أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الجمعة، 28 أبريل 2023

الاحتجاج بمنهج السلف، رضوان الله عليهم.

نسبة حكم أو منهج أو قاعدةٍ ما للسلف الكرام ليس أمرًا سهلا؛ لأنه - ببساطة - دعوى إجماع، والإجماع لا بد فيه من الاستقراء، والاستقراء يعني الرجوع للآثار المنقولة عنهم، والتدقيق فيها ثبوتًا ودلالة. وما كان للسلف من حكم ورأي، ولو لبعضهم، ولو لواحد منهم = فإنّه مذهبٌ معتبر ينقض الإجماع، ويخرم اتفاق أكثرهم على خلافه.

وممّا تساهل فيه كثير من الفقهاء قديما وحديثا التقليد في نقل الإجماع، أي الاعتماد على ناقل معين نقل الإجماع، كابن المنذر، وابن حزم، وابن عبد البر، وغيرهم، رحمهم الله جميعا، دون القيام باستقراء أقوال السلف وفتاوى الصحابة والتابعين. والصواب "ترك التقليد" في دعوى الإجماع، والتشديد فيها والتدقيق والتحقيق، ولاسيّما ما يُدّعى من إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، رضوان الله عليهم، والاعتياد على الرجوع إلى كتب الآثار وإلى آحاد الفتاوى المنقولة عنهم في الكتب التي اعتنت بنقل فتاواهم وأقوالهم، فكم من إجماع ادعاه ناقل وبان خطؤه، بل ينقل بعضهم الإجماع على حكم في مسألة أحيانا، وينقل آخرون الإجماع على خلافه.

قال الإمام مالك في الموطأ (2/722) في مسألة "رد اليمين على المدعي": «هذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس. ولا ببلد ‌من ‌البلدان». فعلّق ابن حزم على ذلك قائلا: «هذه عظيمة جدا، وإن القائلين بالمنع من ردّ اليمين أكثر من القائلين بردها». ثم قال: «هذا الشافعي يقول في زكاة البقر: "في الثلاثين تبيع، وفي الأربعين مُسنّة، لا أعلم فيه خلافا". وإنّ الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وعمّال ابن الزبير بالمدينة، ثم عن إبراهيم النخعي، وعن أبي حنيفة، لأشهر من أن يجهله من يتعاطى العلم، إلى كثير لهم جدًّا من مثل هذا». (الإحكام لابن حزم  4/ 178).

وقد جمع صاحب "الإجماعات الفقهية التي حكاها الإمام أحمد" مسائل حكى فيها الإمام احمد الإجماع فبلغت ستا وثمانين، وبعد التحقق ظهر وجود الخلاف في ستة عشر منها، أي كان هناك خطأ بنسبة 20% تقريبا. وهذا مع أن الإمام أحمد رحمه االله من أعلم الناس بالآثار فكيف بمن دونه!

وأمّا صاحب «الإلماع بما لم يعلم فيه مخالف، أو تحقق فيه إجماع» فذكر أن:

الشافعي حكى الإجماع ١١٩، وعدد المتحقق منها ٨٤، والنسبة ٧٠.٥٪
وابن جرير حكاه ١٠٢، والمتحقق ٧٤، والنسبة ٧٢.٥٪
وابن المنذر حكاه ٦٧٧، والمتحقق ٤٧٩، والنسبة ٧٠.٧٪
وابن حزم حكاه ٩٤٣، والمتحقق ٧٣٩، والنسبة ٧٨.٣٪
وابن عبدالبر حكاه ٩٣٢، والمتحقق ٦٣٣، والنسبة ٦٨٪
ابن قدامة حكاه ١٣٤٩، والمتحقق منها ٩٨٣، والنسبة ٧٣٪
والنووي حكاه ٧٨٤، والمتحقق ٥٥٣، والنسبة ٧٠.٥٪
وابن تيمية حكاه ٦٠٦، والمتحقق ٤٧٠، والنسبة ٧٧.٥٪
وابن القيم حكاه ١١٠، والمتحقق ٧٧، والنسبة ٧٠٪
وابن حجر حكاه ٢٦٨، والمتحقق ٢٠٨، والنسبة ٧٧.٦٪
وابن مفلح (صاحب المبدع) حكاه ١٧٢، والمتحقق ١٣٥، والنسبة ٧٨.٤٪
والمرداوي حكاه ٢٠٢، والمتحقق ١٤١، والنسبة ٦٩.٨٪
والبهوتي حكاه ٨٨، والمتحقق ٧١، والنسبة ٨٠.٦٪

