أستاذ الفقه وأصوله

أستاذ الفقه وأصوله
كلية الشريعة
جامعة قطر

الأربعاء، 19 أبريل 2023

ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب بين الاعتداد باللفظ أوالمعنى

 


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد:

 فمسألة ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب هي من المسائل الطبولية التي يتكرر الكلام فيها كثيرا ويشتد فيها الخلاف ويطول فيها الجدال.

 وهي من المسائل التي يدور الخلاف فيها على اعتبار اللفظ أو المعنى. ولطالما كان هذا السبب (أعني اعتبار اللفظ أو المعنى) مثارا للنزاع في المسائل بين الفقهاء قديما وحديثا. (يُنظر كتاب أهل الألفاظ وأهل المعاني: دراسة في تاريخ الفقه).

 وهي في ذلك مثل مسألة زكاة الفطر هل تُقصر على الطعام أو تجوز بالقيمة.

 ومثل مسألة فرض الدية على العاقلة هل هو مقصود لذاته أو لمعنى التناصر في العاقلة فيمكن نقله إلى غيرها، كأهل الديوان مثلا، على ما قاله الحنفية.

 ومثل مسألة إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة هل هو لمجرد التأليف والتحبيب في الإسلام، أو لمعنى ضعف الإسلام وقت إعطائهم وحاجة الدولة إليهم.

 فكل هذه المسائل، وكثيرٌ مثلها، اختلف فيه الفقهاء قديما وحديثا ما بين دائر مع اللفظ، ودائر مع ما يظنّه المعنى والمقصود.

 ومن المسائل المعاصرة الشبيهة بمسألة الرؤية والحساب إلى حد بعيد مسألة نفي النسب باللعان هل يجوز مع القطع (عن طريق فحص البصمة الوراثية) بكون الولد من الملاعن أو لا. فالدائر مع اللفظ (ومع أقوال الفقهاء القدماء) يقول بنفي النسب حتى لوثبت بالفحص أن الولد مخلوق من ماء الملاعن، والقائل بالمعنى وأن اللعان إنما شرع لنفي النسب عندما لم تكن هناك وسيلة متيسرة للتحقق من البعضية والجزئية التي هي علة النسب، فلا يجيز اللعان مع ثبوت البعضية بالفحص على وجه القطع.

 وحرف مسألة ثبوت الشهر بالرؤية أو الحساب، هو أن الرؤية المأمور بها في الحديث (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) هل هي مقصودة لذاتها أو أنها لحكمة التيسير (حيث كانت الأمة أمية زمن النص لا تكتب ولا تحسب، ومن ثم لو كان التعويل إذ ذاك على الحساب لحصل في ذلك مشقة على عموم الناس، فضلا عن اضطراب الحساب وقتئذ وعدم دقته، بل عدم علم أكثر العرب به).

 فالقائل بالرؤية من المعاصرين يرى بأنها مقصودة لذاتها تعبُّدًا، وأنها بذاتها ووحدَها هي علامة دخول الشهر، وأن قوله، صلى الله عليه وسلم: نحن أمة أمية بيان للحال لا إيماء إلى العلة.

 والقائل منهم بالحساب يرى بأن الأمر بالرؤية معلَّل، وأن الرؤية وسيلة لا غاية، وأنها كانت العلامة المتيسرة للجمهور في زمن النص على دخول الشهر بعد تولد الهلال، بقرينة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا، فرتب عدم القدرة على الجزم بعدد أيام الشهر بالضبط وترددها بين أن تكون ثلاثين أو تسعة وعشرين، على وجود الأمية وعدم المعرفة بالكتابة والحساب. وهي من الطرق الجلية للإيماء إلى العلة التي بني عليها الحكم.

وإذا كان الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فزوال الأمية الحسابية عن الأمة في هذه الأعصار على نحو لم يكن من قبل يقضي بأن يُعتد بالحساب الآن، لأنه أيسر من الرؤية وأضبط وأقل إثارة للخلاف، بل هو قطعي بلا نزاع في وقت تولد الهلال لو اعتُمد على ذلك في إثبات دخول الشهر.

 فالحساب عندهم يُقاس على الرؤية بجامع كونه دالًّا مثلها على دخول الشهر وتولد الهلال، ثم هو يحقق حكمتها من التيسير والضبط.

وذلك مثلما قيست القيمة على الطعام في الزكاة بجامع سدها لحاجة الفقير.

ومثلما قيست الأوراق على الأحجار في الاستنجاء بجامع حصول الإنقاء.

ومثلما قيست فرشاة الأسنان والمعجون على السواك بجامع تنظيف الفم والأسنان.

بل مثلما قيست تقديرات مواقيت الصلوات بالساعات والدقائق على حصول علاماتها الفلكية الثابتة بالنصوص.

وأمّا القول – تبعا للقرافي - بأن رؤية العلامات الفلكية لمواقيت الصلوات غير مأمور بها بخلاف رؤية الهلال، فغير دقيق، لأن الله تعالى قال: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الأسود من الفجر}، فغيّا بدء الصيام ووقت الصلاة بتبيُّن الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، والتبين للخيط الأبيض إنما يكون بالرؤية، ولا فرق بين أن يقول: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض، وأن يقول: حتى تروا الخيط الأبيض،  ومما يشير إلى هذا أنه عندما نزلت الآية قال عدي بن حاتم، رضي الله عنه: عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار". (متفق عليه). فانظر إلى قوله "جعلت أنظر فلا يستبين لي"، فأرشده النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى النظر في سواد الليل وبياض النهار  لا إلى العقال الأبيض والأسود.

والمعتمد عليه في هذه الأعصار في مواقيت الصلوات هو الحساب بالوقت لا غير، ولا يكاد يوجد أحد يتحرى ويتبين الخيط الأبيض من الأسود كل يوم ليصلي الفجر، بل لو حاوله أحد لما استطاعه بسبب التلوث الضوئي داخل المدن إلا أن يكون في فلاة.

فإن قيل: هناك إجماع قديم على عدم مشروعية الحساب في تحديد بدء دخول الشهر.

فيقال: على فرض التسليم بوجود مثل هذا الإجماع، فإنه إذا كان مبنيا على علة، أو على نص معلل بعلة، فهو كذلك يدور معها كما النص نفسه، ولا يصلح الاستدلال به. فالحساب قديما ولاسيما في عصور السلف وأئمة الاجتهاد لم يكن شائعا شيوعه اليوم ولا كان دقيقا ولا ميسورا، وكان التعويل على الرؤية أدق وأيسر فلا غرو حينئذ أن لم يعول عليه الجماهير، بل أجمعوا على عدم مشروعيته وعلى اعتماد الرؤية جريا مع ظاهر الحديث. أما وقد تغير الحال وصارت الرؤية – مع وجود التلوث الضوئي في عامة المدن – أكثر عسرا وأقل دقة من الحساب، فإنه يحلّ محلها أو على الأقل يُقاس عليها من باب أولى.

