أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الجمعة، 5 يناير 2024

موازنة بين مذهبي الحنفية والمالكية في تتبع المقاصد والمعاني

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:

المتأمِّلُ في فقه أهل المدينة، الذين يُوصفون بأنهم "أهل الحديث"، ممثَّلا بالمدرسة المالكية يجده، في الجُمْلة، أكثرَ تَتبُّعا للمعاني والمقاصد من فقه أهل الكوفة، ممثَّلا بالمدرسة الحنفية.

فالمالكيةُ، مثلا، يتَّبعون المقاصد، سواءٌ في أوامر الشارع أو أوامر المكلفين. أما الحنفية فعندهم «أنَّ المعتبر في أوامر الله تعالى المعنى، وفي أوامر العباد الاسم يعني اللفظ»([1]).

والمالكيةُ قالوا: «الأَيْمان إنَّما يُنظر فيها إلى معانيها، لا إلى مجرد ألفاظها»([2]). أما الحنفية فعندهم «الأيمان مبنيةٌ على الألفاظ لا على الأغراض، فلو اغتاظَ من إنسانٍ فَحَلَف أنَّه لا يشتري له شيئا بفلس فاشترى له شيئا بمائة درهم لم يحنث، ولو حلف لا يبيعُه بعشرةٍ فباعَه بأحدَ عشر، أو بتسعةٍ لم يحنث مع أنَّ غرضَه الزيادةُ، لكنْ لا حِنْث بلا لفظ»([3]). ولذلك قال الحطَّاب المالكي في يمين أفتى فيها أحدُهم بعدم الحنث أخذاً بالظاهر: «هذا جارٍ على مذهب أهل العراق الذين يراعون ظواهر الألفاظ لا المقاصد، والآتي على مذهب مالك، رحمه الله، حِنْثُه»([4]).

والمالكيةُ لم يعتدُّوا بأَيمان الطلاق والعِتاق ونحوها حيث يُظنُّ كونها غير مقصودة. أما الحنفية فقد بالغوا في الاعتداد باللفظ في ذلك، فأثبتوا له تأثيرا حتى مع القطع بانتفاء غرض المتكلم منه، كما هو في حالات الإكراه. قال ابن الهمام: «وجميعُ ما يثبت مع الإكراه أحكامُهُ عشرةُ تصرُّفات: النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء والفيء والظهار والعِتاق والعفو عن القصاص واليمين والنَّذر»([5]). ولأنَّ في القول بوقوع طلاق المكره ونحوه منافاةً لِتتبُّع المعاني والمصالح قال الجمهور ردَّاً على الحنفية: إنَّ «الشَّرع يُراعي المصالح، ولا مصلحة في هذا»([6]).

والمالكيَّةُ يُحكِّمون القصد والباعث في العُقُود، تصحيحا وإبطالا. أما الحنفية فيدورون مع ظاهر العقد وما صرَّح به المتعاقدان في صيغته من غير التفات إلى الغرض منه والباعث عليه، حتى لو وُجدت القرائن الدالَّة على القصد المحرم. وعليه فهم يصحِّحون عقد بيع السلاح لقاطع الطريق، وبيع العنب لصانع الخمر. وهم في هذا يلتقون مع مدارس أصحاب الألفاظ والظَّواهر كالشَّافعية والظاهرية([7]).

والمالكيةُ يوجبون حدَّ القذف بالتعريض التفاتا إلى أصلهم في اعتبار القصد على منهج عمر، رضي الله عنه، كما أسلفنا. أما الحنفية فعندهم لا حدَّ في تعريض حتى أنَّ من «قال لامرأةٍ: يا زانية، فقالت: زنيتُ معك - لا حدَّ على الرجل، ولا على المرأة: أمَّا على الرجل؛ فلِوجود التصديق منها إيَّاه. وأمَّا على المرأة؛ فلأنَّ قولها: "زنيتُ معك" يُحتمل أن يكون المرادُ منه: زنيتُ بك، ويُحتمل أن يكون معناه: زنيتُ بحضرتك، فلا يُجعل قذفا مع الاحتِمال»([8]).