فيُلاحظ أن معدل نسبة الخطأ في نقل الإجماع في كلام العلماء تصل إلى 30% تقريبا. وهذا مع أن من تحقق من هذه الإجماعات هم افراد قلائل من الباحثين المعاصرين، ولو اجتمعت جهود أكثر في التحقق لزادت نسبة الخطأ في نقل الناقلين للإجماع عن النسب المذكورة، والله أعلم.
 
هذا وفضلا عن ذلك نقول: إن أكثر الذين يحتجون على مذاهبهم بمنهج السلف إنّما يستندون - في أحسن الأحوال - إلى منهج أو قاعدة أو حكم أو طريقة في العمل أو الاستدلال نُقلت عن بعض السلف، أو ربّما، عن كثير منهم. ومثل هذا - على حياله - لا يكفي للاحتجاج؛ لأنه لا يمثل إجماعا إلا بأربعة شروط:

1. أن يثبت كونه قولًا أو فعلًا منتشرًا فيهم. ودليل الانتشار ثبوته بالسند الصحيح عن كثير منهم.

2. ألا يثبت عن أحد منهم ما يدل على خلاف هذا القول أو الفعل.

3. أن تكون الواقعة أو الفعل محل الإجماع مما يتكرَّر وقوعه في العادة.

4. ألا يكون القول مبنيًّا على مصلحة أو عرف أو علة مرتبطة بزمانهم، وقد تغيّرت.

بهذه الشروط الأربعة يتحقّق الإجماع السكوتي - في نظرنا - وهو دليل اختلف الأصوليّون في صحّة الاحتجاج به. والقول في حجّيته وعدمها في غاية الإشكال من الجانبين كما قال السمعاني. والذي نراه أنّه بالشروط المذكورة أعلاه يصح اعتباره حجة ظنية في المسائل، أدنى من السنة، وأعلى من القياس، ولا سيّما ما ثبت انتشاره عن الصحابة. ومعنى كونه ظنيًّا أنّه يُعامل بصفته أحد أدلّة المسألة، لا سيّد هذه الأدلّة، والقاطع لدابر الخلاف فيها.

وقول من قال بقطعية الإجماع من الأصوليين لا يقصد هذا النوع من الإجماع، بل الإجماع الصريح. والصريحُ يصعب تصوّر حصوله، وإمكان نقله، في غير المعلوم من الدين بالضرورة، الذي ينقله العامة عن العامة، مما تضافرت عليه دلالات النصوص، كوجوب الصلاة، وأعداد الركعات، وتحريم الخمر، ونحو ذلك من الأحكام التي يشترك في العلم بها العام والخاص، كما بينه الإمام الشافعي حين سأله محاوره:«فكيف يصحّ أن تقول إجماعا؟ قلت: يصحّ في الفرض الذي ‌لا ‌يسع ‌جهله ‌من ‌الصلوات والزكاة وتحريم الحرام. وأمّا علم الخاصّة في الأحكام الذي لا يضير جهله على العوام، والذي إنّما علمه عند الخواصّ من سبيل خبر الخواصّ، وقليل ما يوجد من هذا، فنقول فيه واحدا من قولين: نقول: "لا نعلمهم اختلفوا" فيما لا نعلمهم اختلفوا فيه، ونقول فيما اختلفوا فيه: "اختلفوا واجتهدوا فأخذنا أشبه أقاويلهم بالكتاب والسنة"». الأم 7/ 278 ط الفكر.