 والمصالح الدنيوية التي تنبني على تحديد أوائل الشهور سلفًا بالحساب لسنواتٍ تأتي– كما في الأشهر الميلادية – كثيرةٌ لا تخفى، كترتيب الإجازات والأسفار والحجوزات والرواتب ونحوها، هذا فضلا عما في ذلك من توفير جهود التحري والترقب، وتقليل اختلاف الناس وتنازعهم، بين من يقول باختلاف المطالع وبين من لا يقول بذلك حتى إنك تجد في البلد الواحد، بل وفي البيت الواحد، من يفطر مع أول دولة تعلن الرؤية لأنه مع رأي الجمهور بثبوت الشهر على الجميع برؤية الهلال في بلد من بلاد المسلمين، ومن لا يفطر لأنه يجيز اختلاف المطالع على رأي الشافعي. وتجد في المدن والقرى الحدودية بين البلدان المفطر من هذا البلد والصائم من البلد الآخر  في الجهة الأخرى لأن دولته لم تر الهلال، وما بينهما إلا أمتار أو كيلومترات، وفائدة أخرى لا تقل أهمية عما مضى أن التعويل على الحساب يقطع على السياسيين والحكام تلاعبهم بالمسلمين لمقتضيات السياسة في موافقة بلد ومعارضة آخر.

والله أعلم.

وكتبه أيمن صالح

الثلاثاء، 28 مارس 2023

الفرق بين التمويل الحلال والتمويل الحرام


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فالتمويل (دفع المال للغير ليردَّه أو يردّ مثله بعد حين) إما أن يكون بقصد الربح، أو بقصد الثواب (القُربة).

فأمّا التمويل بقصد القربة:

فإن كان بضمان رأس المال فهو القرض الحسن. {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}.

وإن كان من غير ضمان رأس المال، فهو الإبضاع، وهو أن تدفع المال للغير ليتّجر به (ليستثمره)، فما كان من ربح فهو للمتّجر به وحده، وما كان من خسارة فمن رأس المال.

وأمّا التمويل بقصد الربح فهو صنفان: محرّم ومباح.

فالمحرّم هو التمويل بربا القروض وهو دفع المال للغير ليردّه بعد أجل بزيادة مشروطة على رأس المال.

وأما المباح من التمويل فثلاثة أصناف لا غير:

الأول: التمويل بالمضاربة، وهي دفع المال للغير ليتّجر به (ليستثمره)، مع اشتراط نسبة شائعة من الربح إن حصل. والفرق بين الحرام (الربا) والحلال (المضاربة) هو أن الربا يُشترط فيه ضمان رأس المال والعائد للمُموِّل، بخلاف المضاربة، فلا ضمان فيها لرأس المال ولا للعائد. وهذه المخاطرة التي في المضاربة هي التي سوَّغت الحصول على الربح مقابل التمويل، وجعلتها تفترق عن الربا الذي يكون رأس المال والعائد فيه مضمونًا بمقتضى العقد.

والصنف الثاني: التمويل بالبيع الآجل. وهو أن يقوم التاجر ببيع سلعة لمن يطلبها على أن يُحسب فيها للزمن قسطٌ من الربح، ولذلك يختلف سعر بيع هذه السلعة حالّة عن بيعها آجلة، فيكون للزمن تأثيرٌ في سعرها. وفي مشروعية هذه الزيادة في ثمن المبيع مقابل التأجيل خلافٌ قديم بين الفقهاء، لكنّه خلاف ضعيف، والراجح الجواز، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وإن كان هذا الجواز مصحوبًا بالكراهة عند بعض الفقهاء.

والذي سوّغ الربح (الزيادة مقابل الأجل) في هذه المعاملة مع أنها تشبه الزيادة التي تكون في عقد الربا، حتّى قال الكافرون {إنّما البيع مثل الربا} = هو أنها زيادة تابعة للربح الناشئ عن عقد البيع نفسه، لا زيادة مستقلّة مقصودة لذاتها، أمّا في عقد الربا فهي زيادة مستقلة مقصودة لذاتها، وقد يجوز قصد الشيء تبعًا، ولا يجوز قصده استقلالًا. ومن أمثلة ذلك الإجماع على جواز بيع الشاة الحامل بزيادة عن سعرها ما لو لم تكن حاملًا، ومع ذلك لا يجوز بيع الحمل (الجنين) وحده. فزيادة السعر بسبب الحمل تجوز بالاتفاق رغم جهالة الجنين؛ لأنّ محلّ العقد هو الشاة، والجنين تابع. أمّا بيع الجنين وحده فلا يجوز، لأنّه هو محلّ العقد وفيه جهالة. ويجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا.

وأما ربح البيع نفسه، سواء أكان بيعًا حالّا أو آجلًا، فمُسوِّغ حصولِ التاجر عليه = الخدمةُ والمخاطرة التي يتحمّلها هذا التاجر؛ إذ هو يشتري السلعة من أسواقها التي قد تكون بعيدة أو مجهولة، بعد البحث عن أرخص ما تُباع به، ثم يتحمّل ما يحدث لها بعد شرائه لها من تلف أو فساد، وكذلك يتحمّل عبء نقلها وحفظها وتخزينها إلى حين بيعها، ويتحمّل ما يطرأ على سعرها من تقلبات؛ إذ قد ينزل سعرها فيخسر، أو يرتفع فيربح، ثمّ هو يكون موضعًا للمساءلة بعد بيعها فيما لو وَجد المشتري فيها عيبًا. فلكلّ ذلك من جهود وخدمات ومخاطرات يحلُّ له الربح؛ لأنه يقدِّم مقابلًا له، وقيمةً اقتصادية مضافة، وبهذا هو لا يشبه المرابي الذي لا يقدِّم أيَّ مقابل بدل الزيادة التي يتحصّل عليها سوى التمويل نفسه، ولا يُدخِل نفسه في مخاطر التجارة، ولا يقوم بأعبائها.

والصنف الثالث: بيع السَّلَم، وهو بيع سلعةٍ موصوفة  في الذمّة مقابل ثمن حالّ، وهو عكس البيع الآجل، والربح الذي مقابل الزمن يقع فيه للمشتري (المموِّل) لا للبائع (المموَّل)، لأنّ تأخير تسليم السلعة مع الدفع الحالّ يؤدّي إلى إرخاص في ثمنها مقابل أجل التأخير. وأمّا البائع فيتربّح من بيع السلعة نفسها. ومن ثَمّ كان في هذا البيع مصلحةٌ للطرفين: البائع بتصريف السلعة والحصول على ربحها مُقدمًّا، والمشتري بإرخاص ثمنها مقابل رضاه بتأخير استلامها.