والمالكيةُ يَسُدُّون الذرائع التفاتا إلى كثرة وقوع الفعل مقروناً بالقصد المحرم. أما الحنفية فلا يلتفتون إلى الذرائع ولا يمنعونها، وينظرون إلى ظواهر الأقوال والأفعال فحسب، بل اشتهر عن بعضهم القول بما هو أبعد من ذلك، وهو تسويغ الحيل، قال ابن العربي في الذرائع: «انفرد بها مالك، وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته، وخَفِيت على الشَّافعي وأبي حنيفة مع تبحُّرهما في الشَّريعة»([9]).

والمالكيةُ من أشدِّ المذاهب حَزماً في إيقاع الحدود والعقوبات الشرعية زجراً للناس عن المفاسد. أمَّا الحنفية فقد توسَّعوا في درء الحدود بأدنى الشُّبَه والحِيَل. وهذا إسرافٌ منهم في الجري مع ظواهر الألفاظ والأفعال دون الالتفات إلى المقاصد والأغراض، حتى قال ابن القيم منتقدا إيَّاهم:

«يا لله العجب، كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنى، والمبالغة في المنع منه، وقتل فاعله شرَّ القِتلات وأقبحها وأشنعها وأشهرها، ثم يسقط بالتحيُّل عليه، بأن يستأجرها لذلك أو لغيره ثم يقضي غرضَه منها؟! وهل يعجز عن ذلك زانٍ أبدا؟! وهل في طِباع ولاة الأمر أن يقبلوا قول الزاني: أنا استأجرتُها لزنى، أو استأجرتها لتطوي ثيابي ثم قضيت غرضي منها، فلا يحلُّ لك أن تقيم عليَّ الحد؟! وهل ركَّب الله في فِطَر النَّاس سقوطَ الحدّ عن هذه الجريمة، التي هي من أعظم الجرائم إفسادا للفراش والأنساب، بمثل هذا؟! وهل يُسْقِطُ الشارعُ الحكيم الحدَّ عمَّن أراد أن ينكح أُمَّه أو بنته أو أخته بأن يعقد عليها العقد ثم يطأها بعد ذلك؟! وهل زاده صورةُ العقد المحرَّم إلا فُجُوراً وإثما واستهزاء بدين الله وشرعه ولعباً بآياته؟! فهل يليق به مع ذلك رفعُ هذه العقوبة عنه وإسقاطُها بالحيلة التي فَعَلَها مضمومةً إلى فعل الفاحشة بأمِّه وابنته؟! فأين القياسُ وذِكْرُ المناسباتِ والعِلل المؤثرِّة والإنكارُ على الظَّاهرية؟! فهل بلغوا بالتمسُّك بالظَّاهر عُشرَ مِعْشار هذا؟! والذي يقضي منه العجب أن يُقال: لا يعتدُّ بخلاف المتمسِّكين بظاهر القرآن والسنة، ويُعتدُّ بخلاف هؤلاء! والله ورسوله مُنزَّهٌ عن هذا الحكم»([10]).

ومن أشهر المسائل الفقهية التي انفرد بها الحنفيَّة، وكثيرٌ من أهل الكوفة، عن الجمهور، إباحةُ قليل النَّبيذ ما لم يُسْكِر. وقد جَرَوا في ذلك مع اللفظ دون المعنى، حيث قصروا تحريم القليل والكثير على ما يُسمَّى خمرا في اللغة، وهو ما اتُّخِذ من العنب عندهم. وأمَّا ما أُخذ من غير العنب فلمَّا لم يُسمَّ خمرا، لم يَحْرُمْ جُمْلةً، وإنما حَرُم منه القدْر المسكر([11]). ولو سُلِّم أنَّ لفظ الخمر، لغةً، هو ما كان من العِنَب دون غيره، كما قالوه، فلا أدري ما المعنى الذي حُرِّم من أجله قليلُ عصير العنب المسكرِ كثيرُه، ولم يُحرَّم من أَجْلِه قليلُ عصير التَّمر المسكرِ كثيرُه؟! ولماذا قاسوا الكثير المسكر من أيِّ عصير على الكثير المسكر من عصير العنب، وامتنعوا عن قياس القليل مما أسكر كثيره من أيِّ عصير على القليل مما أسكر كثيره من عصير العنب؟! فهذا من التناقض المعنوي البيِّن الذي جرَّ إليه اتِّباع ما اعتقدوه ظاهر اللفظ.