ومن أمثلة ما ثبت من مناهج الاستدلال عن الصحابة، رضوان الله عليهم، ممّا ليس فيه نصٌّ صريح = الاستدلال بالقياس واستعماله. قال الرازي وغيره: أقوى ما تمسّك به مثبتو القياس على حجّيته = إجماعُ الصحابة. قلت: ومع ذلك هذا الإجماع حجّة ظنّية، والقياس - كما قال ابن القيم - حجّيته ظنية لا قطعية. ومن التابعين من أنكر القياس صراحة، كابن سيرين والشعبي.

والله أعلم.


وكتبه أيمن صالح.

الخميس، 20 أبريل 2023

أشكال تصرّفات الفقهاء عند تردُّد الحكم بين المظنّة والحكمة

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فبالاستقراء والتأمّل فيما يُوجد عند الفقهاء من مسائل فقهية، يتردَّد الحكم فيها بين أن يُناط بالمظنة، أو يُناط بالحكمة، وجدتُّ أنّ تصرُّفاتِهم، تتّخذ أشكالًا أربعة:

الأوّل: أن يقطعوا الحكم عن المظنّة المنصوصة، ويديروه مع الحكمة وجودًا وعدمًا، وهذا إذا كانت الحكمة منفردة بالحكم، ومفهومة بوضوح من النصَّ على المظنّة.

ومثاله: «لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان»([1])، أداروا حكم كراهة القضاء مع تشوُّش الذهن (الحكمة) وجودًا وعدمًا، وقطعوه عن الدوران مع ذات الغضب (المظنّة المنصوصة)، فكلُّ ما يشوِّش - كالألم والاحتقان والجوع والعطش المفرطين - مكروهٌ معه القضاء. والغضبُ اليسير غير المشوِّش يرتفع عنه حكم الكراهة. فالغضب نفسه لم يعد مَناطًا للحكم، بل تشوّش الذهن، وجودًا وعدمًا([2]).

ومثاله أيضًا: اجتهاد الجمهور في حديث: «إذا استيقظ أحدُكم من نومه فليغسل يده قبل أن يُدخلها في وَضوئه، فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده»([3])، أداروا حكم ندب غسل اليد على الشكّ في نجاستها (الحكمة)، سواء أكان ذلك بسبب الاستيقاظ من النوم (المظنة المنصوصة)، أم غير ذلك من الحالات، ورفعوا حكم ندب الغسل عن المستيقظ من نومه المتيقِّنِ عدمَ نجاسة يده، كمن نام ويداه مقيّدتان خلف ظهره، أو كمن نام ويداه في قفّازين. فالاستيقاظ من النّوم ليس مناطًا للحُكم، بل الشكّ في نجاسة اليد، وجودًا وعدمًا([4]).

والشكل الثاني: عكس الأول وهو: أن يديروا الحكم مع المظنّة المنصوصة، ويقطعوه عن الحكمة بالكلّية، وهذا في الأحكام التعبّدية والتقديرية والمخصوصة بأصحابها.

ومثاله: تحريم لحم الخنزير، فالحكمة هي كونه رجسًا وقذرًا، ومع هذا لا يُقاس عليه غيره من الحيوان، حتى لو فُرض كونه أقذر منه، ولا يرتفع حكم التحريم عن الخنزير، حتى لو جعلناه يعيش في بيئة نظيفة، ولم نطعمه إلا طعامًا نظيفًا. فحكم التحريم هنا يدور مع المظنّة (محل الحكم)، وهي تناول لحم الخنزير، وجودًا وعدمًا، وهو مقطوع عن حكمة التحريم، وهي كون الخنزير رجسًا وقذرًا أو مصدرًا لكثير من الأمراض، وغير ذلك ممّا يُقال في حكمة تحريم أكل الخنزير.

