أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الخميس، 20 أبريل 2023

أشكال تصرّفات الفقهاء عند تردُّد الحكم بين المظنّة والحكمة

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فبالاستقراء والتأمّل فيما يُوجد عند الفقهاء من مسائل فقهية، يتردَّد الحكم فيها بين أن يُناط بالمظنة، أو يُناط بالحكمة، وجدتُّ أنّ تصرُّفاتِهم، تتّخذ أشكالًا أربعة:

الأوّل: أن يقطعوا الحكم عن المظنّة المنصوصة، ويديروه مع الحكمة وجودًا وعدمًا، وهذا إذا كانت الحكمة منفردة بالحكم، ومفهومة بوضوح من النصَّ على المظنّة.

ومثاله: «لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان»([1])، أداروا حكم كراهة القضاء مع تشوُّش الذهن (الحكمة) وجودًا وعدمًا، وقطعوه عن الدوران مع ذات الغضب (المظنّة المنصوصة)، فكلُّ ما يشوِّش - كالألم والاحتقان والجوع والعطش المفرطين - مكروهٌ معه القضاء. والغضبُ اليسير غير المشوِّش يرتفع عنه حكم الكراهة. فالغضب نفسه لم يعد مَناطًا للحكم، بل تشوّش الذهن، وجودًا وعدمًا([2]).

ومثاله أيضًا: اجتهاد الجمهور في حديث: «إذا استيقظ أحدُكم من نومه فليغسل يده قبل أن يُدخلها في وَضوئه، فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده»([3])، أداروا حكم ندب غسل اليد على الشكّ في نجاستها (الحكمة)، سواء أكان ذلك بسبب الاستيقاظ من النوم (المظنة المنصوصة)، أم غير ذلك من الحالات، ورفعوا حكم ندب الغسل عن المستيقظ من نومه المتيقِّنِ عدمَ نجاسة يده، كمن نام ويداه مقيّدتان خلف ظهره، أو كمن نام ويداه في قفّازين. فالاستيقاظ من النّوم ليس مناطًا للحُكم، بل الشكّ في نجاسة اليد، وجودًا وعدمًا([4]).

والشكل الثاني: عكس الأول وهو: أن يديروا الحكم مع المظنّة المنصوصة، ويقطعوه عن الحكمة بالكلّية، وهذا في الأحكام التعبّدية والتقديرية والمخصوصة بأصحابها.

ومثاله: تحريم لحم الخنزير، فالحكمة هي كونه رجسًا وقذرًا، ومع هذا لا يُقاس عليه غيره من الحيوان، حتى لو فُرض كونه أقذر منه، ولا يرتفع حكم التحريم عن الخنزير، حتى لو جعلناه يعيش في بيئة نظيفة، ولم نطعمه إلا طعامًا نظيفًا. فحكم التحريم هنا يدور مع المظنّة (محل الحكم)، وهي تناول لحم الخنزير، وجودًا وعدمًا، وهو مقطوع عن حكمة التحريم، وهي كون الخنزير رجسًا وقذرًا أو مصدرًا لكثير من الأمراض، وغير ذلك ممّا يُقال في حكمة تحريم أكل الخنزير.

ومثاله أيضًا: وجوب افتتاح الصلاة عند الجمهور بلفظ التكبير "الله أكبر" لحِكمة إجلال الله تعالى وتعظيمه، ولا يُقاس على لفظ التكبير غيره، وإن أدَّى معنى الإجلال والتعظيم، كـ "الله أعظم"، و"الله أجلّ"، كما أنّ الصلاة تصحّ مع لفظ التكبير، حتى لو كان المصلّي وقتئذٍ غافلًا عن معنى التعظيم والإجلال (فقدان الحكمة)([5]).