وثمّة عقود تحايلية نشأت للالتفاف على تحريم الرّبا (التمويل الحرام الصريح)، بحيث يتلازم التمويل مع ضمان رأس المال والعائد للمُموِّل، ومن دون تحمّل المموِّل المخاطرة في التجارة، ولا قيامه بأعبائها.

فمن ذلك:

حِيَلُ ضمان رأس المال في المضاربة، ومن ذلك تركيب عقد القرض مع عقد الشركة. بأن يقول صاحب المال للمضارب خذ هذه الألف دينار قرضًا، وخذ هذا الدينار شركة، واتجر بالمالين فما يكون من ربح فهو بيننا بالنصف. وفي مثل هذه الحيلة، إذا ربحت التجارة فإنّ ربّ المال يأخذ نصف الربح الناشئ عن الألف والدينار، وأما إذا خسرت، فإن ربّ المال لا يخسر سوى الدينار، وأمّا الألف فهي مضمونة على المضارب لأنها قرض.

ومن ذلك:

بيعُ العينة، حيث يتواطأ المموِّل مع الممَوَّل على بيعه سلعة بيعًا آجلا بثمن ثم شرائها منه حالَّةً بثمن أقل، فتعود السلعة للبائع (المموِّل)، وأمّا المشتري (المموَّل) فيكون مدينا بثمنها الآجل مقابل ما حصل عليه من النقد من ثمنها الحالّ. وهذا في الحقيقة تمويل بالنقد مقابل زيادة مضمونة، والسلعة كانت واسطة صورية لجعل عقد الربا يبدو في صورة بيع.

ومن ذلك:

حِيَل الوساطة المالية، كما تفعله البنوك التي تُسمّى "إسلامية" التي تقدم النقد (بطريق مباشر أو غير مباشر) لتحصل على زيادة مقابل تأجيل السداد، بأن تتوسط بين التاجر والمشتري، بحيث يحصل التاجر على ربح السلعة، ويحصل البنك على ربح الأجل، مع أن الذي سوَّغ للتاجر الربح مقابل الأجل هو كون هذا الربح ربحا تابعًا لا مقصودًا بالنسبة له، والتاجر - كما أسلفنا - يقدم خدمة ومخاطرة في التجارة تسوّغ له الربح الأصلي والتابع، أمّا البنك فالزيادة مقابل الأجل مقصودة عنده لذاتها، وتوسُّطه بالتمويل إنما هو لأجل الحصول عليها لا غير، وهو لا يقدم خدمة ولا مخاطرة سوى التمويل نفسه، فكان بالمرابي أشبه منه بالتاجر، بل يكاد يكون هو والمرابي سواء، رغم مباشرته البيع والشراء اللحظي، كما في ما يُسمّى بعقد المرابحة للآمر بالشراء، ولذلك كره هذا العقد وحرّمه أكثر من تكلم في حكمه من فقهاء السلف.

ولو تأملنا المفاسد التي تنشأ عن الربا لوجدناها نفسها هي التي تنشأ عن عقود الوساطة المالية، من مثل:

أوّلًا: الربح المضمون من غير تقديم قيمة اقتصادية مضافة، لا خدمة، ولا مخاطرة، إلا التمويل نفسه. وهذا يؤدي إلى كسل أصحاب المال وعدم استثمارهم أموالهم في المشاريع التي تقدم قيمة اقتصادية مضافة، وتزيد الإنتاج، وتقلل البطالة، وتتضمن نوعًا من المخاطرة، كما يكون في السوق العقارية وسوق الأسهم، ولذلك فإنه من المقرّر اقتصاديًّا أنّ العلاقة عكسية بين ارتفاع سعر الفائدة (الربا)، والاستثمار، فكلمّا زاد سعر الفائدة (الربا) قلَّ الاستثمار، لأن الناس تحوّل أموالها من سوق الأسهم إلى الإيداع في البنوك أو شراء السندات، لأن البنوك والسندات ربحها مضمون بخلاف الأسهم.

ثانيا: التشجيع على الاستهلاك البذخي، وزيادة مديونيات الأفراد، فعقود الوساطة المالية والربا سواء في هذا الأثر، لأنها تجعل من السهل على الأفراد الحصول على التمويل لا لسدّ حاجاتهم فحسب، بل ولتحقيق رغباتهم في اقتناء السلع والخدمات الكمالية. والاستهلاك البذخي مضر جدًّا بحياة الناس؛ لأنّه يزيد مديونياتهم ويحوِّل الكماليات إلى حاجيات في حقِّهم بحكم العرف؛ إذ يصبح الفرد، حتى غير الراغب في الاقتراض، في حرج؛ لأنّه غير قادر على التعايش سويًّا مع بقية أفراد المجتمع إلا بأن يكون مثلهم في الإنفاق، وإلا تعرّض للّوم أو النقد، أو التعيير بالبخل، بسبب عدم مجاراته لهم في عادات الإنفاق. وهذا يظهر في العادات الاستهلاكية للمجتمعات، كما في تجديد السيارات، أو الأثاث، أو بناء البيوت الفارهة، أو تكاليف الأفراح، أو الأتراح...الخ، فينفق المرء إنفاقًا كماليًّا في هذه المجالات، وهو كاره في كثير من الأحيان، لا لشيء إلا ليتقي نظرة الناس الدونية إليه، ونقدهم له، فيما لو لم ينفق بالقدر الشائع عرفًا، وما كان هذا العرف ليستقر وينتشر لولا سهولة الاقتراض.

ثالثًا: التضخم ورفع الأسعار. وهو أثر جلي من آثار الربا وعقود الوساطة المالية، لأن هذه العقود تجعل من السهل توفير النقد الذي يُبذل في مقابل السلع، سواء وضع في يد الشخص مباشرة، كما في التمويل بالربا والتورق المصرفي، أو وُضع في يد التاجر لصالح الشخص الراغب بالسلعة، كما في عقود الوساطة المالية، من مرابحة وإجارة منتهية بالتمليك، ومشاركة متناقصة، وغيرها، ومن ثم ترتفع أسعار السلع لإقبال كثير من الناس على شرائها والحصول عليها. وعادةُ الحكومات في معالجة التضخُّم أن تلجأ إلى رفع أسعار الفائدة الربوية. وهذا من قبيل معالجة الداء بالداء، لأن رفع أسعار الفائدة يقلِّل من إقبال الناس على الاقتراض من البنوك، ومن ثم يقلِّل من استهلاكهم، فيزيد عرضُ السلع، وتقل أسعارها، لكنه في المقابل يضر بالاستثمار؛ لأن الأغنياء يحولون أموالهم من أسواق الأسهم (الاستثمار) إلى البنوك نظرا لارتفاع العائد على الربا وضعف المخاطرة، فيحدث الركود ويقل الإنتاج وتزيد البطالة.

