الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:
المتأمِّلُ في فقه أهل المدينة، الذين يُوصفون
بأنهم "أهل الحديث"، ممثَّلا بالمدرسة المالكية يجده، في الجُمْلة، أكثرَ
تَتبُّعا للمعاني والمقاصد من فقه أهل الكوفة، ممثَّلا بالمدرسة الحنفية.
فالمالكيةُ، مثلا، يتَّبعون المقاصد، سواءٌ
في أوامر الشارع أو أوامر المكلفين. أما الحنفية فعندهم «أنَّ المعتبر في أوامر
الله تعالى المعنى، وفي أوامر العباد الاسم يعني اللفظ»([1]).
والمالكيةُ قالوا: «الأَيْمان إنَّما يُنظر
فيها إلى معانيها، لا إلى مجرد ألفاظها»([2]). أما
الحنفية فعندهم «الأيمان مبنيةٌ على الألفاظ لا على الأغراض، فلو اغتاظَ من إنسانٍ
فَحَلَف أنَّه لا يشتري له شيئا بفلس فاشترى له شيئا بمائة درهم لم يحنث، ولو حلف
لا يبيعُه بعشرةٍ فباعَه بأحدَ عشر، أو بتسعةٍ لم يحنث مع أنَّ غرضَه الزيادةُ،
لكنْ لا حِنْث بلا لفظ»([3]). ولذلك
قال الحطَّاب المالكي في يمين أفتى فيها أحدُهم بعدم الحنث أخذاً بالظاهر: «هذا
جارٍ على مذهب أهل العراق الذين يراعون ظواهر الألفاظ لا المقاصد، والآتي على مذهب
مالك، رحمه الله، حِنْثُه»([4]).
والمالكيةُ لم يعتدُّوا بأَيمان الطلاق والعِتاق
ونحوها حيث يُظنُّ كونها غير مقصودة. أما الحنفية فقد بالغوا في الاعتداد باللفظ
في ذلك، فأثبتوا له تأثيرا حتى مع القطع بانتفاء غرض المتكلم منه، كما هو في حالات
الإكراه. قال ابن الهمام: «وجميعُ ما يثبت مع الإكراه أحكامُهُ عشرةُ تصرُّفات:
النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء والفيء والظهار والعِتاق والعفو عن القصاص
واليمين والنَّذر»([5]). ولأنَّ
في القول بوقوع طلاق المكره ونحوه منافاةً لِتتبُّع المعاني والمصالح قال الجمهور ردَّاً
على الحنفية: إنَّ «الشَّرع يُراعي المصالح، ولا مصلحة في هذا»([6]).
والمالكيَّةُ يُحكِّمون القصد والباعث في العُقُود،
تصحيحا وإبطالا. أما الحنفية فيدورون مع ظاهر العقد وما صرَّح به المتعاقدان في
صيغته من غير التفات إلى الغرض منه والباعث عليه، حتى لو وُجدت القرائن الدالَّة
على القصد المحرم. وعليه فهم يصحِّحون عقد بيع السلاح لقاطع الطريق، وبيع العنب
لصانع الخمر. وهم في هذا يلتقون مع مدارس أصحاب الألفاظ والظَّواهر كالشَّافعية
والظاهرية([7]).
والمالكيةُ يوجبون حدَّ القذف بالتعريض
التفاتا إلى أصلهم في اعتبار القصد على منهج عمر، رضي الله عنه، كما أسلفنا. أما
الحنفية فعندهم لا حدَّ في تعريض حتى أنَّ من «قال لامرأةٍ: يا زانية، فقالت: زنيتُ
معك - لا حدَّ على الرجل، ولا على المرأة: أمَّا على الرجل؛ فلِوجود التصديق منها
إيَّاه. وأمَّا على المرأة؛ فلأنَّ قولها: "زنيتُ معك" يُحتمل أن يكون
المرادُ منه: زنيتُ بك، ويُحتمل أن يكون معناه: زنيتُ بحضرتك، فلا يُجعل قذفا مع
الاحتِمال»([8]).