ومثاله أيضًا: الأحكام المخصوصة بالنصّ، كشهادة خزيمة التي جُعلت بشهادة رجلين([6])، وإجزاء العَناق عن أبي بردة([7])، وإباحة الزواج بأكثر من أربع للنبي، صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الأحكام المخصوصة بأصحابها بالنصّ، التي قد تُفهم حكمةُ تخصيصها بأصحابها، ولكن، مع ذلك، لا يُقاس عليها.

والشكل الثالث: أن يُبقوا الحكم دائرًا مع المظنّة المنصوصة لا مع الحكمة، ولكن يشترطون في المظنّة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى الحكمة.

ومثاله حكم إباحة الفِطر في رمضان مع السّفر، أداروا الحكم مع السّفر لا مع المشقَّة، فلم يجيزوا للحمَّالين وأصحاب المهن الشاقَّة الفطر كالمسافر([8])، ومع هذا فإنّهم، في جمهورهم، قيَّدوا السّفر المبيح للفطر بكونه طويلًا، وضبطوا طوله: إمّا بمسافة معيّنة، كأربعة بُرُد، وإمّا بمسافة تُقطع في مدّة معيّنة، كمسيرة ثلاثة أيام، أو يوم وليلة، وذلك التفاتًا إلى معنى المشقّة([9]). وكذلك المرض المبيح للفطر ضبطوه بكونه يشقّ، أو يضرّ، معه الصوم، حالًا أو مآلًا([10]).

ومثاله أيضًا: حكم نقض الوضوء بلمس المرأة عند الجمهور، فالسّبب المنصوص هو مطلق لمس النِّساء، ومع هذا فقد اشترط الفقهاء في هذا اللمس شروطًا لكي يكون مظنّةً للحِكمة، أي للمعنى المناسب لحصول الانتقاض بلمس لمرأة، وهو الشهوة، فاشترط المالكية([11]) والحنابلة([12]) وجودَ الشهوة (اللذة) أو قصدَها، واشترط الحنفية([13]) وجودَ المسّ الفاحش، أي مباشرة الجسد الجسد، إذ المعتبر عندهم شهوة قويّة تكون مظنة لخروج المذي لا أي شهوة، واشترط الشافعيّة([14]) أن تكون المرأة من اللاتي يُقصدن باللمس للالتذاذ والشهوة عادةً، فلم يعتبروا لمس الصغيرات، ولا لمس المحارم، لأنّهنّ لسن مظنّة للشهوة. وكلُّ هذه الاشتراطات - على تفاوتها - تلتفت في نهاية المطاف إلى حكمة الحُكم بنقض الوضوء من لمس المرأة، وهو أنّه مظنّة للشهوة والالتذاذ.

والشكل الرابع: وهو عكس السابق: أن يديروا الحُكم مع الحكمة لا مع المظنّة المنصوصة، ولكن يشترطون مع تحقُّق الحكمة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى المظنّة المنصوصة.

ومثال ذلك اجتهاد الشافعيّة([15]) والحنابلة([16]) في حديث الاستنجاء أنه، صلى الله عليه وسلم، «أمر بثلاثة أحجار»([17])، فقد أداروا الحكم على إنقاء المحلّ من النجاسة (الحكمة)، ولم يديروه على استعمال الثلاثة أحجار (المظنة)، فمن جهة الوجود: قاسوا على الحجارة كلّ مزيل من الطاهرات، كالورق وغيره، ومن جهة العدم: قالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ. ولكنّهم، مع ذلك، اشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسَحاتٍ على الأقلّ، وهذا الاشتراط التفاتٌ منهم إلى لفظ التثليث الوارد في المظنّة المنصوصة.