ومثاله أيضًا: وجوب افتتاح الصلاة عند الجمهور بلفظ التكبير "الله أكبر" لحِكمة إجلال الله تعالى وتعظيمه، ولا يُقاس على لفظ التكبير غيره، وإن أدَّى معنى الإجلال والتعظيم، كـ "الله أعظم"، و"الله أجلّ"، كما أنّ الصلاة تصحّ مع لفظ التكبير، حتى لو كان المصلّي وقتئذٍ غافلًا عن معنى التعظيم والإجلال (فقدان الحكمة)([5]).

ومثاله أيضًا: الأحكام المخصوصة بالنصّ، كشهادة خزيمة التي جُعلت بشهادة رجلين([6])، وإجزاء العَناق عن أبي بردة([7])، وإباحة الزواج بأكثر من أربع للنبي، صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الأحكام المخصوصة بأصحابها بالنصّ، التي قد تُفهم حكمةُ تخصيصها بأصحابها، ولكن، مع ذلك، لا يُقاس عليها.

والشكل الثالث: أن يُبقوا الحكم دائرًا مع المظنّة المنصوصة لا مع الحكمة، ولكن يشترطون في المظنّة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى الحكمة.

ومثاله حكم إباحة الفِطر في رمضان مع السّفر، أداروا الحكم مع السّفر لا مع المشقَّة، فلم يجيزوا للحمَّالين وأصحاب المهن الشاقَّة الفطر كالمسافر([8])، ومع هذا فإنّهم، في جمهورهم، قيَّدوا السّفر المبيح للفطر بكونه طويلًا، وضبطوا طوله: إمّا بمسافة معيّنة، كأربعة بُرُد، وإمّا بمسافة تُقطع في مدّة معيّنة، كمسيرة ثلاثة أيام، أو يوم وليلة، وذلك التفاتًا إلى معنى المشقّة([9]). وكذلك المرض المبيح للفطر ضبطوه بكونه يشقّ، أو يضرّ، معه الصوم، حالًا أو مآلًا([10]).

ومثاله أيضًا: حكم نقض الوضوء بلمس المرأة عند الجمهور، فالسّبب المنصوص هو مطلق لمس النِّساء، ومع هذا فقد اشترط الفقهاء في هذا اللمس شروطًا لكي يكون مظنّةً للحِكمة، أي للمعنى المناسب لحصول الانتقاض بلمس لمرأة، وهو الشهوة، فاشترط المالكية([11]) والحنابلة([12]) وجودَ الشهوة (اللذة) أو قصدَها، واشترط الحنفية([13]) وجودَ المسّ الفاحش، أي مباشرة الجسد الجسد، إذ المعتبر عندهم شهوة قويّة تكون مظنة لخروج المذي لا أي شهوة، واشترط الشافعيّة([14]) أن تكون المرأة من اللاتي يُقصدن باللمس للالتذاذ والشهوة عادةً، فلم يعتبروا لمس الصغيرات، ولا لمس المحارم، لأنّهنّ لسن مظنّة للشهوة. وكلُّ هذه الاشتراطات - على تفاوتها - تلتفت في نهاية المطاف إلى حكمة الحُكم بنقض الوضوء من لمس المرأة، وهو أنّه مظنّة للشهوة والالتذاذ.

والشكل الرابع: وهو عكس السابق: أن يديروا الحُكم مع الحكمة لا مع المظنّة المنصوصة، ولكن يشترطون مع تحقُّق الحكمة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى المظنّة المنصوصة.

ومثال ذلك اجتهاد الشافعيّة([15]) والحنابلة([16]) في حديث الاستنجاء أنه، صلى الله عليه وسلم، «أمر بثلاثة أحجار»([17])، فقد أداروا الحكم على إنقاء المحلّ من النجاسة (الحكمة)، ولم يديروه على استعمال الثلاثة أحجار (المظنة)، فمن جهة الوجود: قاسوا على الحجارة كلّ مزيل من الطاهرات، كالورق وغيره، ومن جهة العدم: قالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ. ولكنّهم، مع ذلك، اشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسَحاتٍ على الأقلّ، وهذا الاشتراط التفاتٌ منهم إلى لفظ التثليث الوارد في المظنّة المنصوصة.

