافة فيه إلى ما سبق محصورةً بجمع ما تفرق أو إعادة ترتيب ما تبعثر أو تسهيل ما كتبه السابقون وتيسيره لغة وعرضا أو اختصاره، فهذا تأليف أو تصنيف وليس بحثا بالمعنى الحقيقي للبحث.
  40. توسع في بحث القضايا التي لم يطرقها غيرك من الباحثين قدماء ومعاصرين، واوجز في عرض ما توسَّعوا فيه عرضًا وبحثًا.
  41. ينبغي أن يتسم الباحث بالموضوعية والإنصاف وأن ينعكس ذلك في لغة البحث وطريقة عرضه، وفي القضايا محل الاجتهاد يقبح بالباحث أن يظهر من عنوان بحثه أو مقدمته كونه جازما بنتيجة البحث، وأنه إنما يسوق ما يسوق من البحث تأكيدا لما استقر عنده سلفا وردا على المخالفين. وهذا كثير في المؤلفات الشرعية، وله وجه ذكرناه هنا، لكنه قبيح في البحوث الاكاديمية في القضايا الاجتهادية.
  42. أعظم الجهاد في البحث هو جهاد النفس الباحثة حتى لا تتحيّز للأفكار قبل النظر في دلائلها. ولو قلنا بأن 1% من الباحثين فقط لا يتحيز للفكرة قبل بحثها لكان هذا كثيرا.
  43. ليس من الضروري استيفاء أدلة الرأي المخالف في البحث، بل ينبغي الإعراض عن االواهي والساقط منها كالاستدلال بحديث موضوع مثلا، وإن كان ثم حاجة لبيان استدلال واهٍ، لشهرته مثلا، فيُذكر في الحاشية.
  44. ملخّص البحث ومقدمته وخاتمته وفهرسه هي أهم أجزائه وهي أول ما يقع عليه نظر القُرّاء للبحث فينبغي أن تحظى بعناية الباحث الفائقة شكلا ومضمونا، وأن يشرع في تدوين مسوداتها مع تطور البحث شيئا فشيئا، لا ان تترك كتابتها بالكلية إلى الآخر عندما تكل همة الباحث ويضيق عليه الوقت فيسلقها سلقا.
  45. ملخّص البحث ينبغي أن يشتمل على هدفه الرئيس ونتيجته الرئيسة وأهم توصياته إن وجدت، ولا حاجة لسرد فصوله ومباحثه، وإن تعرض لها فجملة ولا يشير إلى كونها مباحث او فصولا.
  46. عند عرض نتائج البحث في الخاتمة اذكر فقط ما كانت لك فيه بصمة وإضافة لا ما هو معروف وتحصيل حاصل، فالخاتمة ليست اختصارا للبحث بل عرضا لما وصلت إليه أنت بنفسك، وما تحب أن تلفت نظر الآخرين للوصول إليه مما لم يسعفك البحث للوصول إليه.
  47. الإيجاز ثم الإيجاز ثم الإيجاز هو البلاغة، وهو من أقوى ما يدعو إلى قراءة البحث ويقلل الأخطاء فيه، فمن كثر كلامه كثر خطؤه، وملّه القارئ.
  48. احرص كثيرًا قبل نشر البحث على أن يقرأ بحثك مختصٌّ يسعفك بملاحظاته.
  49. إذا كان نحوُك ضعيفًا أو وسطًا فعرضُك البحث على مدقِّق لغوي قبل نشره من قبيل الواجب عليك لا المندوب.
  50. مهارتك في البحث تعتمد على اتساعك في القراءة، فالباحث الجيد هو بالضرورة قارئ ممتاز. أما الباحث الممتاز فهو حتمًا قارئ غير عادي.
  51. أفضل ما يحسِّن مستواك في البحث أن تمارس الكتابة باستمرار (كل يوم)، ولكن لا تحرص على نشر جميع ما تكتب.
  52. عندما تكتب اعتزل المشتتات لا وسائل التواصل والموبايل فحسب بل كل ما يشغل قلبك بغير الكتابة والتفكير فيها. إذا لم تفعل هذا لمدد طويلة ومتواصلة فلن تكتب شيئا عميقا ذا بال بل هو سقط المتاع وهذر كأكثر ما يكتبه غير المحترفين.