أمَّا الحنفيّة([18]) والمالكيّة([19])، فأداروا الحكم مع حكمة الإنقاء وقطعوه عن المظنة تمامًا، فأجازوا الاستنجاء بكلّ طاهر مزيل، وقالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ، ولم يشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسحات، بل تكفي المسحة الواحدة إذا كانت مُنقية، فالعبرة عندهم بحكمة الإنقاء لا بعين المزيل ولا عدده. فهم أداروا الحكم مع الحكمة بالكُلِّية، وجودًا وعدمًا، لوضوحها وانفرادها، فاجتهادهم في هذه المسألة من الشكل الأول. والشافعيّة والحنابلة أداروه مع الحكمة، ولكنّهم اشترطوا معها شرطًا استمدّوه من المظنة المنصوصة، إمّا احترامًا لظاهر النصَّ، وإمّا لأنَّهم قدَّروا وجود نوعٍ من التعبُّد في الحكم المنصوص. وإمّا لأمر معنوي وهو أنَّ إنقاء الدّبُر يعسر أن يكون بمسحة واحدة، كما يعسر غالبًا التحقّق من حصول الإنقاء في الواقع لغياب موضعه عن نظر المستجمر، فكان الاحتياط ألّا يُجتزأ بأقلَّ من ثلاث مسحات. وهو ملحظٌ وجيه.

وكتبه أيمن صالح
مقتبس من بحث العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنّة أو بالحكمة: دراسة أصوليّة.

___________________


([1]) أحمد، المسند، 34/14 واللفظ له. قال الأرناؤوط: إسناده صحيح؛ البخاري، الصحيح، 9/65؛ مسلم، الصحيح، 3/1342.

([2]) ينظر: ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، 4/185؛ ابن حجر، فتح الباري، 13/137.

([3]) البخاري، الصحيح، 1/44؛ مسلم، الصحيح، 1/233.

([4]) ينظر: النووي، شرح صحيح مسلم، 3/180؛ ابن حجر، فتح الباري، 1/264.

([5]) ينظر: ابن دقيق العيد، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، 1/260.

([6]) قال الألباني: «صحيح. أخرجه أبو داود (3607)، والنسائي (2/229)، والحاكم (2/17 ـ 18)، وأحمد (5/215)». الألباني، إرواء الغليل، 5/127.

([7]) البخاري، الصحيح، 2/23؛ مسلم، الصحيح، 3/1552.

([8]) ينظر: ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، 2/420؛ البكري الدمياطي، إعانة الطالبين، 2/267؛ البهوتي، دقائق أولي النهى، 1/478؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/176.

([9]) ينظر: ابن قدامة، المغني، 3/106؛ ابن الهمام، فتح القدير، 2/30.

([10]) ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، 3/138؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، 28/45.

([11]) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 1/296.

([12]) البهوتي، كشاف القناع، 1/301.

([13]) الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، 1/12.

([14]) الشربيني، مغني المحتاج، 1/145.

([15]) المرجع السابق، 1/163.

([16]) البهوتي، كشاف القناع، 1/139.

([17]) أبو داود، سنن أبي داود، 1/208. قواه الارناؤوط وحسنه الالباني.

([18]) ابن الهمام، فتح القدير، 1/213.

([19]) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 1/289.

الأربعاء، 19 أبريل 2023

ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب بين الاعتداد باللفظ أوالمعنى

 


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:

 فمسألة ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب هي من المسائل الطبولية التي يتكرر الكلام فيها كثيرا ويشتد فيها الخلاف ويطول فيها الجدال.

 وهي من المسائل التي يدور الخلاف فيها على اعتبار اللفظ أو المعنى. ولطالما كان هذا السبب (أعني اعتبار اللفظ أو المعنى) مثارا للنزاع في المسائل بين الفقهاء قديما وحديثا. (يُنظر كتاب أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه).

 وهي في ذلك مثل مسألة زكاة الفطر هل تُقصر على الطعام أو تجوز بالقيمة.

 ومثل مسألة فرض الدية على العاقلة هل هو مقصود لذاته أو لمعنى التناصر في العاقلة فيمكن نقله إلى غيرها، كأهل الديوان مثلا، على ما قاله الحنفية.

 ومثل مسألة إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة هل هو لمجرد التأليف والتحبيب في الإسلام، أو لمعنى ضعف الإسلام وقت إعطائهم وحاجة الدولة إليهم.