أمَّا الحنفيّة([18]) والمالكيّة([19])، فأداروا الحكم مع حكمة الإنقاء وقطعوه عن المظنة تمامًا، فأجازوا الاستنجاء بكلّ طاهر مزيل، وقالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ، ولم يشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسحات، بل تكفي المسحة الواحدة إذا كانت مُنقية، فالعبرة عندهم بحكمة الإنقاء لا بعين المزيل ولا عدده. فهم أداروا الحكم مع الحكمة بالكُلِّية، وجودًا وعدمًا، لوضوحها وانفرادها، فاجتهادهم في هذه المسألة من الشكل الأول. والشافعيّة والحنابلة أداروه مع الحكمة، ولكنّهم اشترطوا معها شرطًا استمدّوه من المظنة المنصوصة، إمّا احترامًا لظاهر النصَّ، وإمّا لأنَّهم قدَّروا وجود نوعٍ من التعبُّد في الحكم المنصوص. وإمّا لأمر معنوي وهو أنَّ إنقاء الدّبُر يعسر أن يكون بمسحة واحدة، كما يعسر غالبًا التحقّق من حصول الإنقاء في الواقع لغياب موضعه عن نظر المستجمر، فكان الاحتياط ألّا يُجتزأ بأقلَّ من ثلاث مسحات. وهو ملحظٌ وجيه.

وكتبه أيمن صالح
مقتبس من بحث العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنّة أو بالحكمة: دراسة أصوليّة.

___________________


([1]) أحمد، المسند، 34/14 واللفظ له. قال الأرناؤوط: إسناده صحيح؛ البخاري، الصحيح، 9/65؛ مسلم، الصحيح، 3/1342.

([2]) ينظر: ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، 4/185؛ ابن حجر، فتح الباري، 13/137.

([3]) البخاري، الصحيح، 1/44؛ مسلم، الصحيح، 1/233.

([4]) ينظر: النووي، شرح صحيح مسلم، 3/180؛ ابن حجر، فتح الباري، 1/264.

([5]) ينظر: ابن دقيق العيد، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، 1/260.

([6]) قال الألباني: «صحيح. أخرجه أبو داود (3607)، والنسائي (2/229)، والحاكم (2/17 ـ 18)، وأحمد (5/215)». الألباني، إرواء الغليل، 5/127.

([7]) البخاري، الصحيح، 2/23؛ مسلم، الصحيح، 3/1552.

([8]) ينظر: ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، 2/420؛ البكري الدمياطي، إعانة الطالبين، 2/267؛ البهوتي، دقائق أولي النهى، 1/478؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/176.

([9]) ينظر: ابن قدامة، المغني، 3/106؛ ابن الهمام، فتح القدير، 2/30.

([10]) ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، 3/138؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، 28/45.

([11]) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 1/296.

([12]) البهوتي، كشاف القناع، 1/301.

([13]) الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، 1/12.

([14]) الشربيني، مغني المحتاج، 1/145.

([15]) المرجع السابق، 1/163.

([16]) البهوتي، كشاف القناع، 1/139.

([17]) أبو داود، سنن أبي داود، 1/208. قواه الارناؤوط وحسنه الالباني.

([18]) ابن الهمام، فتح القدير، 1/213.

([19]) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 1/289.

الأربعاء، 19 أبريل 2023

ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب بين الاعتداد باللفظ أوالمعنى

 


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:

 فمسألة ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب هي من المسائل الطبولية التي يتكرر الكلام فيها كثيرا ويشتد فيها الخلاف ويطول فيها الجدال.