  53. حُسن الاقتباس من أهم مواصفات الباحث المطلع النبيه. وحسن الاقتباس يحصل نتيجة لعدد من المعايير أهمها: عدم شهرة الاقتباس وعزتّه، وملائمته لما قبله وبعده من الكلام كأنه جزء منه، ومنزلة "المقتبس عنه" في العلم.
  54. إذا كان بحثك سيرسل للتحكيم أو يخضع للمناقشة فلا تجعله خاليا من بعض العيوب الشكلية اليسيرة التي يمكن إصلاحها بيسر، والسبب هو أن أكثر الحكام والمناقشين إذا لم يجد عيبا في البحث اخترع له عيوبا وصار يعترض على البحث اعتراضات معنوية تؤثر في جوهره ويعسر على الباحث الوفاء بها إما لأنها خطأ أصلا أو مجرد وجهة نظر للحكم لا يستسيغها الباحث. ولكن إذا وُجدت في البحث بعض العيوب الشكلية اليسيرة تشاغل أكثر الحكام بها واكتفوا عن تكلف غيرها.
  55. من أفضل ما يعين على فهم المسألة محل البحث والوصول إلى نتيجة جيدة فيها تعقبها تاريخيا وتتبع مراحل نموها وتطورها منذ النشأة حتى الوقت الحاضر. وهذا المنهج التاريخي، على أهميته في دراسة المسائل، من اكثر المناهج غيابا عن الدراسات الشرعية للأسف. وممن أبدعوا في تطبيقه الدكتور محمد مصطفى شلبي في كتابه: تعليل الأحكام.
  56. من الأخطاء التي يقع فيها المبتدئون في البحث والكتابة أنهم يقرنون بين الكتابة والانشغال بالتنسيق والتوثيق والتحرير والمراجعة للمكتوب في الوقت نفسه. والصواب إرجاء كل ما عدا الكتابة إلى حين الانتهاء من إفراغ كل ما في الذهن من الأفكار المتداعية في الموضوع. إذا شغّلت العقل المبدع فأقفل العقل المحرِّر.
  57. ومن أخطائهم أيضا المزامنة بين المطالعة والبدء بكتابة مسودة التأليف فصلا ففصلا. والصواب ألا يُبدأ بالكتابة إلا: 1.بعد حصول قدر كاف من المطالعة محيطٍ بالموضوع، 2.وبعد تقييد الاقتباسات والأفكار المنقدحة أثناء المطالعة وفي أوقات التجلي، 3.وتجميع كل ذلك وتصنيفه 4.ثم مراجعته.
  58. إذا أردت أن تكون كاتبا جيدا:1.فاقرأ. 2.ثم قيِّد الفوائد وسوانح الأفكار. 3.ثم رتب ما قيدته في مكان آمن. 4. ثم راجعه على فترات. 5.ثم اكتب (وحينئذ ستجد أن الكتابة تتدفق من رأسك كالماء المنصبّ). 6.ثم أخيرا حرِّر ونسِّق. وبغير هذا كله لن تكون كاتبا بل إما ناقلا أو سارقا.
  59. كثرة المطالعة مهمة جدا للباحث الجيد كأهمية الوقود للمحرك، ولكنها ليست هي فقط ما يميز باحثا عن باحث؛ إذ أهم منها المنهج الذي يتبعه الباحث في جتي ثمرات القراءة والمطالعة، وأعني بذلك أسلوبه في تقييد الفوائد وتصنيفها وربط بعضها ببعض وتأمله فيها، والنظام الذي يتبعه في مراجعتها أولا بأول.
  60. أهم معوّقات البحث والكتابة العلمية، من الأقوى إلى الأضعف: 1. ضعف التأسيس العلمي في التخصص 2. الجهل بطرائق البحث والكتابة 3. دنو الهمة أو فتورها 4. عدم الجَلَد على القراءة وتقييد الفوائد 5. كثرة الشواغل وانعدام التركيز 6. الخوف من النقد 7. النزوع نحو الكمالية 8. ضعف موهبة التعبير.