وكذا إجازتهم للعاصي بسفره أن يترخَّص بالقَصْر والفِطر تعويلا على إطلاق النصوص، وأنَّ العاصي بسفره يُسمَّى مسافراً([12])، وهو تشبُّثٌ بظواهر الألفاظ ومراعاةً لها دون المقاصد.

وكذا تمسُّكُهم بإثبات نَسَب الولد للزوج مع وجود القطع بعدم اجتماع الزوجين، كالمشرقي يتزوج المغربية (بتوكيل) فتأتي بولد، وكمن تزوَّج وطلَّق في مجلسٍ واحد، مُتَمسّكين في ذلك بظاهر الحديث: «الولد للفراش»([13])، دون اعتبار لمعنى البَعضية ومَظنَّته من الدخول وإمكانه الذي يشتمل عليه لفظ الفراش([14]).قال ابن السبكي، بناءً على اجتهاد الحنفية في هذه المسألة وأمثالها: «جَهِد أصحاب الرأي من حيث لا يشعرون فعمَّموا القول بأنّ صور الأسباب الشرعية هي المعتبرة في الأحكام دون معانيها، وإن وَضُحت وضوح الشمس»([15]).

وفي العبادات كثيراً ما يكتفي الحنفية في الإجزاء بمطلق الاسم، كفرض القراءة، يحصُل عند أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، بآيةٍ واحدة، كـ {مُدْهَامَّتَانِ}(الرَّحمن:64)، أو {ثُمَّ نَظَرَ}(المدَّثر:21)([16])، وخُطبة الجمعة تجزئ عنها تسبيحةٌ واحدة([17])، والركوع والاعتدال منه والسجود يحصل عندهم بما ينطلق عليه الاسم، دون اشتِراطٍ للطُّمَأنينة والسُّكون([18]). وهذا كلُّه تشبُّثٌ بظواهر بعض النُّصوص وإطلاقاتها، مع أنَّه خروجٌ عن مقاصد العبادة من الذِّكر والخضوع.

والحنفيَّةُ، فيما استقرَّت عليه أصولهم، يمنعون من عود عِلَّة النص على ظاهره بالتأثير بتخصيصٍ أو تقييدٍ أو صرفٍ إلى المجاز، وهو منهج أصحاب الألفاظ. أمَّا أصحاب المعاني، كما في حادثة الصلاة في بني قريظة، فيُخَصِّصُون اللَّفظَ بعلَّته، ويقيِّدونه، ويُؤوِّلونه([19]).

والحنفيَّةُ لا يقولون بالمفهوم المخالف لقيود النص، وفي هذا إِعراضٌ عن التوسُّع في اعتبار القصد من ذِكْر القيد، وتعويلا على مجرَّد الظَّاهر من اللَّفظ. وهم في هذا يلتقون مع الظَّاهرية([20]).

وليس القصدُ من هذا كلِّه أن نصل إلى الحكم بأنَّ الحنفية ظاهرية، أو ننكر أنهم توسَّعوا في التعليل والتقصيد للنصوص الشرعية والقياس عليها، بل المقصود أنهم، أصولا وفروعا، أقربُ إلى أهل الألفاظ والظواهر من المالكية. وإذا تقرر هذا، فهو من أظهر الأدلة على ما أبديناه من خطأ النظر إلى "أهل الرأي" فيما استقرَّ عليه هذا المصطلح، في عصر أئمة الاجتهاد وبعده، على أنهم هُم فقط أهلُ التعليل والمقاصد وأصحابُ المعاني، والنظر إلى من قيل فيهم "أهل الحديث" من فقهاء الأمصار ما عدا الحنفية، لا سيَّما أهل المدينة وإمامهم مالك بن أنس، على أنهم أهل الألفاظ والظواهر.

مقتبس من كتاب أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه، أيمن صالح.



([1]) غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر، لأحمد الحموي الحنفي: (2/ 266).

([2]) البيان والتحصيل لابن رشد: (3/ 121).

([3]) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص46.

([4]) مواهب الجليل للحطَّاب: (4/ 73).

([5]) فتح القدير للكمال ابن الهمام: (3/ 489).