والمالكيةُ يَسُدُّون الذرائع التفاتا إلى كثرة
وقوع الفعل مقروناً بالقصد المحرم. أما الحنفية فلا يلتفتون إلى الذرائع ولا
يمنعونها، وينظرون إلى ظواهر الأقوال والأفعال فحسب، بل اشتهر عن بعضهم القول بما
هو أبعد من ذلك، وهو تسويغ الحيل، قال ابن العربي في الذرائع: «انفرد بها مالك،
وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته، وخَفِيت على الشَّافعي وأبي حنيفة مع تبحُّرهما
في الشَّريعة»([9]).
والمالكيةُ من أشدِّ المذاهب حَزماً في
إيقاع الحدود والعقوبات الشرعية زجراً للناس عن المفاسد. أمَّا الحنفية فقد توسَّعوا
في درء الحدود بأدنى الشُّبَه والحِيَل. وهذا إسرافٌ منهم في الجري مع ظواهر
الألفاظ والأفعال دون الالتفات إلى المقاصد والأغراض، حتى قال ابن القيم منتقدا إيَّاهم:
«يا لله العجب، كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنى،
والمبالغة في المنع منه، وقتل فاعله شرَّ القِتلات وأقبحها وأشنعها وأشهرها، ثم
يسقط بالتحيُّل عليه، بأن يستأجرها لذلك أو لغيره ثم يقضي غرضَه منها؟! وهل يعجز
عن ذلك زانٍ أبدا؟! وهل في طِباع ولاة الأمر أن يقبلوا قول الزاني: أنا استأجرتُها
لزنى، أو استأجرتها لتطوي ثيابي ثم قضيت غرضي منها، فلا يحلُّ لك أن تقيم عليَّ
الحد؟! وهل ركَّب الله في فِطَر النَّاس سقوطَ الحدّ عن هذه الجريمة، التي هي من
أعظم الجرائم إفسادا للفراش والأنساب، بمثل هذا؟! وهل يُسْقِطُ الشارعُ الحكيم
الحدَّ عمَّن أراد أن ينكح أُمَّه أو بنته أو أخته بأن يعقد عليها العقد ثم يطأها
بعد ذلك؟! وهل زاده صورةُ العقد المحرَّم إلا فُجُوراً وإثما واستهزاء بدين الله
وشرعه ولعباً بآياته؟! فهل يليق به مع ذلك رفعُ هذه العقوبة عنه وإسقاطُها بالحيلة
التي فَعَلَها مضمومةً إلى فعل الفاحشة بأمِّه وابنته؟! فأين القياسُ وذِكْرُ
المناسباتِ والعِلل المؤثرِّة والإنكارُ على الظَّاهرية؟! فهل بلغوا بالتمسُّك
بالظَّاهر عُشرَ مِعْشار هذا؟! والذي يقضي منه العجب أن يُقال: لا يعتدُّ بخلاف
المتمسِّكين بظاهر القرآن والسنة، ويُعتدُّ بخلاف هؤلاء! والله ورسوله مُنزَّهٌ عن
هذا الحكم»([10]).
ومن أشهر المسائل الفقهية التي انفرد بها
الحنفيَّة، وكثيرٌ من أهل الكوفة، عن الجمهور، إباحةُ قليل النَّبيذ ما لم يُسْكِر.
وقد جَرَوا في ذلك مع اللفظ دون المعنى، حيث قصروا تحريم القليل والكثير على ما يُسمَّى
خمرا في اللغة، وهو ما اتُّخِذ من العنب عندهم. وأمَّا ما أُخذ من غير العنب فلمَّا
لم يُسمَّ خمرا، لم يَحْرُمْ جُمْلةً، وإنما حَرُم منه القدْر المسكر([11]). ولو
سُلِّم أنَّ لفظ الخمر، لغةً، هو ما كان من العِنَب دون غيره، كما قالوه، فلا أدري
ما المعنى الذي حُرِّم من أجله قليلُ عصير العنب المسكرِ كثيرُه، ولم يُحرَّم من أَجْلِه
قليلُ عصير التَّمر المسكرِ كثيرُه؟! ولماذا قاسوا الكثير المسكر من أيِّ عصير على
الكثير المسكر من عصير العنب، وامتنعوا عن قياس القليل مما أسكر كثيره من أيِّ
عصير على القليل مما أسكر كثيره من عصير العنب؟! فهذا من التناقض المعنوي البيِّن
الذي جرَّ إليه اتِّباع ما اعتقدوه ظاهر اللفظ.