    آخر تعديل 1 مايو 2021

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

البديل الشرعي عن الاقتراض الربوي الصريح والمُبطَّن (الإسلاربوي)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:

فقد جاء رجل إلى مالك بن أنس [يستفتيه] فقال: يا أبا عبدالله، إني رأيت رجلاً سكراناً...، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرُّ من الخمر. فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشرّ من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب". تفسير القرطبي (3/ 364).

وقال الشيخ سيد قطب [في ظلال القرآن (1/ 318)]: "لم يبلغ من تفظيع أمرٍ أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا... ولله الحكمة البالغة. فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره. ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث".

ومن أكثر الأسئلة التي يُواجه بها من يُحرِّم الاقتراض من المصارف بنوعيها: الربوي الصريح والربوي المبطن (الإسلاربوي): ما البديل؟

وهذا السؤال، حتى على فرض عدم الجواب عليه، لا ينبغي أن يُتّخذ ذريعة لاستحلال الحرام أو التحايل عليه، فأحيانا يكون البديل هو "عدم وجود البديل"، وذلك لقصد الشارع قصر الناس على حلول بعينها فإن لم تتيسّر فليس لهم إلا الصبر حتى تتيسر.

ومثال ذلك الزواج، فمن لا يملك المهر، ولا تكاليف الزواج، لا يُقال له البديل أن تمارس الزنا الصريح، أو الزنى المبطن، كزواج المتعة أو السياحي (الذي بنية الطلاق) ونحو ذلك، بل يقال له: استعفف واصبر، كما قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، وكما قال، صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» متفق عليه.

وفي موضوع الربا البديل الشرعي: منه ما هو منصوص عليه ولذلك كان موضع إجماع من العلماء، واحتلَّ بيانه مساحة واسعة في كتب الفقه الإسلامي في باب المعاملات، ومنه ما هو موضع اتفاق بين جماهير العلماء، ولكن للأسف كلا البديلين غير موضوع موضع التطبيق من قبل من لهم القدرة على التطبيق من الرأسماليين وأصحاب المال، والسبب هو ما جُبلت عليه النفوس من الشح والجشع والطمع من جهة، ومن جهة أخرى انتشار الوسائل المحرمة والمشبوهة للتمويل التي حلت محل الطرق الحلال الصرفة، تماما كمشكلة تأخر سن الزواج والعزوف عنه هذه الأيام، من أسبابه الكبرى مبالغة الناس في تكاليف الزواج ومتطلباته من جهة، ووجود فتاوى تبيح صورًا ممسوخة بديلا عن الزواج الشرعي، كزواج المتعة والزواج السياحي، من جهة أخرى، وشيوع الزنا الحرام الذي قلَّل من الدافع الطبعي إلى الزواج الحلال من جهة ثالثة.

القرض بحسب المقصود منه نوعان: استثماري واستهلاكي:

الاستثماري يُراد به استغلال مال القرض في مشاريع تدرّ دخلًا.

والاستهلاكي يُراد به شراء سلع لاستعمالها لا لاستثمارها، كشراء بيت لسكنه، أو سيارة لركوبها.

البديل الشرعي للقروض الاستثمارية هو المشاركات بأنواعها، وقد احتلّ التنظير للمشاركات وبيان أحكامها مساحةً واسعة في الفقه الإسلامي القديم، والخلاصة في ذلك أن المسؤولية عن الاستثمار تقع على عاتق المموّل (المصرف) والعامل سواء، فهم شركاء في الربح والخسارة، لكن المصرف يخسر المال والعامل يخسر الجهد إلا إذا تعدى أو قصر فتلحقه الغرامة بقدر تعديه أو تقصيره. وثمة دراسات كثيرة معاصرة هدفت إلى التنظير لتطبيق المشاركات في السياق المصرفي الحديث، كالمضاربة المشتركة، وصكوك المضاربة، وسبل الحد من مخاطر المضاربة وغير ذلك. وفكرة المشاركات هذه هي الأساس الذي قام عليه التنظير للمصرفية الإسلامية على يد المنظرين الأوائل في القرن الماضي، وعُدت البديل الشرعي الأساسي للتمويل المصرفي الربوي، ومع ذلك فنسبة تطبيقها في التمويل في المصارف التي تُسمّى إسلامية هذه الأيام محدودة جدا لا تتعدى 5% من مجموع المعاملات في أكثرها كما تشير إليه بعض الدراسات. والسبب في ذلك وجود طرقٍ أخرى مشبوهةٍ للتمويل أجازها بعض المعاصرين، وفَّرت ملاذا آمنا للمصرفيين – ذوي الخلفيات الربوية في أكثرهم – للتعامل بها بدلا من معاناة المشاركات الشرعية وما تحتاجه من جهود وموارد ودراسات جدوى لتقليل المخاطرة فيها. ورأسُ المال بطبعه جبان، كما قيل، إذا وجد طريقين للكسب: أحدهما آمن أو شبه آمن ولا يحوج إلى تعب ودراسة وتحوّط، وآخر: فيه مخاطرة أو يحوج إلى تعب ودراسة، فإنه يسلك الطريق الآمن. والمأمول في هذا الصدد أن تنشأ مؤسسات استثمارية إسلامية تخوض الاستثمار التشاركي الحقيقي: إما مباشرة بمشاريع زراعية أو تجارية أو صناعية أو عقارية، وإما عن طريق إنشاء شراكات شرعية مع مستثمرين وتُجّار، تقوم على مبدأ الاشتراك في الربح والخسارة أو الغنم بالغرم.