 فكل هذه المسائل، وكثيرٌ مثلها، اختلف فيه الفقهاء قديما وحديثا ما بين دائر مع اللفظ، ودائر مع ما يظنّه المعنى والمقصود.

 ومن المسائل المعاصرة الشبيهة بمسألة الرؤية والحساب إلى حد بعيد مسألة نفي النسب باللعان هل يجوز مع القطع (عن طريق فحص البصمة الوراثية) بكون الولد من الملاعن أو لا. فالدائر مع اللفظ (ومع أقوال الفقهاء القدماء) يقول بنفي النسب حتى لوثبت بالفحص أن الولد مخلوق من ماء الملاعن، والقائل بالمعنى وأن اللعان إنما شرع لنفي النسب عندما لم تكن هناك وسيلة متيسرة للتحقق من البعضية والجزئية التي هي علة النسب، فلا يجيز اللعان مع ثبوت البعضية بالفحص على وجه القطع.

 وحرف مسألة ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب، هو أن الرؤية المأمور بها في الحديث (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) هل هي مقصودة لذاتها أو أنها لحكمة التيسير (حيث كانت الأمة أمية زمن النص لا تكتب ولا تحسب، ومن ثم لو كان التعويل إذ ذاك على الحساب لحصل في ذلك مشقة على عموم الناس، فضلا عن اضطراب الحساب وقتئذ وعدم دقته، بل عدم علم أكثر العرب به).

 فالقائل بالرؤية من المعاصرين يرى بأنها مقصودة لذاتها تعبُّدًا، وأنها بذاتها ووحدَها هي علامة دخول الشهر، وأن قوله، صلى الله عليه وسلم: نحن أمة أمية بيان للحال لا إيماء إلى العلة.

 والقائل منهم بالحساب يرى بأن الأمر بالرؤية معلَّل، وأن الرؤية وسيلة لا غاية، وأنها كانت العلامة المتيسرة للجمهور في زمن النص على دخول الشهر بعد تولد الهلال، بقرينة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا، فرتب عدم القدرة على الجزم بعدد أيام الشهر بالضبط وترددها بين أن تكون ثلاثين أو تسعة وعشرين، على وجود الأمية وعدم المعرفة بالكتابة والحساب. وهي من الطرق الجلية للإيماء إلى العلة التي بني عليها الحكم.

وإذا كان الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فزوال الأمية الحسابية عن الأمة في هذه الأعصار على نحو لم يكن من قبل يقضي بأن يُعتد بالحساب الآن، لأنه أيسر من الرؤية وأضبط وأقل إثارة للخلاف، بل هو قطعي بلا نزاع في وقت تولد الهلال لو اعتُمد على ذلك في إثبات دخول الشهر.

 فالحساب عندهم يُقاس على الرؤية بجامع كونه دالًّا مثلها على دخول الشهر وتولد الهلال، ثم هو يحقق حكمتها من التيسير والضبط.

وذلك مثلما قيست القيمة على الطعام في الزكاة بجامع سدها لحاجة الفقير.

ومثلما قيست الأوراق على الأحجار في الاستنجاء بجامع حصول الإنقاء.

ومثلما قيست فرشاة الأسنان والمعجون على السواك بجامع تنظيف الفم والأسنان.

بل مثلما قيست تقديرات مواقيت الصلوات بالساعات والدقائق على حصول علاماتها الفلكية الثابتة بالنصوص.

وأمّا القول – تبعا للقرافي - بأن رؤية العلامات الفلكية لمواقيت الصلوات غير مأمور بها بخلاف رؤية الهلال، فغير دقيق، لأن الله تعالى قال: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الأسود من الفجر}، فغيّا بدء الصيام ووقت الصلاة بتبيُّن الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، والتبين للخيط الأبيض إنما يكون بالرؤية، ولا فرق بين أن يقول: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض، وأن يقول: حتى تروا الخيط الأبيض،  ومما يشير إلى هذا أنه عندما نزلت الآية قال عدي بن حاتم، رضي الله عنه: عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار". (متفق عليه). فانظر إلى قوله "جعلت أنظر فلا يستبين لي"، فأرشده النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى النظر في سواد الليل وبياض النهار  لا إلى العقال الأبيض والأسود.