والحاصل هو أن المفاسد الناشئة عن التمويل بالربا هي نفسها تنشأ عن التمويل بعقود الوساطة المالية للبنوك، وما يكون من فرق فهو فرق إمّا شكلي لا يقدِّم ولا يؤخِّر، وإمّا هامشي ضئيل لا يؤثر في حجم هذه المفاسد.

وكتبه أيمن صالح

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

هل ستنجح دعوات التزام المذهبية الفقهية في العصر الراهن!

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فقد قال أبو محمد ابن حزم، رحمه الله، (الرسائل  2/ 229):

«مذهبان ‌انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان، مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سُرّاع إلى الدنيا والرياسة، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به. على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم، وكذلك جرى الأمر في أفريقية لما ولي القضاء بها سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما أُنشر».

قلت: أيمن: ولا يخفى أيضا أثر السلطان نظام الملك والأيوبيين والمماليك في نشر المذهب الشافعي. وكذلك دور الدولة البويهية في نشر المذهب الجعفري الشيعي. وأخيرا دور الدولة السعودية في نشر المذهب الحنبلي.

والحاصل هو أن دعم الأنظمة السياسية له دور كبير في ترسيخ المذهب الفقهي؛ لأنه بمثابة القانون السائد والمعمول به تدريسا وإفتاء وقضاء، ومن ثم تكون فرص الارتزاق للمشتغلين بالفقه عن طريق غيره من المذاهب ضيقة.

ولما اسُتوردت القوانين الغربية في مطلع القرن العشرين إلى معظم بلاد المسلمين وأقصي الفقه، أو وضع ملفقا بين المذاهب في مجالات محددة، انكسرت سورة المذهبية، وخفّت حدتها كثيرا وبرز بقوة اتجاه فقه الدليل المتحرر من التمذهب كليا أو جزئيا.

وهذ الأيام نشهد رجعة قوية إلى التمذهب في أوساط طلبة العلم تمدرسا وإفتاء، ودعوات كثيرة إلى ذلك هنا وهناك،  لكن معظم ذلك، في نظري، إنما هو ردة فعل على ما أثارته حركات فقه الدليل بسطحية بعض أطروحاتها، وفظاظة كثير من أتباعها في النقد في الغالب الأعم. 

وأتوقع أن يزداد التوجه المذهبي قوة وعصبية في الفترة القادمة ولا سيما مع بدء تبني بعض الأنظمة السياسية  الحالية له، كبحا لما نتج وما قد ينتج عن التخلي عنه من انتشار توجهات وفتاوى دينية سياسية خطرة ومقلقة لهذه الأنظمة، تنشأ عن حرية الرأي التي يتيحها  فك إسار التمذهب.

لكن من دون أن تتبنى هذه الأنظمة التمذهب في التوظيف في سلك التعليم والإفتاء والقضاء، وهو ما بدأت به بعضها فعلا، لا يُتوقع أن تنجح محاولة إعادة نفخ الروح في التمذهب، فالعامل الاقتصادي  - الذي تتحكم به الدولة - في نهاية المطاف هو المحدد الأكبر للتوجه الفقهي والمذهبي الذي تكتب له السيادة والغلبة في أي بلد. ولو تخلي عن هذا العامل فالطبيعي هو أن تتنوع التوجهات وتتعدد المسالك الفقهية في البلد الواحد، لأنه في مجاري العادات يعسر جمع الخلق أو معظمهم على رأي واحد من غير رغبة أو رهبة.

والله أعلم.

الجمعة، 5 أغسطس 2022

خطأ تعليل جريان الربا في الذهب والفضة بكونهما من الموزونات

مما بان خطأه بمرور الزمان اجتهادات بعض الفقهاء القدماء بتعليل جريان الربا في الذهب والفضة بأنهما من الموزونات لا بأنهما أثمان، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، لأن قياس هذا القول ومقتضاه أن الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس هذه الأيام لا يجري فيها الربا لأنها ليست من الموزون أو المكيل، وعليه يجوز مبادلة النقد الورقي بأكثر منه إلى أجل كما تفعله البنوك في زماننا.

وهذا مما يكاد يكون هناك إجماع بين المعتبرين في الفتوى الآن على أنه حرام، وأن الخلاف في جوازه شاذ غير معتبر، ولو أباح العلماء تبادل النقد الورقي بأكثر منه إلى أجل ورخصوا فيه بناء على قياس قول الحنفية والحنابلة لانتهى حكم الربا من أساسه لأن مبادلة الذهب بالذهب والفضة بالفضة وسائر المنصوص عليه يكاد لا يقع هذه الأيام إلا نادرا، وغالب المبادلات بل 99% منها إنما هو بالنقود المعاصرة.

ومن ثم وجب على حنفية هذا الزمان وحنابلته أن يتراجعوا ويتوقفوا عن تعليل جريان الربا في الذهب والفضة بأنهما من الموزونات، وان يعترفوا بخطأ قدماء المذهب في تقرير هذه العلة ولاسيما أنهم اعتمدوا في إبطال علة خصومهم من المالكية والشافعية التي هي "الثمنية" بكونها علة قاصرة على الأصل لا تجري في فروع أخرى غير الذهب والفضة، وقد بان مع الوقت أنها ليست قاصرة بل جدت أثمان غير الذهب والفضة، بل حلت محلها.

ولا يقال هنا إن اختلافهم في العلة المذكورة إنما هو في ربا البيوع، أما ربا الديون فوجود الزيادة في جنس المال فيه مع الأجل تكفي في تحريمه. وهذا متحقق في ربا المصارف والربا في الأوراق النقدية عموما، ولذلك لا ضرر من عدم القول بعلة الثمنية في تحريم ربا البيوع.

وذلك لأنه لا معنى لتحريم إقراض المال بجنسه متفاضلا مع إباحة ذلك بالبيع، كأن تقول: يحرم أقرضتك كيلو ذهب بكيلين إلى أجل، ويجوز بعتك كيلو ذهب بكيلين إلى أجل، أو أن تقول يحرم أقرضتك ألف دولار بألفين إلى أجل ويجوز أبيعك ألف دولار بألفين إلى أجل، لأن النتيجة واحدة والحقيقة واحدة وهي مبادلة ربوي بجنسه متفاضلا إلى أجل، ولذلك حرم ربا البيوع لأنه ذريعة لربا الديون بل هو عينه إذا كان نسيئة. نعم أجاز جماهير الفقهاء بعيرا ببعيرين إلى أجل، وإنما ذلك لأن الأبعرة تتفاوت في قيمتها تفاوتا كبيرا بخلاف الأثمان، فمن المعقول أن يحرم إقراض بعير ببعيرين إلى أجل ويجوز بيع بعير ببعيرين إلى أجل. والحاصل أن مبادلة الأوراق النقدية بمثلها قرضا وبيعا (وهما سواء فيما لا تتفاوت أفراده تفاوتا كبيرا) ينبغي أن يلحق بمبادلة الذهب بالذهب لا بمبادلة بعير ببعير، وهذا الإلحاق إنما هو بعلة الثمنية، ومن لا يقول بهذه العلة - كالحنفية والحنابلة - لا يمكنه الإلحاق. وهو خطأ لا ينبغي التردد في الموقف منه.