وأمّا القروض الاستهلاكية فاتجاه الشرع ومقاصده يشيران إلى التقليل منها بالقدر الممكن، لذلك كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتعوّذ من الدين، وأخبر بأنّ الشهيد يُغفر له كل ذنوبه إلا الدين، ورفض أن يصلي على من مات وترك دينا. وقد انتهى الدكتور سامي السويلم (1417هـ/1996م) في خاتمة بحثه "موقف الشريعة من الدين" إلى أنّ النصوص الشرعية جاءت بالتشديد في الدين والتخلص منه وإن أجازته بشروط منها قيام مصلحة شرعيّة للاستدانة، وأنّ المتتبع للأحكام الشرعية يلحظ جليًّا قصد الشارع إلى إبراء ذمّة المكلَّف من الدين وتطلّعه إلى منع استفحال المديونية في التعاملات المالية.

 وأمّا عند الحاجة إلى المال للاستهلاك،  فالبديل الشرعي عن اللجوء إلى القرض الربوي، أحدُ أربعة أمور لا غير:

الأوّل: الصّدقة، بأن يتصدّق الأغنياء بأموالهم على ذوي الحاجات، سواء من زكاة المال أم تطوّعا، ويدلّ على ذلك قرن الصدقة والزكاة والنفقة بآيات تحريم الربا في القرآن في أربعة مواضع:

1.{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ... وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 280].

2.{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39].

3.{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].

4.{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130]:  ثم قال:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، 

والبديل الثاني: هو القرض الحسن، حيث قال تعالى في ثنايا آية تحريم الربا: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}[البقرة:279]. واسترداد رأس المال دون زيادة هو القرض الحسن، وهو على النصف من أجر الصدقة كما ورد في الآثار.

ولا بأس في القرض الحسن أن تُحتسب عند سداده قيمة التضخُّم (نقص قيمة العملة نتيجة لارتفاع أسعار السلع والخدمات) بل هذا هو الأرجح والأعدل، فألف ريال قبل عشرين سنة لا تساوي ألف ريال هذه الأيام، ووقد قال الله تعالى: "فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون"، فعلَّل بالظلم، ومن الظلم البيّن أن يُردّ القرض إلى صاحبه بعدده النقدي إن نقصت قيمته الشرائية، ولا سيما مع النقص الفاحش، كما في القروض طويلة الأجل.

والمقترح في تطوير ممارسة سنة "القرض الحسن" إنشاء صناديق وقفية للقرض الحسن، تقوم عليها مؤسسات خيرية غير ربحية تُقرض الناس المحتاجين لزواج أو لنحوه من الحاجات، بضمانات كالكفالة والرهن وغير ذلك، وتُحتسب مع القرض قيمة التضخم سنويا، يُضاف إليها احتساب رسوم يسيرة مقطوعة لقاء مصاريف الخدمة بما يغطي تكاليف تسيير عمل الصندوق كأجرة المكان والموظف ونحو ذلك، وليس هذا من الربا في شيء. ويُعطى الأثرياء والمحسنون الذين وقفوا شيئا من أموالهم في هذا الصندوق الحق في تزكية من يشاؤون من الناس للاقتراض من هذا الصندوق في حدود قدر المال الذي أوقفوه. وهذا من شأنه أن يشجِّع المحسنين على الوقف في هذا الصندوق.