والمعتمد عليه في هذه الأعصار في مواقيت الصلوات هو الحساب بالوقت لا غير، ولا يكاد يوجد أحد يتحرى ويتبين الخيط الأبيض من الأسود كل يوم ليصلي الفجر، بل لو حاوله أحد لما استطاعه بسبب التلوث الضوئي داخل المدن إلا أن يكون في فلاة.

فإن قيل: هناك إجماع قديم على عدم مشروعية الحساب في تحديد بدء دخول الشهر.

فيقال: على فرض التسليم بوجود مثل هذا الإجماع، فإنه إذا كان مبنيا على علة، أو على نص معلل بعلة، فهو كذلك يدور معها كما النص نفسه، ولا يصلح الاستدلال به. فالحساب قديما ولاسيما في عصور السلف وأئمة الاجتهاد لم يكن شائعا شيوعه اليوم ولا كان دقيقا ولا ميسورا، وكان التعويل على الرؤية أدق وأيسر فلا غرو حينئذ أن لم يعول عليه الجماهير، بل أجمعوا على عدم مشروعيته وعلى اعتماد الرؤية جريا مع ظاهر الحديث. أما وقد تغير الحال وصارت الرؤية – مع وجود التلوث الضوئي في عامة المدن – أكثر عسرا وأقل دقة من الحساب، فإنه يحلّ محلها أو على الأقل يُقاس عليها من باب أولى.

 والمصالح الدنيوية التي تنبني على تحديد أوائل الشهور سلفًا بالحساب لسنواتٍ تأتي– كما في الأشهر الميلادية – كثيرةٌ لا تخفى، كترتيب الإجازات والأسفار والحجوزات والرواتب ونحوها، هذا فضلا عما في ذلك من توفير جهود التحري والترقب، وتقليل اختلاف الناس وتنازعهم، بين من يقول باختلاف المطالع وبين من لا يقول بذلك حتى إنك تجد في البلد الواحد، بل وفي البيت الواحد، من يفطر مع أول دولة تعلن الرؤية لأنه مع رأي الجمهور بثبوت الشهر على الجميع برؤية الهلال في بلد من بلاد المسلمين، ومن لا يفطر لأنه يجيز اختلاف المطالع على رأي الشافعي. وتجد في المدن والقرى الحدودية بين البلدان المفطر من هذا البلد والصائم من البلد الآخر  في الجهة الأخرى لأن دولته لم تر الهلال، وما بينهما إلا أمتار أو كيلومترات، وفائدة أخرى لا تقل أهمية عما مضى أن التعويل على الحساب يقطع على السياسيين والحكام تلاعبهم بالمسلمين لمقتضيات السياسة في موافقة بلد ومعارضة آخر.

والله أعلم.

وكتبه أيمن صالح

الثلاثاء، 28 مارس 2023

الفرق بين التمويل الحلال والتمويل الحرام


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فالتمويل (دفع المال للغير ليردَّه أو يردّ مثله بعد حين) إما أن يكون بقصد الربح، أو بقصد الثواب (القُربة).

فأمّا التمويل بقصد القربة:

فإن كان بضمان رأس المال فهو القرض الحسن. {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}.

وإن كان من غير ضمان رأس المال، فهو الإبضاع، وهو أن تدفع المال للغير ليتّجر به (ليستثمره)، فما كان من ربح فهو للمتّجر به وحده، وما كان من خسارة فمن رأس المال.

وأمّا التمويل بقصد الربح فهو صنفان: محرّم ومباح.

فالمحرّم هو التمويل بربا القروض وهو دفع المال للغير ليردّه بعد أجل بزيادة مشروطة على رأس المال.