([6]) تقويم النظر في مسائل خلافية ذائعة لابن الدَّهان: (4/ 229).

([7]) يُنظر: نظرية الباعث في العقود في الفقه والأصول لوهبة الزحيلي: ص18.

([8]) بدائع الصنائع للكاساني: (7/ 43).

([9]) أحكام القرآن لابن العربي: (2/ 331). والصواب أنها لم تخف عليهما، ولكنهما لم يرتضياها أصلا بإطلاق.

([10]) إعلام الموقعين لابن القيم: (3/147).

([11]) ينظر: بدائع الصنائع للكاساني: (5/112).

([12]) ينظر: فتح القدير لابن الهمام: (2/47).

([13]) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب تفسير المتشابهات، (3/54)، رقم: (2953). ومسلم، كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقِّي الشُّبهات، (2/1080)، رقم: (1457).

([14]) ينظر: بدائع الصنائع للكاساني: (2/332).

([15]) الأشباه والنظائر للسبكي (2/ 176)

([16]) وقال الصَّاحبان: لا تجزئ ما لم يقرأ في كلّ ركعة ثلاث آيات قِصار أو آية طويلة. يُنظر: المبسوط للسَّرخسي: (1/ 221).

([17]) وقال الصَّاحبان: لا يجزئه حتى يكون كلاماً يُسمَّى خطبة. يُنظر: المبسوط للسَّرخسي: (2/ 30).

([18]) قال الكاساني (بدائع الصنائع: 1/ 105): «القدر المفروض من الركوع أصل الانحناء والميل، ومن السجود أصل الوضع، فأمَّا الطمأنينة عليهما فليست بفرض في قول أبي حنيفة ومحمَّد، وعند أبي يوسف فرض».

([19]) يُنظر تفصيل المذاهب في ذلك الفصل الثالث من كتابي: أثر تعليل النص على دلالته.

([20]) يُنظر: كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري: (2/265). والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: (7/2).


الجمعة، 28 أبريل 2023

الاحتجاج بمنهج السلف، رضوان الله عليهم.

نسبة حكم أو منهج أو قاعدةٍ ما للسلف الكرام ليس أمرًا سهلا؛ لأنه - ببساطة - دعوى إجماع، والإجماع لا بد فيه من الاستقراء، والاستقراء يعني الرجوع للآثار المنقولة عنهم، والتدقيق فيها ثبوتًا ودلالة. وما كان للسلف من حكم ورأي، ولو لبعضهم، ولو لواحد منهم = فإنّه مذهبٌ معتبر ينقض الإجماع، ويخرم اتفاق أكثرهم على خلافه.

وممّا تساهل فيه كثير من الفقهاء قديما وحديثا التقليد في نقل الإجماع، أي الاعتماد على ناقل معين نقل الإجماع، كابن المنذر، وابن حزم، وابن عبد البر، وغيرهم، رحمهم الله جميعا، دون القيام باستقراء أقوال السلف وفتاوى الصحابة والتابعين. والصواب "ترك التقليد" في دعوى الإجماع، والتشديد فيها والتدقيق والتحقيق، ولاسيّما ما يُدّعى من إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، رضوان الله عليهم، والاعتياد على الرجوع إلى كتب الآثار وإلى آحاد الفتاوى المنقولة عنهم في الكتب التي اعتنت بنقل فتاواهم وأقوالهم، فكم من إجماع ادعاه ناقل وبان خطؤه، بل ينقل بعضهم الإجماع على حكم في مسألة أحيانا، وينقل آخرون الإجماع على خلافه.

قال الإمام مالك في الموطأ (2/722) في مسألة "رد اليمين على المدعي": «هذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس. ولا ببلد ‌من ‌البلدان». فعلّق ابن حزم على ذلك قائلا: «هذه عظيمة جدا، وإن القائلين بالمنع من ردّ اليمين أكثر من القائلين بردها». ثم قال: «هذا الشافعي يقول في زكاة البقر: "في الثلاثين تبيع، وفي الأربعين مُسنّة، لا أعلم فيه خلافا". وإنّ الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وعمّال ابن الزبير بالمدينة، ثم عن إبراهيم النخعي، وعن أبي حنيفة، لأشهر من أن يجهله من يتعاطى العلم، إلى كثير لهم جدًّا من مثل هذا». (الإحكام لابن حزم  4/ 178).