كما يمكن في نفس السياق تطوير الممارسة التعاونية التي تُسمّى في بعض البلدان بـ "جمعية الموظفين"، أو "الجمعية"، والتي تقوم على اتفاق بين مجموعة من الناس على إنشاء صندوق عند شخص موثوق يُودع كل منهم فيه مبلغا شهريا، ثم يتفقون على إعطاء المبلغ المتجمع في كل شهر لأحد المشتركين دوريًّا: إما بالقرعة وإما بالتراضي. وهو نوع من التعاون المحمود لأنه يشجع على الادخار ويسد حاجات بعض الناس بطريق القرض الحسن بعيدا عن الربا. والمقترح في تطوير هذه الممارسة أن يكون ذلك عن طريق مؤسسات التوظيف في القطاعين العام والخاص فتُلزم هذه المؤسسات قانونيًّا بإنشاء مثل هذا الصندوق في كلٍّ منها، ويكون الاشتراك فيه اختياريا للموظف وبقدر ما يناسبه من القسط، ويُخصم المبلغ من راتبه في رأس كل شهر قبل أن يُسلَّم إليه.

والبديل الثالث: البيع بالثمن الآجل أو البيع بالتقسيط، وإن اشتمل على زيادة عن سعر الثمن الحالّ (الكاش)، فهذه الزيادة أجازها جماهير الفقهاء، وإن كرهها قلائل من العلماء قديمًا وحديثًا وحملوا عليها حديثه، صلى الله عليه وسلم، أنّه "نهى عن بيعتين في بيعة". رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح. وهذا البديل يجري التحايل عليه من قبل المصارف الإسلاربوية هذه الأيام  حيث تتوسَّط هذه المصارف بين التاجر والمشتري لتظفر هي بالزيادة المقابلة للأجل، فتصبح في نهاية المطاف هي الدائنة للمشتري لا التاجر. ومعظم العقود التي تنتحيها هذه المصارف تقوم على مبدأ التوسّط هذا، وأقلّها سوءًا ما يُسمّى بعقد المرابحة للآمر بالشراء، أو المرابحة المصرفية، وهو عقد مشبوه يكاد يتفق قدماء الفقهاء على تحريمه وكراهته، كما بينّاه في بحث مفصّل (تجده هنا) خصصناه للتحقق من نقل أقوال العلماء ومذاهبهم في هذا العقد بسبب ما توارد عليه المعاصرون من أخطاء في نسبة هذه الأقوال وتحريرها. والعلة في تحريم هذه الوساطات المصرفية هو شبهها الكبير بالربا واتحادها معه في توليد نفس الآثار الاجتماعية والاقتصادية الفاسدة.

والبديل الرابع: بيع السلم، وهو بيع سلعة مؤجلة موصوفة في الذمّة مقابل نقد معجل. وقد أجمع الفقهاء على جوازه، وفيه تيسير ورخصة على من احتاج إلى النقد وليس عنده سلعة في الوقت الحاضر عوضا عن النقد. كالمزارع يحتاج إلى نقد قبل وقت الحصاد، والصانع يحتاج إلى نقد قبل الانتهاء من صناعة السلعة، والمقاول قبل الانتهاء من بناء الشقة أو البيت.

ولا بديل عن القرض الاستهلاكي غير هذه الأربع: الصدقة، أو القرض الحسن، أو البيع بدين (من التاجر مباشرة)، أو السَّلم، إلا الصبر. وهذا الحصر في هذه البدائل التي لا يتيسّر الحصول عليها كثيرًا في الواقع المُعاش مقصودٌ للشارع للحد من الاقتراض والدين إلا لحاجة؛ لأن تسهيل الاقتراض الاستهلاكي – ولاسيما الربوي وشبهه – له عواقب وخيمة على المجتمع والاقتصاد، فهو يزيد من عرض النقد، ولا سيما مع ترويج المصارف للاقتراض وتشجيعها الناس عليه بالدعاية ومنح بطاقات الأئتمان، وكذا ترويج التجار للسلع عن طريق الدعايات التي باتت في كل مكان، فيؤدي هذان الأمران: تسهيل الاقتراض والدعاية إلى السلع إلى التضخم النقدي بنقص قيمة العملة وارتفاع الأسعار، كما يؤديان على الصعيد الاجتماعي إلى رسوخ الأعراف والأنماط المعيشية الاستهلاكية البذخية بين الناس، والناس كأسراب طير يتبع بعضهم بعضا، وويرافق ذلك المشكلات الناجمة عن الديون والإعسار بها. هذا فضلًا عن تحويل ذوي الأموال عن الاستثمار في المشاريع الإنتاجية إلى الاكتفاء بالإيداع في المصارف بسبب ما توفّره لهم المصارف من عوائد آمنة على ودائعهم النقدية مع ضمان رأس المال وسيولته عند الطلب، وهذا التحويل عن الاستثمار في المشاريع الإنتاجية  له أضراره المهولة على الاقتصاد الكلي للبلاد، ولذلك تلجا الدول إلى تقليل سعر الفائدة في وقت الركود وإحجام الناس عن الاستثمار لدفعهم لسحب أموالهم من البنوك وتشغيلها في السوق أو الأسهم.