وأما المباح من التمويل فثلاثة أصناف لا غير:

الأول: التمويل بالمضاربة، وهي دفع المال للغير ليتّجر به (ليستثمره)، مع اشتراط نسبة شائعة من الربح إن حصل. والفرق بين الحرام (الربا) والحلال (المضاربة) هو أن الربا يُشترط فيه ضمان رأس المال والعائد للمُموِّل، بخلاف المضاربة، فلا ضمان فيها لرأس المال ولا للعائد. وهذه المخاطرة التي في المضاربة هي التي سوَّغت الحصول على الربح مقابل التمويل، وجعلتها تفترق عن الربا الذي يكون رأس المال والعائد فيه مضمونًا بمقتضى العقد.

والصنف الثاني: التمويل بالبيع الآجل. وهو أن يقوم التاجر ببيع سلعة لمن يطلبها على أن يُحسب فيها للزمن قسطٌ من الربح، ولذلك يختلف سعر بيع هذه السلعة حالّة عن بيعها آجلة، فيكون للزمن تأثيرٌ في سعرها. وفي مشروعية هذه الزيادة في ثمن المبيع مقابل التأجيل خلافٌ قديم بين الفقهاء، لكنّه خلاف ضعيف، والراجح الجواز، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وإن كان هذا الجواز مصحوبًا بالكراهة عند بعض الفقهاء.

والذي سوّغ الربح (الزيادة مقابل الأجل) في هذه المعاملة مع أنها تشبه الزيادة التي تكون في عقد الربا، حتّى قال الكافرون {إنّما البيع مثل الربا} = هو أنها زيادة تابعة للربح الناشئ عن عقد البيع نفسه، لا زيادة مستقلّة مقصودة لذاتها، أمّا في عقد الربا فهي زيادة مستقلة مقصودة لذاتها، وقد يجوز قصد الشيء تبعًا، ولا يجوز قصده استقلالًا. ومن أمثلة ذلك الإجماع على جواز بيع الشاة الحامل بزيادة عن سعرها ما لو لم تكن حاملًا، ومع ذلك لا يجوز بيع الحمل (الجنين) وحده. فزيادة السعر بسبب الحمل تجوز بالاتفاق رغم جهالة الجنين؛ لأنّ محلّ العقد هو الشاة، والجنين تابع. أمّا بيع الجنين وحده فلا يجوز، لأنّه هو محلّ العقد وفيه جهالة. ويجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا.

وأما ربح البيع نفسه، سواء أكان بيعًا حالّا أو آجلًا، فمُسوِّغ حصولِ التاجر عليه = الخدمةُ والمخاطرة التي يتحمّلها هذا التاجر؛ إذ هو يشتري السلعة من أسواقها التي قد تكون بعيدة أو مجهولة، بعد البحث عن أرخص ما تُباع به، ثم يتحمّل ما يحدث لها بعد شرائه لها من تلف أو فساد، وكذلك يتحمّل عبء نقلها وحفظها وتخزينها إلى حين بيعها، ويتحمّل ما يطرأ على سعرها من تقلبات؛ إذ قد ينزل سعرها فيخسر، أو يرتفع فيربح، ثمّ هو يكون موضعًا للمساءلة بعد بيعها فيما لو وَجد المشتري فيها عيبًا. فلكلّ ذلك من جهود وخدمات ومخاطرات يحلُّ له الربح؛ لأنه يقدِّم مقابلًا له، وقيمةً اقتصادية مضافة، وبهذا هو لا يشبه المرابي الذي لا يقدِّم أيَّ مقابل بدل الزيادة التي يتحصّل عليها سوى التمويل نفسه، ولا يُدخِل نفسه في مخاطر التجارة، ولا يقوم بأعبائها.