والله أعلم.

الثلاثاء، 30 نوفمبر 2021

مأساة تحكيم المقالات في المجلات العلمية

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، وصحبه، ومن والاه، وبعد:

فَيفتقرُ تحكيمُ البحوث والمقالات في المجلات العلمية، ولاسيما العربية المتخصّصة في العلوم الإنسانية، إلى معاييرَ واضحةٍ ضابطة لعملية التحكيم. ومن ثَمَّ لم يكن مستغربًا - بل كثيرًا معتادًا - أن يأتي تقريرُ أحد الحكمين اللذين أُرسلت لهما المقالة العلمية على النقيض تماما من تقرير الحكم الآخر، فيُثني أحدهما على المقالة ثناءً وافرًا، في حين يُبالغ الآخر في ذمّها فلا يجيزها للنشر، أو يجيزها مع تعديلاتٍ جوهريّة، قد تقتضي إعادة كتابة المقالة في معظمها من جديد.

يبدأ الخلل في كثير من الأحيان من إدارة تحرير المجلة حين تُرسلُ البحث إلى حَكَمٍ من خارج التخصّص الدقيق لموضوع البحث، بل ربّما كان أحيانًا خارجًا عن التخصّص العام له. والسببُ جهلُ الـمُرسل بمادّة البحث على وجه الدِّقة، وإلى أي تخصُّص فرعيٍّ تنتمي، أو ربّما كان السببُ مصالحَ شخصيّةً، بأن يتغاضى مديرُ التحرير عن تطلُّب توفّر التخصّص الدقيق في الحَكم؛ لأنه قريب، أو زميل، أو صديق، أو ذو سلطان؛ فينفِّعُه المديرُ بأجرة التحكيم؛ مَيلًا إليه، أو ليكسب يدًا عنده لمنافع يُرجى تبادُلها.

فإذا لم يحصل من ذلك شيء، وأصابت إدارةُ المجلة في اختيار الحكم فيما يتعلق بالتخصّص الدقيق فإنّها ربّما لا تحسن اختياره من حيث مدى ما يتّصِف به من موضوعيّة في النقد؛ ولا سيّما إذا كان ينتحي اتجاها متطرِّفًا في التخصّص؛ إذ في كلِّ تخصّص محافظون تقليديّون يمينيّون، وآخرون تجديديّون مُتَفَتِّحون يساريّون، وقسمٌ ثالث في الوسط لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء: وعند التطرُّف تتهاوى الموضوعيّة في النقد إلى حدٍّ كبير. وأقرب الناس إلى الموضوعيّة أرباب الوسط.

ولو افترضنا اهتداء إدارة المجلة إلى الحكم المتخصِّص المعتدل غير المتطرف فلا يمكن استبعاد الأسباب النفسية المؤثِّرة فيما يمارسه من نقدٍ للآخرين وأعمالهم، ولا سيّما ما يتميّز ويتفوّق من هذه الأعمال. وأعظمُ هذه الأسباب النفسية آفةُ الحسد الذي قال عنه ابن تيمية، رحمه الله: (أمراض القلوب وشفاؤها، ص21): هو «مرض غالبٌ فلا يخلص منه إلا القليل من الناس؛ ولهذا يُقال ‌ما ‌خلا ‌جسدٌ ‌من ‌حسد، لكنِ اللئيم يُبديه، والكريم يُخفيه»، وقال ابن رجب، رحمه الله: (جامع العلوم والحكم، 2/ 260): «‌الحسد ‌مركوزٌ في طباع البشر، وهو أنّ الإنسان يكره أن يفوقه أحدٌ من جنسه في شيء من الفضائل. ثمّ ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام: فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل، ثمّ منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقلٍ إلى نفسه، وهو شرُّهما وأخبثُهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهيّ عنه، وهو كان ذنبَ إبليس حيث كان حسد آدم، عليه السلام، لمّا رآه قد فاق على الملائكة». وهذا الذي قاله الشيخان من تَأصُّل الحسد في قلوب الناس هو ما دلّ عليه ما رُوي عنه، صلى الله عليه وسلم، بسند ضعيف: «كلُّ بني آدمَ حَسود، وبعضٌ أفضلُ في الحسد من بعض...». (السخاوي، المقاصد الحسنة، ص579).

ولأجل آفة الحسد هذه ردَّ علماؤنا كلام الأقران من العلماء بعضهم في بعض، ولم يلتفتوا إليه، حتّى سطّروا في ذلك قاعدةً قالوا فيها: "كلام الأقران بعضهم في بعض يُطوى ولا يُروى"، وقالوا: "المعاصرة حِجاب"، وذلك لأنها تزوي عن المتعاصرين رؤية فضائل بعضهم بعضًا؛ لما استقرّ في نفوسهم من التحاسد والتنافس بحكم المعاصرة. روي عن ابن عبّاس، رضي الله عنهما، أنّه قال: (جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1091): «خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم في بعض؛ فإنّهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة». وقال مالك بن دينار، رحمه الله: (جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1092): «يُؤخذ بقول العلماء والقراء في كلّ شيء إلا قول بعضهم في بعض؛ فَلَهُم ‌أشدّ ‌تحاسدًا من التيوس». وقال الذهبي، رحمه الله: (ميزان الاعتدال، 1/ 111): «‌كلام ‌الأقران، بعضِهم في بعض، لا يُعبأ به، لا سيّما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد. ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أنّ عصرًا من الأعصار سَلِم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصِّدّيقين، ولو شئتُ لسردت من ذلك كراريس».

ومن ثَمَّ كان التحكيمُ محفوفًا بكثير من الآفات التي تدنيه من التعسّف، وتُقصيه عن الموضوعية، بدءًا بآفة تواضع معرفة الحكم بمادة البحث إن كان جاهلا، ومرورًا بآفة احتمال تطرّفه وتحيّزه إن كان عارفًا، وانتهاء بآفة ما قد يثور في نفسه من الحسد الكامن عند وجدانه بحثًا متميّزا يفوق ما يكتبه هو.