وكذا إجازتهم للعاصي بسفره أن يترخَّص بالقَصْر
والفِطر تعويلا على إطلاق النصوص، وأنَّ العاصي بسفره يُسمَّى مسافراً([12])، وهو
تشبُّثٌ بظواهر الألفاظ ومراعاةً لها دون المقاصد.
وكذا تمسُّكُهم بإثبات نَسَب الولد للزوج مع
وجود القطع بعدم اجتماع الزوجين، كالمشرقي يتزوج المغربية (بتوكيل) فتأتي بولد،
وكمن تزوَّج وطلَّق في مجلسٍ واحد، مُتَمسّكين في ذلك بظاهر الحديث: «الولد للفراش»([13])،
دون اعتبار لمعنى البَعضية ومَظنَّته من الدخول وإمكانه الذي يشتمل عليه لفظ
الفراش([14]).قال
ابن السبكي، بناءً على اجتهاد الحنفية في هذه المسألة وأمثالها: «جَهِد أصحاب
الرأي من حيث لا يشعرون فعمَّموا القول بأنّ صور الأسباب الشرعية هي المعتبرة في
الأحكام دون معانيها، وإن وَضُحت وضوح الشمس»([15]).
وفي العبادات كثيراً ما يكتفي الحنفية في
الإجزاء بمطلق الاسم، كفرض القراءة، يحصُل عند أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، بآيةٍ
واحدة، كـ {مُدْهَامَّتَانِ}(الرَّحمن:64)، أو {ثُمَّ نَظَرَ}(المدَّثر:21)([16])،
وخُطبة الجمعة تجزئ عنها تسبيحةٌ واحدة([17])، والركوع
والاعتدال منه والسجود يحصل عندهم بما ينطلق عليه الاسم، دون اشتِراطٍ للطُّمَأنينة
والسُّكون([18]).
وهذا كلُّه تشبُّثٌ بظواهر بعض النُّصوص وإطلاقاتها، مع أنَّه خروجٌ عن مقاصد العبادة
من الذِّكر والخضوع.
والحنفيَّةُ، فيما استقرَّت عليه أصولهم،
يمنعون من عود عِلَّة النص على ظاهره بالتأثير بتخصيصٍ أو تقييدٍ أو صرفٍ إلى
المجاز، وهو منهج أصحاب الألفاظ. أمَّا أصحاب المعاني، كما في حادثة الصلاة في بني
قريظة، فيُخَصِّصُون اللَّفظَ بعلَّته، ويقيِّدونه، ويُؤوِّلونه([19]).
والحنفيَّةُ لا يقولون بالمفهوم المخالف
لقيود النص، وفي هذا إِعراضٌ عن التوسُّع في اعتبار القصد من ذِكْر القيد، وتعويلا
على مجرَّد الظَّاهر من اللَّفظ. وهم في هذا يلتقون مع الظَّاهرية([20]).
وليس القصدُ من هذا كلِّه أن نصل إلى الحكم بأنَّ
الحنفية ظاهرية، أو ننكر أنهم توسَّعوا في التعليل والتقصيد للنصوص الشرعية
والقياس عليها، بل المقصود أنهم، أصولا وفروعا، أقربُ إلى أهل الألفاظ والظواهر من
المالكية. وإذا تقرر هذا، فهو من أظهر الأدلة على ما أبديناه من خطأ النظر إلى
"أهل الرأي" فيما استقرَّ عليه هذا المصطلح، في عصر أئمة الاجتهاد
وبعده، على أنهم هُم فقط أهلُ التعليل والمقاصد وأصحابُ المعاني، والنظر إلى من
قيل فيهم "أهل الحديث" من فقهاء الأمصار ما عدا الحنفية، لا سيَّما أهل
المدينة وإمامهم مالك بن أنس، على أنهم أهل الألفاظ والظواهر.
مقتبس من كتاب أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه، أيمن صالح.