وقد جمع صاحب "الإجماعات الفقهية التي حكاها الإمام أحمد" مسائل حكى فيها الإمام احمد الإجماع فبلغت ستا وثمانين، وبعد التحقق ظهر وجود الخلاف في ستة عشر منها، أي كان هناك خطأ بنسبة 20% تقريبا. وهذا مع أن الإمام أحمد رحمه االله من أعلم الناس بالآثار فكيف بمن دونه!

وأمّا صاحب «الإلماع بما لم يعلم فيه مخالف، أو تحقق فيه إجماع» فذكر أن:

الشافعي حكى الإجماع ١١٩، وعدد المتحقق منها ٨٤، والنسبة ٧٠.٥٪
وابن جرير حكاه ١٠٢، والمتحقق ٧٤، والنسبة ٧٢.٥٪
وابن المنذر حكاه ٦٧٧، والمتحقق ٤٧٩، والنسبة ٧٠.٧٪
وابن حزم حكاه ٩٤٣، والمتحقق ٧٣٩، والنسبة ٧٨.٣٪
وابن عبدالبر حكاه ٩٣٢، والمتحقق ٦٣٣، والنسبة ٦٨٪
ابن قدامة حكاه ١٣٤٩، والمتحقق منها ٩٨٣، والنسبة ٧٣٪
والنووي حكاه ٧٨٤، والمتحقق ٥٥٣، والنسبة ٧٠.٥٪
وابن تيمية حكاه ٦٠٦، والمتحقق ٤٧٠، والنسبة ٧٧.٥٪
وابن القيم حكاه ١١٠، والمتحقق ٧٧، والنسبة ٧٠٪
وابن حجر حكاه ٢٦٨، والمتحقق ٢٠٨، والنسبة ٧٧.٦٪
وابن مفلح (صاحب المبدع) حكاه ١٧٢، والمتحقق ١٣٥، والنسبة ٧٨.٤٪
والمرداوي حكاه ٢٠٢، والمتحقق ١٤١، والنسبة ٦٩.٨٪
والبهوتي حكاه ٨٨، والمتحقق ٧١، والنسبة ٨٠.٦٪

فيُلاحظ أن معدل نسبة الخطأ في نقل الإجماع في كلام العلماء تصل إلى 30% تقريبا. وهذا مع أن من تحقق من هذه الإجماعات هم افراد قلائل من الباحثين المعاصرين، ولو اجتمعت جهود أكثر في التحقق لزادت نسبة الخطأ في نقل الناقلين للإجماع عن النسب المذكورة، والله أعلم.
 
هذا وفضلا عن ذلك نقول: إن أكثر الذين يحتجون على مذاهبهم بمنهج السلف إنّما يستندون - في أحسن الأحوال - إلى منهج أو قاعدة أو حكم أو طريقة في العمل أو الاستدلال نُقلت عن بعض السلف، أو ربّما، عن كثير منهم. ومثل هذا - على حياله - لا يكفي للاحتجاج؛ لأنه لا يمثل إجماعا إلا بأربعة شروط:

1. أن يثبت كونه قولًا أو فعلًا منتشرًا فيهم. ودليل الانتشار ثبوته بالسند الصحيح عن كثير منهم.

2. ألا يثبت عن أحد منهم ما يدل على خلاف هذا القول أو الفعل.

3. أن تكون الواقعة أو الفعل محل الإجماع مما يتكرَّر وقوعه في العادة.

4. ألا يكون القول مبنيًّا على مصلحة أو عرف أو علة مرتبطة بزمانهم، وقد تغيّرت.

بهذه الشروط الأربعة يتحقّق الإجماع السكوتي - في نظرنا - وهو دليل اختلف الأصوليّون في صحّة الاحتجاج به. والقول في حجّيته وعدمها في غاية الإشكال من الجانبين كما قال السمعاني. والذي نراه أنّه بالشروط المذكورة أعلاه يصح اعتباره حجة ظنية في المسائل، أدنى من السنة، وأعلى من القياس، ولا سيّما ما ثبت انتشاره عن الصحابة. ومعنى كونه ظنيًّا أنّه يُعامل بصفته أحد أدلّة المسألة، لا سيّد هذه الأدلّة، والقاطع لدابر الخلاف فيها.