والصدقة والقرض الحسن والبيع بدين (من التاجر مباشرة) والسَّلم بدائل معتدلة عن الاقتراض الربوي الصريح والمبطن، لا تؤدي إلى مفاسده، لأنها لا تكون في مُطَّرد العادات إلا لذي حاجة، وفي الحد الأدنى، وبما لا يرهقه في السداد ولا سيما مع وجوب إنظار المعسر بالدين شرعًا. وقد كانت هذه البدائل هي المتوفرة فقط للأمة الإسلامية لتمويل القروض الاستهلاكية الحاجية إلى أن فشا الربا في العصر الحديث بصورته الصريحة في المصارف الربوية، وبصورته المبطنة في المصارف الإسلاربوية. وقد انحسر دورها وقلَّ وجودها في الواقع هذه الأيام نتيجةً لانتشار الربا؛ لأن الربا كما قال جعفر الصادق، رحمه الله – وأيّد ذلك ابن تيمية – يمنع الناس بذل المعروف. ومثال ذلك – كما أسلفنا – الزنا الذي من نتيجته انحسار الزواج. ففتح باب الحرام على مصاريعه يضيِّق باب الحلال بلا بدّ، وكذلك سهولة الإقراض الربوي وأشباهه والتربح منها يمنع الأغنياء من بذل أموالهم في الصدقة والقرض الحسن والبيع بدين، لأنهم يطمعون في تكثيرها بالربا السهل مضمون العائد غالبا، صريحا أو مبطنا، كما يقلل من لجوء الفقير ومحدود الدخل ومتوسطه إليهم لاستغنائه بالقرض الربوي عن القرض الحسن الذي سيضطر معه إلى إراقة ماء الوجه.

والحاصل هو أن عدم وجود البديل، أو تعسره في هذه الأيام، ما هو إلا نتيجة لانتشار الربا بصورتيه الصريحة والمبطنة، ولو مُنع الربا بكل صوره لشاعت الصدقة والقرض الحسن ورضي التجار بالبيع الآجل إلى حد معقول، كما كان قديما. وقد أشار المقريزي، ووضع غريشام الإنجليزي ذلك في قانون: "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول" والسبب أن الناس يستسهلون التداول بالعملة الرديئة ويحتفظون بالعملة الجيدة لأنفسهم، وكذلك انتشار الربا الحرام والمعاملات شبه الربوية التي تروِّجها ما تسمى بـ "المصارف الإسلامية" كالتورق المنظم وأضرابها، تحد من تعامل الناس بالبدائل النظيفة النقية من الحرام والشبهة كما ذكرناها آنفا.

وأما المضطر للقرض الربوي هذه الأيام لعلاج مثلا أو لدفع حبس، ولم يجد بديلا حلالا فالضرورات تبيح له المحظورات، فيجوز له الاقتراض بربا، بل إن الحاجة الماسّة تُنزّل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة، عند جمع من العلماء، ومثال ذلك دفع فاتورة السكن أو فاتورة المياه والكهرباء أو شراء ما تمس الحاجة إليه كثلاجة المطبخ أو غسالة الملابس، أو كسيارة في بلد لا مواصلات عامة فيه إلا بعسر شديد، ونحو ذلك، مع مراعاة أن الضرورة تُقدّر بقدرها ويكتفى فيها بما يسد الحاجة دون زيادة على ذلك. والله تعالى أعلم.

آخر تعديل 6 يونيو 2020م

الجمعة، 4 أكتوبر 2019

مرجوحية "التخريج المذهبي" سبيلا للاجتهاد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فالاجتهاد ببناء الأحكام على نصوص الشرع وأدلته أولى وأسهل منه بتخريجها ومقايستها على أقوال الأئمة المجتهدين وفروعهم لأسباب كثيرة:
  • منها أن نصوص الشارع محفوظة، إذ تعهد بحفظها بخلاف أقوال الأئمة المجتهدين فهي لا يؤمن ضياعها، ولا يضمن عدم تراجع المجتهد عنها أو حكمه بخطئها فيما لم يبلغنا.
  • ومنها: أن الشارع لا يجوز عليه التناقض بخلاف المجتهد {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، ولذلك من الخطأ معاملة قول المجتهد كقول الشارع في أحكام التعارض بالجمع والترجيح والنسخ، ولا موجب لذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما وأحمد وغيرهم؛ إذ كرهوا أن تُكتب آراؤهم: إنا نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا.

