أو بعبارة أخرى: خذ ما تفهم الآن، ودع عنك ما يصعب فهمُه إلى حينه.
يجهد بعض المتعلِّمين في محاولة فهم كلّ كبيرة وصغيرة في الدرس الذي يسمعه، أو الكتاب الذي يقرؤه، ظانًّا أنّ هذه هي سبيل التعلُّم الأمثل. وهذا لو تُؤمِّل لوُجِد ضارًّا بحال أكثر المتعلِّمين لأسباب عدّة:
أولًا: أنّه يؤخِّر التقدُّم في التعلُّم كثيرًا، ويطوِّل سبيله؛ إذ بعض المسائل أو الأفكار أو الأقوال قد تحتاج إلى ساعات أو أيام أو أسابيع أو حتى شهور، من الجهد والبحث والسؤال لأهل الاختصاص حتى تُفهم حقّ الفهم على مراد واضعيها. ومَثَلُ الواقف عند هذه المسائل في الوصول إلى الغرض من العلم المدروس أو الكتاب المقروء، ومَثَل المعرِض عنها، كمثل السلحفاة والأرنب إذا تسابقا من غير أن ينام الأرنب في الطريق.
السبب الثاني: أنّ فهم مثل هذه المسائل غالبًا ما يعتمد على فهم مسائل أخرى تمهيدية لم يمرّ بها المتعلم بعدُ بسبب ضَعف طُرُق التعليم لعدم مراعاتها مبدأَ تدرُّج المسائل والعلوم، كما هو الحال في أكثر الجامعات التي تدرِّس بنظام الساعات، أو بسبب سوءِ وضع الكتاب المقروء واختلال ترتيبه، ولكنّ المتعلِّم سيمرّ بهذه المسائل التمهيدية لاحقًا في الدروس، أو فيما يستقبله من فصول الكتاب. وعليه، فكثير من المعضلات التي قد يواجهها طالب العلم في مُبتدَأ حضور الدروس، أو مستهلّ الخوض في دراسة علم من العلوم، أو كتاب من الكتب، تنكشف له شيئًا فشيئًا مع تقدُّمه في الدروس أو مضيه في القراءة، أي أنّه سيفهمها بأثرٍ رجعي، دون الحاجة إلى بذل كثير من الجهد ابتداءً.
السبب الثالث: أنّ محاولة المتعلِّم فهمَ كلِّ كبيرة وصغيرة يورثه الملال نظرًا للمشقة التي يجدها في ذلك، ولاسيما إذا لم يجد من يسعفه بالشرح والتفهيم عاجلًا. وهذا من شأنه أن يُقلِّل من مستوى حماسه ودافعيته للتعلُّم بمرور الوقت، وغالبًا ما يؤدي به إلى الانقطاع عن التعلم أو عن قراءة الكتاب بعد أن كان متحمِّسا لذلك منذ البداية.
السبب الرابع: أنّ التوقُّف عند هذه المسائل بحثًا عمّا - أو عمّن - يشرحها ويُفهمُها يقطع تتابع العلم، ويشتِّت الطالب، وزملاءه في الدرس، ويُزعج المعلِّم، ويصرف عن مواصلة قراءة الكتاب. وداءُ العِلم تركُ المتابعة والمولاة وفقدُ التركيز بالانصراف إلى غير ما المتعلم بصدده من واضح المسائل التي هي جوهر العلم ومعظمُه، إلى معلِّم آخر يسأله، أو كتاب آخر يطرقُه، أو متصفِّحٍ إنترنتيٍّ يُجوجله. وتركُ الموالاة إذا كان مُفسدًا الوضوءَ والصّلاةَ قاطعا لهما فإنّه لبناء العلم أفسد وعنه أقطع.
السبب الخامس: أنّ كثيرًا ممّا يوقف عنده كثيرًا لصعوبته وإشكاله في الدروس والكتب ولاسيما كتب أصول الفقه، يكون متعلِّقًا بفكرة هامشية غير ذات جدوى في العلم، أو مجرّد استطراد في علم آخر، كالمنطق أو الكلام، أو متعلِّقًا بفكّ عبارة لماتنٍ أو شارحٍ أو مُحشٍّ لم يحسن صوغَها، أو تكون مصحّفة في نسخها أو طباعتها. ولو وُزِنت الفائدة المجتناة من فهم مثل هذه المسائل، وحلِّ هذه الإشكالات بالتعب المبذول في فهمها وحلِّها الذي لو صُرف في فهم مسائل أخرى يسيرة الفهم ولكنها ذات أهمية وأثر في تحصيل ثمرة العلم أو حَوْز زبدة الكتاب المدروس، لكانت هذه الفائدة تافهة بل في غاية التفاهة. فالكسب العلمي أو النفسي الذي يُتحصَّل عليه مَنْ فَهِم هذه المسائل، وحَلّ هذه الإشكالات، لا ينبغي أن يُنظر إليه بمعزل عن الخسارة التي نتجت عن ضياع الجهد والوقت ومن ثم فوات تحصيل مكاسب أخرى أهم. وهو ما يُطلق عليه في علوم الاقتصاد والمال: "الفرصة الضائعة".
والخلاصة: لا تهتمَّ كثيرًا بما يفوتك فهمُه في درسٍ تحضره، أو كتابٍ تقرؤه، إذا كان المفهومُ عندك من هذا الدرس أو هذا الكتاب أكثر من غير المفهوم، أو كان غير المفهوم هامشيًا؛ وإذا اضطررت إلى قراءة كتب المتأخّرين - ولا أنصح بها - فاقتصر على الشرح ولا تلتفت إلى الحواشي، لأنّه سياتي عليك وقتٌ تفهم فيه ما فاتك فهمه إذا قطعت شوطًا في العلم ورسخت قدمك فيه. وخذ بما قاله تعالى في توجيه المؤمنين في كيفية التعامل مع المتشابهات: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي فاشتغل بهنّ عِلمًا وعملًا {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فاتركهن الآن؛ لأنّه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فقاصد فهم ما لم يتأهّل بعدُ لفهمه زائغٌ ضلَّ الطريق؛ لأنّه إمّا أن يكون باغيًا الفتنة بترويج تأويله الخطأ وفهمه السقيم متابعةً للهوى لا للحقّ، وإمّا جاهلًا يريد أن يتزبَّب قبل أن يتحصرم. فهذه المتشابهات لا يعلمها حقّ العلم إلا قائلها سبحانه وتعالى، ثمَّ من يتركها حتى يرسخ في العلم فيفتح الله عليها بفهمها على وجهها ليكون من الذين {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[آل عمران: 7]. وهذا على رأي من يجعل الوقف في الآية بعد عبارة "الراسخون في العلم" لا قبلها.