 وهي من المسائل التي يدور الخلاف فيها على اعتبار اللفظ أو المعنى. ولطالما كان هذا السبب (أعني اعتبار اللفظ أو المعنى) مثارا للنزاع في المسائل بين الفقهاء قديما وحديثا. (يُنظر كتاب أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه).

 وهي في ذلك مثل مسألة زكاة الفطر هل تُقصر على الطعام أو تجوز بالقيمة.

 ومثل مسألة فرض الدية على العاقلة هل هو مقصود لذاته أو لمعنى التناصر في العاقلة فيمكن نقله إلى غيرها، كأهل الديوان مثلا، على ما قاله الحنفية.

 ومثل مسألة إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة هل هو لمجرد التأليف والتحبيب في الإسلام، أو لمعنى ضعف الإسلام وقت إعطائهم وحاجة الدولة إليهم.

 فكل هذه المسائل، وكثيرٌ مثلها، اختلف فيه الفقهاء قديما وحديثا ما بين دائر مع اللفظ، ودائر مع ما يظنّه المعنى والمقصود.

 ومن المسائل المعاصرة الشبيهة بمسألة الرؤية والحساب إلى حد بعيد مسألة نفي النسب باللعان هل يجوز مع القطع (عن طريق فحص البصمة الوراثية) بكون الولد من الملاعن أو لا. فالدائر مع اللفظ (ومع أقوال الفقهاء القدماء) يقول بنفي النسب حتى لوثبت بالفحص أن الولد مخلوق من ماء الملاعن، والقائل بالمعنى وأن اللعان إنما شرع لنفي النسب عندما لم تكن هناك وسيلة متيسرة للتحقق من البعضية والجزئية التي هي علة النسب، فلا يجيز اللعان مع ثبوت البعضية بالفحص على وجه القطع.

 وحرف مسألة ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب، هو أن الرؤية المأمور بها في الحديث (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) هل هي مقصودة لذاتها أو أنها لحكمة التيسير (حيث كانت الأمة أمية زمن النص لا تكتب ولا تحسب، ومن ثم لو كان التعويل إذ ذاك على الحساب لحصل في ذلك مشقة على عموم الناس، فضلا عن اضطراب الحساب وقتئذ وعدم دقته، بل عدم علم أكثر العرب به).

 فالقائل بالرؤية من المعاصرين يرى بأنها مقصودة لذاتها تعبُّدًا، وأنها بذاتها ووحدَها هي علامة دخول الشهر، وأن قوله، صلى الله عليه وسلم: نحن أمة أمية بيان للحال لا إيماء إلى العلة.

 والقائل منهم بالحساب يرى بأن الأمر بالرؤية معلَّل، وأن الرؤية وسيلة لا غاية، وأنها كانت العلامة المتيسرة للجمهور في زمن النص على دخول الشهر بعد تولد الهلال، بقرينة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا، فرتب عدم القدرة على الجزم بعدد أيام الشهر بالضبط وترددها بين أن تكون ثلاثين أو تسعة وعشرين، على وجود الأمية وعدم المعرفة بالكتابة والحساب. وهي من الطرق الجلية للإيماء إلى العلة التي بني عليها الحكم.

وإذا كان الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فزوال الأمية الحسابية عن الأمة في هذه الأعصار على نحو لم يكن من قبل يقضي بأن يُعتد بالحساب الآن، لأنه أيسر من الرؤية وأضبط وأقل إثارة للخلاف، بل هو قطعي بلا نزاع في وقت تولد الهلال لو اعتُمد على ذلك في إثبات دخول الشهر.

 فالحساب عندهم يُقاس على الرؤية بجامع كونه دالًّا مثلها على دخول الشهر وتولد الهلال، ثم هو يحقق حكمتها من التيسير والضبط.

وذلك مثلما قيست القيمة على الطعام في الزكاة بجامع سدها لحاجة الفقير.

ومثلما قيست الأوراق على الأحجار في الاستنجاء بجامع حصول الإنقاء.