وقول من قال بقطعية الإجماع من الأصوليين لا يقصد هذا النوع من الإجماع، بل الإجماع الصريح. والصريحُ يصعب تصوّر حصوله، وإمكان نقله، في غير المعلوم من الدين بالضرورة، الذي ينقله العامة عن العامة، مما تضافرت عليه دلالات النصوص، كوجوب الصلاة، وأعداد الركعات، وتحريم الخمر، ونحو ذلك من الأحكام التي يشترك في العلم بها العام والخاص، كما بينه الإمام الشافعي حين سأله محاوره:«فكيف يصحّ أن تقول إجماعا؟ قلت: يصحّ في الفرض الذي ‌لا ‌يسع ‌جهله ‌من ‌الصلوات والزكاة وتحريم الحرام. وأمّا علم الخاصّة في الأحكام الذي لا يضير جهله على العوام، والذي إنّما علمه عند الخواصّ من سبيل خبر الخواصّ، وقليل ما يوجد من هذا، فنقول فيه واحدا من قولين: نقول: "لا نعلمهم اختلفوا" فيما لا نعلمهم اختلفوا فيه، ونقول فيما اختلفوا فيه: "اختلفوا واجتهدوا فأخذنا أشبه أقاويلهم بالكتاب والسنة"». الأم 7/ 278 ط الفكر.

ومن أمثلة ما ثبت من مناهج الاستدلال عن الصحابة، رضوان الله عليهم، ممّا ليس فيه نصٌّ صريح = الاستدلال بالقياس واستعماله. قال الرازي وغيره: أقوى ما تمسّك به مثبتو القياس على حجّيته = إجماعُ الصحابة. قلت: ومع ذلك هذا الإجماع حجّة ظنّية، والقياس - كما قال ابن القيم - حجّيته ظنية لا قطعية. ومن التابعين من أنكر القياس صراحة، كابن سيرين والشعبي.

والله أعلم.


وكتبه أيمن صالح.

الخميس، 20 أبريل 2023

أشكال تصرّفات الفقهاء عند تردُّد الحكم بين المظنّة والحكمة

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فبالاستقراء والتأمّل فيما يُوجد عند الفقهاء من مسائل فقهية، يتردَّد الحكم فيها بين أن يُناط بالمظنة، أو يُناط بالحكمة، وجدتُّ أنّ تصرُّفاتِهم، تتّخذ أشكالًا أربعة:

الأوّل: أن يقطعوا الحكم عن المظنّة المنصوصة، ويديروه مع الحكمة وجودًا وعدمًا، وهذا إذا كانت الحكمة منفردة بالحكم، ومفهومة بوضوح من النصَّ على المظنّة.

ومثاله: «لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان»([1])، أداروا حكم كراهة القضاء مع تشوُّش الذهن (الحكمة) وجودًا وعدمًا، وقطعوه عن الدوران مع ذات الغضب (المظنّة المنصوصة)، فكلُّ ما يشوِّش - كالألم والاحتقان والجوع والعطش المفرطين - مكروهٌ معه القضاء. والغضبُ اليسير غير المشوِّش يرتفع عنه حكم الكراهة. فالغضب نفسه لم يعد مَناطًا للحكم، بل تشوّش الذهن، وجودًا وعدمًا([2]).

ومثاله أيضًا: اجتهاد الجمهور في حديث: «إذا استيقظ أحدُكم من نومه فليغسل يده قبل أن يُدخلها في وَضوئه، فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده»([3])، أداروا حكم ندب غسل اليد على الشكّ في نجاستها (الحكمة)، سواء أكان ذلك بسبب الاستيقاظ من النوم (المظنة المنصوصة)، أم غير ذلك من الحالات، ورفعوا حكم ندب الغسل عن المستيقظ من نومه المتيقِّنِ عدمَ نجاسة يده، كمن نام ويداه مقيّدتان خلف ظهره، أو كمن نام ويداه في قفّازين. فالاستيقاظ من النّوم ليس مناطًا للحُكم، بل الشكّ في نجاسة اليد، وجودًا وعدمًا([4]).