وأخطر الحُكّام ليس الجاهل بموضوع البحث المدرك لجهله، لأن هذا يتواضع في النقد ولا يجرؤ عليه إلا في الشكليّات وما عَلِم خطأه قطعًا، وإنما أخطرهم العالمُ الحسود؛ لأنه يتمحّل النقد الموضوعي ويتكلّفه، ويُبدي صواب الباحث، أو ما احتمل الصواب، في لبوس الخطأ المحض مستغلًّا معرفته بالموضوع، ويليه منزلةً في الخطر  -وهم الأكثر توافرًا من الحُكّام في الواقع- الحُكّامُ أنصاف العالمين بالموضوع، الماسّين له مسًّا ضعيفًا أو وَسَطًا، فهؤلاء يتجرؤون على النقد الموضوعي بما لا يحسنون ظانّين أنهم يُحسنون، فيقعون في أخطاءَ في النقد يندى لها جبين المدرك لذلك. وقد قالوا قديمًا: ما أهلك الأديان إلا أنصاف العلماء، وما أهلك الأبدان إلا أنصاف الأطباء.

وأشدُّ من يعاني من التحكيم صنفان من الباحثين: باحثٌ ضعيف لا يفي بمعايير البحث الموضوعية أو الشكلية أو كليهما، ولا سيّما إذا كان بحثه مكرورًا خاليًا من الإضافة العلمية. وهذا الباحث حقيقٌ بالمعاناة؛ لأنّ مادّته رخيصة وبضاعتَه مزجاة، وحقُّه أن يكفّ عن عَرْضِ عَقلِه على الناس بسقيم التأليف الذي يسود به الصُّحُف، فالضرر الحاصل من كثرة السقيم من التأليف لا يقلُّ عن الضرر الحاصل من ندرة الجيّد منه. والصنف الآخر باحثٌ متميِّزٌ لا يجاريه الحَكَمُ معرفةً وعمقًا واقتدارًا، ولا سيّما إذا خلا بحثُه، على قوّته الموضوعيّة، من العيوب الشكليّة. وهذا الباحث ليس حقيقًا بالمعاناة، ويتعسّف أكثرُ الحُكّام في نقد ما يقدّمه من مادّة علمية: إمّا جهلًا، وإمّا حسدًا، أو كليهما.

وضمانةً ألا يتعسّف الحُكّام في النقد، سواءٌ منهم الجاهلون، أم العالمون، أم أنصاف العالمين، فإنّ على هيئات التحرير في المجلات أن تتوافق على معايير لضبط التحكيم وتقييد الحَكم بها قدر الإمكان، فكم من عائبٍ قولًا صحيحًا... وآفتُه من الفهم السقيم. 

وممّا يُقترح في هذه المعايير ويتعلّق بها ما يأتي:

  1. يُرَدّ البحث قطعًا للسرقة العلمية، ويُدرج الباحث في قائمة سوداء تُعمّم على المجلات الأخرى. ومن وظيفة الحكم أن يجهد نفسه في الكشف عن السرقة العلمية ما استطاع.
  2. يُرَدّ البحث إذا خلا من إضافة علميّة على ما سبقه من دراسات في الموضوع نفسه. ومن أهم واجبات الحكم أن يُقدِّر حجم الإضافة العلمية في البحث، بالرجوع إلى ما كُتب في الموضوع من دراسات سابقة، سواءٌ أشار إليه الباحث أم لم يشر، إذ كثيرًا ما يتعمّد الباحثون عدم الإشارة إلى الدّراسات السابقة اللصيقة بالموضوع إذا لم تكن له إضافةٌ على ما جاء فيها.
  3. لا يُرَدُّ البحث بسبب الأخطاء الشكلية ولو كثرت (كعيوب الطباعة والتوثيق ونحو ذلك)، لأنّ هذا ممّا يسهل تداركه.
  4. لا يُردُّ البحث بسبب الأخطاء العلمية المقطوع بخطئها إذا لم تكن من الكثرة بمكان، أو كانت هامشية، لم يُبن عليها في البحث أفكارٌ مِفصلية، ونتائجُ أساسيّةٌ تصبّ في صُلب الإضافة العلمية المدّعاة.
  5. لا يجوز للحَكم أن يفرض رأيه على الباحث فيما قرّره في بحثه من رأي يحتمل الخلاف، ولو رأى الحكم أنّ هذا الرأي مرجوحٌ أو ضعيف ما دام قد بناه الباحث على أدلّةٍ ومقدّمات، ولو ظنيةً أو محتملة. لأنّ الرجحان والضعف أمران نسبيان. وفي نهاية المطاف يتحمّل الباحث نتيجة آرائه، لا يتحمّلها الحَكم ولا المجلّة. وكم من رأي كان مرجوحًا مستهجنًا في زمان صار راجحًا رائِجًا في غيره.
  6. ينبغي على الحَكم أن يركّز نقده على المنهجيّة المتبعة في وصول الباحث إلى نتائج البحث، والتحقّق من سلامة الإجراءات، ومن ذلك مثلًا: أن يؤشِّر له على الدعاوى غير المبرهن عليها، ويرشده إلى استكمال النقص في استقراء الآراء، أو الأدلّة في المسألة، ويتحقّق من وجود إشكالية حقيقية دقيقة تغّيا البحث حلَّها والإجابة عن أسئلتها، وأنّ ذلك تحقَّق فعلًا.
  7. لا يُقبل من الحَكم نقدٌ لفكرة في البحث يُراد تعديلها إلا ببيان موضعها من البحث بالسطر والصفحة، مع بيان الصواب ووجه التعديل.
  8. ينبغي أن يفصِل الحكم بين ملاحظاته الإجمالية واقتراحاته التحسينية من جهة، والتعديلات التي لا يُقبل نشر البحث إلا بعد إجرائها من جهة أخرى. أي يفصل بين ما كان مجملًا وما كان مفصَّلًا، وفي المفَصَّل من الملاحظات يميِّز بين ما كان تحسينًا وإثراءً، وما كان تصويبًا لخطأ قطعي في المعلومات أو الإجراءات أو الشكليّات، فهذا الأخير يُلزَم الباحث بتعديله، وما عداه يستأنِس به فَيَقبل منه ما يَقبل، ويُهمل منه ما يُهمل، لأن البحث له يُعبِّر عن آرائه ومجهوداته، لا عن آراء الحكم ومجهوداته.
  9. بناء على النقطة السابقة يُقترح أن يشتمل تقرير الحكم على ثلاثة أقسام:

أولًا: الملاحظات الإجمالية.

ثانيًا: الملاحظات التفصيلية الإثرائية.

ثالثًا: الأخطاء العلمية أو المنهجية أو الشكلية (المطلوب تعديلها).