  • ومنها أن المقرر هو أن لازم دليل الشرع لازم وأما لازم المذهب فليس بلازم؛ لأن الشرع حق وما يلزم عنه حق قطعا. أما صاحب المذهب فقد يقول القول ويغفل عن لوازمه، ولو ذُكرت له هذه اللوازم لأنكرها ولم يلتزمها، والتخريج مؤداه أن لازم المذهب لازم.
  • ومنها أن نصوص الشارع تصحبها القرائن من أسباب الورود والنزول وحافات السياق القريب والبعيد وفهم الصحابة مما يعين على فهم المقصود منها بدقة، بخلاف أقوال المجتهدين من الأئمة التي تنقل في الغالب من غير قرائن سياقية أو حالية تعين على تبين المقصود منها، بتخصيص عامها وتقييد مطلقها وتوضيح مجملها.
  • ومنها أن نصوص الشارع يصحبها التعليل كثيرا بالنص أو الإيماء، ثم باجتهاد العلماء منذ الصحابة، بخلاف أقوال الأئمة.
  • ومنها أن نصوص الشارع مخدومة بالشرح والنظر والتحليل والتفسير والتوثيق من كبار العلماء والمجتهدين منذ الصحابة رضوان الله عليهم، بخلاف أقوال الأئمة التي لم تخدم كما خدمت نصوص الشرع، وأكثر من خدمها المقلدون المنحطّون عن رتبة الاجتهاد بل تركها عامة المتأخرين منهم وأقبلوا على تفكيك متون المقلدين أمثالهم.
  • ومنها أن نصوص الشارع أدلة بنفسها بخلاف أقوال المجتهد إذ هي دليل بواسطة تضمنها لمعنى النص ودلالته، والبناء على ما كان دليلا بنفسه أولى وأكثر صوابا من التخريج على ما يتضمّن الدليل.
  • ومنها أن العلماء اختلفوا في جواز التخريج على قول المجتهد، وفي جواز نسبة ذلك إلى المجتهد بينما اتفقوا على حجية نصوص الشرع والاستدلال بها. والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه.
  • ومنها أن الأصوليين اختلفوا في جواز تقليد الميت من المجتهدين بينما لم يختلفوا في وجوب اتباع نصوص الشرع.
  • ومنها أن جمهور الأصوليين القائلين بحجية القياس في كلام الشارع لا يقولون بحجيته في كلام الناس ولذلك فهم لا يجرونه في ألفاظهم في العقود والأيمان والأوقاف وغيرها، حتى لو كانت العلة منصوصة، وحتى لو أمر المكلف بالقياس على كلامه. قال الغزالي: «ولو قال [المكلف] "أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه كل أسود" اقتصر العتق على غانم عند الأكثرين». قلت فكيف يجرى القياس في كلام المجتهد حيث لا نص على العلة ولا هو أمر بالقياس على كلامه ولا حتى بتقليده بل نهى عن ذلك أشد النهي: قال الإمام أحمد: «‌لا ‌تقلدني، ‌ولا ‌تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا».
  • ومنها أن جمهور القائلين بحجية القياس من الأصوليين لا يجيزون قياس الفرع على الفرع (التخريج) بينما اتفقوا على جواز قياس الفرع على الأصل.
ومع كل هذه الأسباب الظاهرة لا ينقضي العجب ممن قال ويقول بالتخريج المذهبي سبيلا للاجتهاد في أحكام النوازل بعد عصر الأئمة. وأعجب من ذلك من يمنع من الاجتهاد في النوازل بالنظر في كلام الشارع ويوجب الاقتصار بلا بد على التخريج المذهبي!!!

 قال ابن الوزير:
«الظاهر في كثير من التخاريج أنها داخلة في عموم البدع المنهي عنها، ولو كانت من مهمات الدين ما فاتت خيرالقرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم... إلى رأس ثلاث مئة سنة من الهجرة النبوية، فما أعلم أحدًا من الصحابة خرّج على كلام من نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على علمه كعلي عليه السلام، ومعاذ، وابن عباس، ولا من بعدهم من التابعين، ولا خرّج أحد من أهل البيت على قول إمام الأئمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع تعظيمهم له وفي الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن شر الأمور محدثاتها"».