والشكل الثاني: عكس الأول وهو: أن يديروا الحكم مع المظنّة المنصوصة، ويقطعوه عن الحكمة بالكلّية، وهذا في الأحكام التعبّدية والتقديرية والمخصوصة بأصحابها.

ومثاله: تحريم لحم الخنزير، فالحكمة هي كونه رجسًا وقذرًا، ومع هذا لا يُقاس عليه غيره من الحيوان، حتى لو فُرض كونه أقذر منه، ولا يرتفع حكم التحريم عن الخنزير، حتى لو جعلناه يعيش في بيئة نظيفة، ولم نطعمه إلا طعامًا نظيفًا. فحكم التحريم هنا يدور مع المظنّة (محل الحكم)، وهي تناول لحم الخنزير، وجودًا وعدمًا، وهو مقطوع عن حكمة التحريم، وهي كون الخنزير رجسًا وقذرًا أو مصدرًا لكثير من الأمراض، وغير ذلك ممّا يُقال في حكمة تحريم أكل الخنزير.

ومثاله أيضًا: وجوب افتتاح الصلاة عند الجمهور بلفظ التكبير "الله أكبر" لحِكمة إجلال الله تعالى وتعظيمه، ولا يُقاس على لفظ التكبير غيره، وإن أدَّى معنى الإجلال والتعظيم، كـ "الله أعظم"، و"الله أجلّ"، كما أنّ الصلاة تصحّ مع لفظ التكبير، حتى لو كان المصلّي وقتئذٍ غافلًا عن معنى التعظيم والإجلال (فقدان الحكمة)([5]).

ومثاله أيضًا: الأحكام المخصوصة بالنصّ، كشهادة خزيمة التي جُعلت بشهادة رجلين([6])، وإجزاء العَناق عن أبي بردة([7])، وإباحة الزواج بأكثر من أربع للنبي، صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الأحكام المخصوصة بأصحابها بالنصّ، التي قد تُفهم حكمةُ تخصيصها بأصحابها، ولكن، مع ذلك، لا يُقاس عليها.

والشكل الثالث: أن يُبقوا الحكم دائرًا مع المظنّة المنصوصة لا مع الحكمة، ولكن يشترطون في المظنّة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى الحكمة.

ومثاله حكم إباحة الفِطر في رمضان مع السّفر، أداروا الحكم مع السّفر لا مع المشقَّة، فلم يجيزوا للحمَّالين وأصحاب المهن الشاقَّة الفطر كالمسافر([8])، ومع هذا فإنّهم، في جمهورهم، قيَّدوا السّفر المبيح للفطر بكونه طويلًا، وضبطوا طوله: إمّا بمسافة معيّنة، كأربعة بُرُد، وإمّا بمسافة تُقطع في مدّة معيّنة، كمسيرة ثلاثة أيام، أو يوم وليلة، وذلك التفاتًا إلى معنى المشقّة([9]). وكذلك المرض المبيح للفطر ضبطوه بكونه يشقّ، أو يضرّ، معه الصوم، حالًا أو مآلًا([10]).

ومثاله أيضًا: حكم نقض الوضوء بلمس المرأة عند الجمهور، فالسّبب المنصوص هو مطلق لمس النِّساء، ومع هذا فقد اشترط الفقهاء في هذا اللمس شروطًا لكي يكون مظنّةً للحِكمة، أي للمعنى المناسب لحصول الانتقاض بلمس لمرأة، وهو الشهوة، فاشترط المالكية([11]) والحنابلة([12]) وجودَ الشهوة (اللذة) أو قصدَها، واشترط الحنفية([13]) وجودَ المسّ الفاحش، أي مباشرة الجسد الجسد، إذ المعتبر عندهم شهوة قويّة تكون مظنة لخروج المذي لا أي شهوة، واشترط الشافعيّة([14]) أن تكون المرأة من اللاتي يُقصدن باللمس للالتذاذ والشهوة عادةً، فلم يعتبروا لمس الصغيرات، ولا لمس المحارم، لأنّهنّ لسن مظنّة للشهوة. وكلُّ هذه الاشتراطات - على تفاوتها - تلتفت في نهاية المطاف إلى حكمة الحُكم بنقض الوضوء من لمس المرأة، وهو أنّه مظنّة للشهوة والالتذاذ.