وما كان في القسم الأخير فقط هو ما يُلزمُ الباحث بتعديله دون ما سواه، ولا يُورِد الحكم فيه إلا ما كان خطئًا على وجه القطع، لا ما كان للاحتمال فيه مجال، ويُورِده مع بيان موضعه من البحث ووجه الصواب فيه. ويُعطى الباحث الحقَّ في الردّ على ما يورده الحكم في هذا القسم ممّا لم يقتنع بتعديله، لا لإثبات صواب رأيه، بل يكفي في ذلك بيانُ احتمال رأيه الصواب. ولا يُحَكَّم الحَكَمُ مرّةً أخرى في ردّ الباحث ولا يُطلَع عليه، لأنه انتقل، بعد رد الباحث عليه، من كونه حكمًا إلى كونه خصمًا ونظيرًا، فيفصِل في الخلاف بينهما مديرُ التحرير إن أمكنه، أو تُعرض الملاحظات والردُّ عليها على حَكمٍ آخر للفصل.

الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

استعمال ضمير الجمع عند التخاطب أو الكتابة

كثيرٌ من محكمي البحوث والرسائل العلمية ينتقدون استعمال الباحث ضمير الجمع "نا" تعبيرا عن نفسه في الخطاب، كأن يقول: قلنا ، وعندنا، ونرى، ونحو ذلك، نظرا منهم إلى أن هذا ينافي التواضع ويبرز الأنا، وهناك أيضًا منهم من ينتقد تعبير الباحث بضمير الغيبة: كأن يقول: ويرى الباحث، ويقول الباحث لنفس السبب السابق. وهذا - في رأيي - تنطع وتكلف، وإنما يكثر صدوره عن الحكام الذين يركزون في نقدهم على الشكليات، والعجيب أنهم ينتقدون البحوث أيضا بعدم ظهور شخصية الباحث في البحث: فإذا قال: أرى ونرى وأقول ونقول، قالوا هذا ينافي التواضع، فيحتار المرء ماذا يكتب وكيف يعبر عن أفكاره الخاصة واختياراته وترجيحاته.

والصحيح أنه لا إشكال في كل ذلك، والتعبيرات المذكورة لا تنافي التواضع ولا هي من الأسلوب المرذول والمنتقد في التعبير، بل هي عرف عام في الكتابة العلمية قديما وحديثا لولا تنطعات بعض الشكليين ممن تأثروا بكتب آداب البحث ومناهجه المعاصرة التي تكثر النقل عن الكتب الأجنبية دون الانتباه لفوارق اللغة والثقافة والأعراف الكتابية الخاصة بكل علم من العلوم عند الأمم المختلفة. ومؤلفات التراث العلمي للمسلمين طافحة بالتعبير بضمير الجمع عن المتكلم وقد كان أسلافنا أكثر منا أدبا وتواضعا، فمثل هذا النقد في غير محله، ولا يشتغل به محصِّل.

يقول الدكتور طه عبد الرحمن مبينا  وجه التعبير بضمير الجمع عن المتكلم في الكتابة العلمية:

"إذا نحن استعملنا ضمير الجمع بدل ضمير المفرد في كتاباتنا، فلأن هذا الاستعمال تقليد عربي أصيل في صيغة التكلم من صيغ الكلام، ثم لأنه هو الاستعمال المتعارف عليه في المقال العلمي والتأليف الأكاديمي، فضلا عن أنه يفيد معنى "المشاركة" و"القرب"، إذ يجعل المتكلم ناطقا باسمه وباسم غيره، ولا غير أقرب إليه من المخاطب، حتى كأن هذا المخاطب عالم بما يخبره به المتكلم ومشارك له فيه، فيكون ضمير الجمع، من هذه الجهة، أبلغ في الدلالة على التأدب والتواضع من صيغة المفرد، ولا دلالة له إطلاقا على تعظيم الذات ولا على الإعجاب بالنفس". التكوثر العقلي (هامش(1)، صفحة 12) .


أيمن صالح

https://t.me/alfikh

الاثنين، 6 سبتمبر 2021

هل لمن قَصُر عن رتبة الاجتهاد، أن يرجِّح بين الأقوال في المسائل الفقهية!

قال ابن تيمية، رحمه الله، (المسودة، ص512): 

«قال ‌أبو ‌الحسين ‌القُدُوري [الحنفي]: المقلِّد إذ غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب فقيه أقوى، فعليه أن يقلد فيها ذلك الفقيه، وإذا أفتى بها حاكيا لمذهب من قلده جاز.

 وقال أبو الطيب الطبري [الشافعي]: لا حكم لظنه واستحسانه. 

وكانا قد سُئلا عمَّن يقلد فقيها فاستحسن مسائل في مذهب غيره، هل يجوز له أن يقلد صاحب المسائل، ويعمل بها، وإذا سُئل عن تلك المسائل يفتي بها على سبيل الإخبار على مذهب ذلك الفقيه».

قلت- أيمن: وكلام القُدوري، رحمه الله، أقرب إلى ظواهر الشرع من كلام القاضي أبي الطيب، رحمه الله، لقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ‌فَيَتَّبِعُونَ ‌أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}، وهذا يشمل كل مسلم بقدر طاقته، ولقوله: صلى الله عليه وسلم لمن سأله: "قلتُ يا رسولَ اللهِ أخبِرْني ما يحِلُّ لي ويحرُمُ عليَّ، قال: البرُّ ما سكنت إليه النَّفسُ واطمأنَّ إليه القلبُ والإثمُ ما لم تسكُنْ إليه النَّفسُ ولم يطمِئنَّ إليه القلبُ وإن أفتاك المُفتون". [إسناده جيد كما قال ابن رجب وغيره] وفي رواية ضعيفة: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس". ودلالته ظاهرة بأن المستفتي لم يكن من أهل الاجتهاد، وأحاله، صلى الله عليه وسلم، على علامة باطنة، لا على التخيّر والتشهي، ولا على التقليد لمُعيّن من المفتين بالغي رتبة الاجتهاد.

وعلى قول القدوري يتخرّج ما يقوم به كثير من طلبة العلم، القاصرين عن رتبة الاجتهاد، من الترجيح في المسائل الفقهية، معتمدين في ذلك على ما أمكنهم من النظر، وإن كان قاصرًا.