والصنف الثالث: بيع السَّلَم، وهو بيع سلعةٍ موصوفة  في الذمّة مقابل ثمن حالّ، وهو عكس البيع الآجل، والربح الذي مقابل الزمن يقع فيه للمشتري (المموِّل) لا للبائع (المموَّل)، لأنّ تأخير تسليم السلعة مع الدفع الحالّ يؤدّي إلى إرخاص في ثمنها مقابل أجل التأخير. وأمّا البائع فيتربّح من بيع السلعة نفسها. ومن ثَمّ كان في هذا البيع مصلحةٌ للطرفين: البائع بتصريف السلعة والحصول على ربحها مُقدمًّا، والمشتري بإرخاص ثمنها مقابل رضاه بتأخير استلامها.

وثمّة عقود تحايلية نشأت للالتفاف على تحريم الرّبا (التمويل الحرام الصريح)، بحيث يتلازم التمويل مع ضمان رأس المال والعائد للمُموِّل، ومن دون تحمّل المموِّل المخاطرة في التجارة، ولا قيامه بأعبائها.

فمن ذلك:

حِيَلُ ضمان رأس المال في المضاربة، ومن ذلك تركيب عقد القرض مع عقد الشركة. بأن يقول صاحب المال للمضارب خذ هذه الألف دينار قرضًا، وخذ هذا الدينار شركة، واتجر بالمالين فما يكون من ربح فهو بيننا بالنصف. وفي مثل هذه الحيلة، إذا ربحت التجارة فإنّ ربّ المال يأخذ نصف الربح الناشئ عن الألف والدينار، وأما إذا خسرت، فإن ربّ المال لا يخسر سوى الدينار، وأمّا الألف فهي مضمونة على المضارب لأنها قرض.

ومن ذلك:

بيعُ العينة، حيث يتواطأ المموِّل مع الممَوَّل على بيعه سلعة بيعًا آجلا بثمن ثم شرائها منه حالَّةً بثمن أقل، فتعود السلعة للبائع (المموِّل)، وأمّا المشتري (المموَّل) فيكون مدينا بثمنها الآجل مقابل ما حصل عليه من النقد من ثمنها الحالّ. وهذا في الحقيقة تمويل بالنقد مقابل زيادة مضمونة، والسلعة كانت واسطة صورية لجعل عقد الربا يبدو في صورة بيع.

ومن ذلك:

حِيَل الوساطة المالية، كما تفعله البنوك التي تُسمّى "إسلامية" التي تقدم النقد (بطريق مباشر أو غير مباشر) لتحصل على زيادة مقابل تأجيل السداد، بأن تتوسط بين التاجر والمشتري، بحيث يحصل التاجر على ربح السلعة، ويحصل البنك على ربح الأجل، مع أن الذي سوَّغ للتاجر الربح مقابل الأجل هو كون هذا الربح ربحا تابعًا لا مقصودًا بالنسبة له، والتاجر - كما أسلفنا - يقدم خدمة ومخاطرة في التجارة تسوّغ له الربح الأصلي والتابع، أمّا البنك فالزيادة مقابل الأجل مقصودة عنده لذاتها، وتوسُّطه بالتمويل إنما هو لأجل الحصول عليها لا غير، وهو لا يقدم خدمة ولا مخاطرة سوى التمويل نفسه، فكان بالمرابي أشبه منه بالتاجر، بل يكاد يكون هو والمرابي سواء، رغم مباشرته البيع والشراء اللحظي، كما في ما يُسمّى بعقد المرابحة للآمر بالشراء، ولذلك كره هذا العقد وحرّمه أكثر من تكلم في حكمه من فقهاء السلف.