والشكل الرابع: وهو عكس السابق: أن يديروا الحُكم مع الحكمة لا مع المظنّة المنصوصة، ولكن يشترطون مع تحقُّق الحكمة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى المظنّة المنصوصة.

ومثال ذلك اجتهاد الشافعيّة([15]) والحنابلة([16]) في حديث الاستنجاء أنه، صلى الله عليه وسلم، «أمر بثلاثة أحجار»([17])، فقد أداروا الحكم على إنقاء المحلّ من النجاسة (الحكمة)، ولم يديروه على استعمال الثلاثة أحجار (المظنة)، فمن جهة الوجود: قاسوا على الحجارة كلّ مزيل من الطاهرات، كالورق وغيره، ومن جهة العدم: قالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ. ولكنّهم، مع ذلك، اشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسَحاتٍ على الأقلّ، وهذا الاشتراط التفاتٌ منهم إلى لفظ التثليث الوارد في المظنّة المنصوصة.

أمَّا الحنفيّة([18]) والمالكيّة([19])، فأداروا الحكم مع حكمة الإنقاء وقطعوه عن المظنة تمامًا، فأجازوا الاستنجاء بكلّ طاهر مزيل، وقالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ، ولم يشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسحات، بل تكفي المسحة الواحدة إذا كانت مُنقية، فالعبرة عندهم بحكمة الإنقاء لا بعين المزيل ولا عدده. فهم أداروا الحكم مع الحكمة بالكُلِّية، وجودًا وعدمًا، لوضوحها وانفرادها، فاجتهادهم في هذه المسألة من الشكل الأول. والشافعيّة والحنابلة أداروه مع الحكمة، ولكنّهم اشترطوا معها شرطًا استمدّوه من المظنة المنصوصة، إمّا احترامًا لظاهر النصَّ، وإمّا لأنَّهم قدَّروا وجود نوعٍ من التعبُّد في الحكم المنصوص. وإمّا لأمر معنوي وهو أنَّ إنقاء الدّبُر يعسر أن يكون بمسحة واحدة، كما يعسر غالبًا التحقّق من حصول الإنقاء في الواقع لغياب موضعه عن نظر المستجمر، فكان الاحتياط ألّا يُجتزأ بأقلَّ من ثلاث مسحات. وهو ملحظٌ وجيه.

وكتبه أيمن صالح
مقتبس من بحث العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنّة أو بالحكمة: دراسة أصوليّة.

___________________


([1]) أحمد، المسند، 34/14 واللفظ له. قال الأرناؤوط: إسناده صحيح؛ البخاري، الصحيح، 9/65؛ مسلم، الصحيح، 3/1342.

([2]) ينظر: ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، 4/185؛ ابن حجر، فتح الباري، 13/137.

([3]) البخاري، الصحيح، 1/44؛ مسلم، الصحيح، 1/233.

([4]) ينظر: النووي، شرح صحيح مسلم، 3/180؛ ابن حجر، فتح الباري، 1/264.

([5]) ينظر: ابن دقيق العيد، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، 1/260.

([6]) قال الألباني: «صحيح. أخرجه أبو داود (3607)، والنسائي (2/229)، والحاكم (2/17 ـ 18)، وأحمد (5/215)». الألباني، إرواء الغليل، 5/127.

([7]) البخاري، الصحيح، 2/23؛ مسلم، الصحيح، 3/1552.

([8]) ينظر: ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، 2/420؛ البكري الدمياطي، إعانة الطالبين، 2/267؛ البهوتي، دقائق أولي النهى، 1/478؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/176.

([9]) ينظر: ابن قدامة، المغني، 3/106؛ ابن الهمام، فتح القدير، 2/30.

([10]) ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، 3/138؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، 28/45.

([11]) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 1/296.

([12]) البهوتي، كشاف القناع، 1/301.

([13]) الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، 1/12.

([14]) الشربيني، مغني المحتاج، 1/145.

([15]) المرجع السابق، 1/163.

([16]) البهوتي، كشاف القناع، 1/139.

([17]) أبو داود، سنن أبي داود، 1/208. قواه الارناؤوط وحسنه الالباني.

([18]) ابن الهمام، فتح القدير، 1/213.

([19]) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 1/289.