لكن المفسدة التي قد تترتب على ذلك، (أعني اشتغال من قصر عن رتبة الاجتهاد بالترجيح بين المسائل بناء على النظر في الدليل) هي ما يُرى في كثير ممن هم في رتبة العامي المحض، وفي المبتدئين، أو حتى المتوسطين، من طلبة العلم، وصغار الباحثين، ولا سيما من أولئك المشتغلين بالحديث تصحيحًا وتضعيفًا، ما يرى فيهم من ثقة - مبالغ فيها في كثير الأحيان - بترجيحاتهم واختياراتهم، حتى يكاد بعضهم أن يجزم بخطأ القول المخالف في مسائل هي في ملتطم الظن والنزاع بين أئمة الاجتهاد. وهذا تعسّف بالغ، قائم على وهم التمكّن من النظر، وسراب حيازة الصواب، وخيال الإحاطة بالمسألة لمجرد المعرفة ببعض الادلة الجزئية التي تساق فيها، وحينئذ يكون الترجيح من قِبَل من كان هذا حاله مذمومًا، لأنه من قبيل التعالم، وتشبّع المقلّد بما لم يعط من آلات الاجتهاد، وهو من لبس الزور، كما جاء في الحديث: "المتشبّع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" [متفق عليه]. هذا فضلًا عمّا يولده الترجيح على هذا الوجه من تعصّب للرأي، وإساءة للظن في أئمة الاجتهاد. ولعله لأجل هذا الوجه ذم الترجيح من ذمّه من المعاصرين، وكأنه كان ذريعة إلى هذه المفاسد فكان من السياسة سد باب الترجيح بالكلية.

والذي نراه هو أن من رجَّح من القاصرين عن الاجتهاد، لا على الوجه المذموم الذي ذكرنا، فلا دليل يمنع من نظره وترجيحه، بل هو أولى به من التزام مذهب بعينه دون تكلّف إعمال النظر البتة، لأنه أدعى إلى مطالعة نصوص الكتاب والسنة، والتبصّر في اختلاف العلماء، وهو أمر حميد، يرقى بصاحبه، بعد اكتمال الآلة بإذن الله تعالى، إلى منازل المجتهدين.

قال العز بن عبد السلام، رحمه الله، (القواعد، 2/ 159)، متعجِّبا من المقلد الذي يجمد على مذهب إمامه في المسألة مع ظهور ضعف رأيه فيها:

«ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن ‌مقلَّده. وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم في خلاف ما وطّن نفسه عليه، تعجب غاية التعجب من غير استرواح إلى دليل، بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظنّ أن الحق منحصر في مذهب إمامه...، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصبر عليه، مع علمه بضعفه وبُعده. فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه، ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابَلٌ بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره، حتى حمله على مثل ما ذُكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان، وعلى لسان من ظهر».

وقال ابن تيمية، رحمه الله، (مختصر الفتاوى المصرية، ص555):

«الاجتهاد يقبل التجزئة والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهدا في مسألة أو صنف من العلم ويكون غير مجتهد في مسألة أو صنف آخر، بل أكثر من عنده تمييز من المتوسطين إذا نظر في مسائل النزاع وتأمل ما استدل به الفريقان بتأمل حسن ونظر تام ترجّح عنده أحد القولين، ولكن قد يشق عليه الاكتفاء بنظره، فالواجب على مثل هذا أن يتبع قولا ترجح عنده من غير دعوى منه للاجتهاد، بل هو بمنزلة المجتهد في أعيان المفتين والأئمة وإذا ترجّح عنده أن أحدهم أعلم قلده.

ولا شك أنّ معرفة الحكم بدليله أيسر وأسلم من الجهل والتقليد واتباع الهوى. فإذا جوّزنا للرجل أن يقلد الشخص فيما يقوله لاعتقاد أنه أعلم، فلأن يجوز له أن يقلد صاحب القول الذي تبين له رجحان قوله بالأدلة الشرعية، أولى وأحرى».

وقال شيخ متأخّري الشافعية، ابن حجر الهيتمي، رحمه الله،  في شرح خطبة "العُباب": «الشخص كثيرًا ما يعتمد في تصنيفه خلاف ما يفتي به؛ لأنه قد يبيِّن الراجح عنده، وفي إفتائه يبيِّن الراجح من المذهب».

ويظهر من قوله هذا أن المفتي المقلد المعتزي إلى مذهب يذكر الراجح في المذهب لمستفتيه لا الراجح عنده. وما ذلك، والله أعلم، إلا لأن الناس إنما تستفيه للاستعلام عن الراجح في المذهب لا في رأيه. وأما إذا كان في مجال التصنيف والتأليف فهو في بحبوحة من التقيُّد بالراجح في المذهب، وله أن يعتمد ما يراه راجحا عنده. قلت: ومن باب أولى إذا كان ترجيحه واختياره هذا في مجال عمله في نفسه.

وقال المعلّمي، رحمه الله، (التنكيل 11/ 585 ضمن آثار المعلمي):

«قد نصَّ جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلِّد إذا ظهر له رجحانُ الدليل المخالف لإمامه لم يجز له تقليدُ إمامه في تلك القضية. بل يأخذ بالحق، لأنه إنما رُخِّص له في التقليد عند ظن الرجحان، إذ الفرض على كل أحد طاعةُ الله وطاعة رسوله. ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد، فإنه لا يتحقق رجحانُ خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلَفٍ فيه، فيترجَّح عندك قولُ مجتهدٍ آخر، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متَّبعًا الدليلَ الراجح من جهة، ومقلِّدًا في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة. والفقهاءُ يجيزون تقليد المقلِّد غيرَ إمامه في بعض الفروع لمجرّد احتياجه، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلِّده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله؟».

وفي ضوء هذا كلِّه ندرك أهمية تعلم أصول الفقه للمقلد، لأن إتقان أصول الفقه أقوى سبب في تنمية ملكة الترجيح لديه إلى أن يبلغ مرتبة الاجتهاد الجزئي في مسائل، أو ربما الاجتهاد الشامل في معظم المسائل، وما ذلك على الله بعزيز. 

وتأسيسا على هذا، نعلم بأن كلام الذهبي، رحمه الله، في «زغل العلم» (ص41): «‌أصول ‌الفقه لا حاجة لك به ‌يا ‌مقلد، ويا من يزعم أن الاجتهاد قد انقطع، وما بقي مجتهد، ولا فائدة في ‌أصول ‌الفقه إلا أن يصير محصله مجتهدا به، فإذا عرفه ولم يفك تقليد إمامه لم يصنع شيئا، بل أتعب نفسه وركب على نفسه الحجة في مسائل، وإن كان يقرأ لتحصيل الوظائف وليُقال، فهذا من الوبال، وهو ضرب من الخبال»، كلامه الذهبي هذا محمولٌ على المقلّد الجامد الممتنع عن الترجيح المحيل للاجتهاد حالا ومآلا، كالمقلد الذي تعجب منه العز بن عبد السلام كما نقلناه من كلامه آنفا، وإلا فلو كان المقلد المحصِّل طرفًا من آلات الاجتهاد يستعمل ما يتقنه من "أصول الفقه" في الترجيح في بعض المسائل التي تسنى له النظر فيها، فمثل هذا لا يتوجه عليه كلام الذهبي، رحمه الله.

والله أعلم

أيمن صالح

https://t.me/alfikh