وقال ابن عبد البر يصف المقلدين: 
«ومن حجة هذه الطائفة فيما عولوا عليه أنهم يقصرون وينزلون عن مراتب من له المراتب في الدين؛ بجهلهم بأصوله، وأنهم مع الحاجة إليهم لا يستغنون عن أجوبة الناس في مسائلهم وأحكامهم؛ فلذلك اعتمدوا على ما قد كفاهم الجواب فيه غيرهم، وهم مع ذلك لا ينفكون من ورود النوازل عليهم فيما لم يتقدمهم فيه إلى الجواب غيرهم، فهم يقيسون على ما حفظوا من تلك المسائل ويفرضون الأحكام فيه، ويستدلون منها ويتركون طريق الاستدلال من حيث استدل الأئمة وعلماء الأمة فجعلوا ما يحتاج أن يستدل عليه دليلا على غيره، ولو علموا أصول الدين وطرق الأحكام وحفظوا السنن كان ذلك قوة لهم على ما ينزل بهم، ولكنهم جهلوا ذلك فعادوه وعادوا صاحبه».

وقال ابن العربي: 
«قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن المفتي بالتقليد إذا خالف نص الرواية في نص النازلة عمن قلده أنه مذموم داخل في الآية [أي قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}]؛ لأنه يقيس ويجتهد في غير محل الاجتهاد، وإنما الاجتهاد في قول الله وقول الرسول، لا في قول بشر بعدهما. ومن قال من المقلدين هذه المسألة تخرج من قول مالك في موضع كذا فهو داخل في الآية. فإن قيل: فأنت تقولها وكثير من العلماء قبلك. قلنا: نعم؛ نحن نقول ذلك في تفريع مذهب مالك على أحد القولين في التزام المذهب بالتخريج، لا على أنها فتوى نازلة تعمل عليها المسائل، حتى إذا جاء سائل عرضت المسألة على الدليل الأصلي؛ لا على التخريج المذهبي، وحينئذ يقال له الجواب كذا فاعمل عليه».

وقال أبو الحسين البصري:
«إذا نص العالم في مسألة على حكم وكانت المسألة تشبه مسألة أخرى شبها يجوز أن يذهب على بعض المجتهدين فانه لا يجوز أن يقال قوله في هذه المسألة هو قوله في المسألة الأخرى لأنه قد لا تخطر المسألة بباله ولم ينبه على حكمها لفظا ولا معنى ولا يمتنع لو خطرت بباله لصار فيها إلى الاجتهاد الآخر. فان قيل: أليس إذا نص الله تعالى على حكم مسألة ثم نبه على علته ورأى بعض المجتهدين أن علة ذلك الحكم موجودة في فرع فانكم تقولون ‌من ‌دين ‌الله ‌ودين رسوله صلى الله عليه وسلم الحكم في الفرع بحكم الأصل؟ فهلا قلتم في نص المجتهد مثل ذلك! قيل له: إنما قلنا إن ذلك دين الله تعالى لأنه قد دلنا على العلة بتنبيه عليها ودلنا على أنه قد تعبدنا بإجراء حكمها بتبعها والعالم لم يدلنا على مذهبه في غير ما نص عليه لأنه يجوز أن يكون ممن يفرق بين المسألتين ويخطئ في الفرق بينهما ولا يجوز مثل ذلك على الله سبحانه».

وقال المقري في قواعده:
«لا تجوز نسبة بالتخريج والإلزام ‌بطريق ‌المفهوم، أو غيره إلى غير المعصوم، عند المحققين، لإمكان الغفلة أو الفارق، أو الرجوع عن الأصل عند الإلزام أو التقييد بما ينفيه، أو إبداء معارض في السكوت أقوى، أو عدم اعتقاده العكس، إلى غير ذلك. فلا يعتمد في التقليد ولا يعد في الخلاف».

وقال ابن القيم: 
«المتأخرون ‌يتصرفون ‌في ‌نصوص الأئمة، ويبنونها على ما لم يخطر لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثم يلزمهم من طرده لوازم لا يقول بها الأئمة، فمنهم من يطردها ويلتزم القول بها، ويضيف ذلك إلى الأئمة، وهم لا يقولون به فيروج بين الناس بجاه الأئمة، ويفتي ويحكم به والإمام لم يقله قط، بل يكون قد نص على خلافه».

والله أعلم وأحكم.