ولو تأملنا المفاسد التي تنشأ عن الربا لوجدناها نفسها هي التي تنشأ عن عقود الوساطة المالية، من مثل:

أوّلًا: الربح المضمون من غير تقديم قيمة اقتصادية مضافة، لا خدمة، ولا مخاطرة، إلا التمويل نفسه. وهذا يؤدي إلى كسل أصحاب المال وعدم استثمارهم أموالهم في المشاريع التي تقدم قيمة اقتصادية مضافة، وتزيد الإنتاج، وتقلل البطالة، وتتضمن نوعًا من المخاطرة، كما يكون في السوق العقارية وسوق الأسهم، ولذلك فإنه من المقرّر اقتصاديًّا أنّ العلاقة عكسية بين ارتفاع سعر الفائدة (الربا)، والاستثمار، فكلمّا زاد سعر الفائدة (الربا) قلَّ الاستثمار، لأن الناس تحوّل أموالها من سوق الأسهم إلى الإيداع في البنوك أو شراء السندات، لأن البنوك والسندات ربحها مضمون بخلاف الأسهم.

ثانيا: التشجيع على الاستهلاك البذخي، وزيادة مديونيات الأفراد، فعقود الوساطة المالية والربا سواء في هذا الأثر، لأنها تجعل من السهل على الأفراد الحصول على التمويل لا لسدّ حاجاتهم فحسب، بل ولتحقيق رغباتهم في اقتناء السلع والخدمات الكمالية. والاستهلاك البذخي مضر جدًّا بحياة الناس؛ لأنّه يزيد مديونياتهم ويحوِّل الكماليات إلى حاجيات في حقِّهم بحكم العرف؛ إذ يصبح الفرد، حتى غير الراغب في الاقتراض، في حرج؛ لأنّه غير قادر على التعايش سويًّا مع بقية أفراد المجتمع إلا بأن يكون مثلهم في الإنفاق، وإلا تعرّض للّوم أو النقد، أو التعيير بالبخل، بسبب عدم مجاراته لهم في عادات الإنفاق. وهذا يظهر في العادات الاستهلاكية للمجتمعات، كما في تجديد السيارات، أو الأثاث، أو بناء البيوت الفارهة، أو تكاليف الأفراح، أو الأتراح...الخ، فينفق المرء إنفاقًا كماليًّا في هذه المجالات، وهو كاره في كثير من الأحيان، لا لشيء إلا ليتقي نظرة الناس الدونية إليه، ونقدهم له، فيما لو لم ينفق بالقدر الشائع عرفًا، وما كان هذا العرف ليستقر وينتشر لولا سهولة الاقتراض.

ثالثًا: التضخم ورفع الأسعار. وهو أثر جلي من آثار الربا وعقود الوساطة المالية، لأن هذه العقود تجعل من السهل توفير النقد الذي يُبذل في مقابل السلع، سواء وضع في يد الشخص مباشرة، كما في التمويل بالربا والتورق المصرفي، أو وُضع في يد التاجر لصالح الشخص الراغب بالسلعة، كما في عقود الوساطة المالية، من مرابحة وإجارة منتهية بالتمليك، ومشاركة متناقصة، وغيرها، ومن ثم ترتفع أسعار السلع لإقبال كثير من الناس على شرائها والحصول عليها. وعادةُ الحكومات في معالجة التضخُّم أن تلجأ إلى رفع أسعار الفائدة الربوية. وهذا من قبيل معالجة الداء بالداء، لأن رفع أسعار الفائدة يقلِّل من إقبال الناس على الاقتراض من البنوك، ومن ثم يقلِّل من استهلاكهم، فيزيد عرضُ السلع، وتقل أسعارها، لكنه في المقابل يضر بالاستثمار؛ لأن الأغنياء يحولون أموالهم من أسواق الأسهم (الاستثمار) إلى البنوك نظرا لارتفاع العائد على الربا وضعف المخاطرة، فيحدث الركود ويقل الإنتاج وتزيد البطالة.

والحاصل هو أن المفاسد الناشئة عن التمويل بالربا هي نفسها تنشأ عن التمويل بعقود الوساطة المالية للبنوك، وما يكون من فرق فهو فرق إمّا شكلي لا يقدِّم ولا يؤخِّر، وإمّا هامشي ضئيل لا يؤثر في حجم هذه المفاسد.

وكتبه أيمن صالح