ومثلما قيست فرشاة الأسنان والمعجون على السواك بجامع تنظيف الفم والأسنان.

بل مثلما قيست تقديرات مواقيت الصلوات بالساعات والدقائق على حصول علاماتها الفلكية الثابتة بالنصوص.

وأمّا القول – تبعا للقرافي - بأن رؤية العلامات الفلكية لمواقيت الصلوات غير مأمور بها بخلاف رؤية الهلال، فغير دقيق، لأن الله تعالى قال: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الأسود من الفجر}، فغيّا بدء الصيام ووقت الصلاة بتبيُّن الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، والتبين للخيط الأبيض إنما يكون بالرؤية، ولا فرق بين أن يقول: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض، وأن يقول: حتى تروا الخيط الأبيض،  ومما يشير إلى هذا أنه عندما نزلت الآية قال عدي بن حاتم، رضي الله عنه: عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار". (متفق عليه). فانظر إلى قوله "جعلت أنظر فلا يستبين لي"، فأرشده النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى النظر في سواد الليل وبياض النهار  لا إلى العقال الأبيض والأسود.

والمعتمد عليه في هذه الأعصار في مواقيت الصلوات هو الحساب بالوقت لا غير، ولا يكاد يوجد أحد يتحرى ويتبين الخيط الأبيض من الأسود كل يوم ليصلي الفجر، بل لو حاوله أحد لما استطاعه بسبب التلوث الضوئي داخل المدن إلا أن يكون في فلاة.

فإن قيل: هناك إجماع قديم على عدم مشروعية الحساب في تحديد بدء دخول الشهر.

فيقال: على فرض التسليم بوجود مثل هذا الإجماع، فإنه إذا كان مبنيا على علة، أو على نص معلل بعلة، فهو كذلك يدور معها كما النص نفسه، ولا يصلح الاستدلال به. فالحساب قديما ولاسيما في عصور السلف وأئمة الاجتهاد لم يكن شائعا شيوعه اليوم ولا كان دقيقا ولا ميسورا، وكان التعويل على الرؤية أدق وأيسر فلا غرو حينئذ أن لم يعول عليه الجماهير، بل أجمعوا على عدم مشروعيته وعلى اعتماد الرؤية جريا مع ظاهر الحديث. أما وقد تغير الحال وصارت الرؤية – مع وجود التلوث الضوئي في عامة المدن – أكثر عسرا وأقل دقة من الحساب، فإنه يحلّ محلها أو على الأقل يُقاس عليها من باب أولى.

 والمصالح الدنيوية التي تنبني على تحديد أوائل الشهور سلفًا بالحساب لسنواتٍ تأتي– كما في الأشهر الميلادية – كثيرةٌ لا تخفى، كترتيب الإجازات والأسفار والحجوزات والرواتب ونحوها، هذا فضلا عما في ذلك من توفير جهود التحري والترقب، وتقليل اختلاف الناس وتنازعهم، بين من يقول باختلاف المطالع وبين من لا يقول بذلك حتى إنك تجد في البلد الواحد، بل وفي البيت الواحد، من يفطر مع أول دولة تعلن الرؤية لأنه مع رأي الجمهور بثبوت الشهر على الجميع برؤية الهلال في بلد من بلاد المسلمين، ومن لا يفطر لأنه يجيز اختلاف المطالع على رأي الشافعي. وتجد في المدن والقرى الحدودية بين البلدان المفطر من هذا البلد والصائم من البلد الآخر  في الجهة الأخرى لأن دولته لم تر الهلال، وما بينهما إلا أمتار أو كيلومترات، وفائدة أخرى لا تقل أهمية عما مضى أن التعويل على الحساب يقطع على السياسيين والحكام تلاعبهم بالمسلمين لمقتضيات السياسة في موافقة بلد ومعارضة آخر.

والله أعلم.

وكتبه أيمن صالح