الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:
فالتمويل (دفع المال للغير ليردَّه أو يردّ مثله بعد
حين) إما أن يكون بقصد الربح، أو بقصد الثواب (القُربة).
فأمّا التمويل بقصد
القربة:
فإن كان بضمان رأس المال
فهو القرض الحسن. {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}.
وإن كان من غير ضمان رأس
المال، فهو الإبضاع، وهو أن تدفع المال للغير ليتّجر به (ليستثمره)، فما كان من
ربح فهو للمتّجر به وحده، وما كان من خسارة فمن رأس المال.
وأمّا التمويل بقصد
الربح فهو صنفان: محرّم ومباح.
فالمحرّم هو التمويل بربا
القروض وهو دفع المال للغير ليردّه بعد أجل بزيادة مشروطة على رأس المال.
وأما المباح من التمويل فثلاثة
أصناف لا غير:
الأول: التمويل بالمضاربة،
وهي دفع المال للغير ليتّجر به (ليستثمره)، مع اشتراط نسبة شائعة من الربح إن حصل.
والفرق بين الحرام (الربا) والحلال (المضاربة) هو أن الربا يُشترط فيه ضمان رأس
المال والعائد للمُموِّل، بخلاف المضاربة، فلا ضمان فيها لرأس المال ولا للعائد.
وهذه المخاطرة التي في المضاربة هي التي سوَّغت الحصول على الربح مقابل التمويل،
وجعلتها تفترق عن الربا الذي يكون رأس المال والعائد فيه مضمونًا بمقتضى العقد.
والصنف الثاني: التمويل بالبيع
الآجل. وهو أن يقوم التاجر ببيع سلعة لمن يطلبها على أن يُحسب فيها للزمن قسطٌ من
الربح، ولذلك يختلف سعر بيع هذه السلعة حالّة عن بيعها آجلة، فيكون للزمن تأثيرٌ
في سعرها. وفي مشروعية هذه الزيادة في ثمن المبيع مقابل التأجيل خلافٌ قديم بين
الفقهاء، لكنّه خلاف ضعيف، والراجح الجواز، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وإن كان هذا
الجواز مصحوبًا بالكراهة عند بعض الفقهاء.
والذي سوّغ الربح (الزيادة
مقابل الأجل) في هذه المعاملة مع أنها تشبه الزيادة التي تكون في عقد الربا، حتّى
قال الكافرون {إنّما البيع مثل الربا} = هو أنها زيادة تابعة للربح الناشئ عن عقد
البيع نفسه، لا زيادة مستقلّة مقصودة لذاتها، أمّا في عقد الربا فهي زيادة مستقلة مقصودة
لذاتها، وقد يجوز قصد الشيء تبعًا، ولا يجوز قصده استقلالًا. ومن أمثلة ذلك الإجماع
على جواز بيع الشاة الحامل بزيادة عن سعرها ما لو لم تكن حاملًا، ومع ذلك لا يجوز
بيع الحمل (الجنين) وحده. فزيادة السعر بسبب الحمل تجوز بالاتفاق رغم جهالة الجنين؛
لأنّ محلّ العقد هو الشاة، والجنين تابع. أمّا بيع الجنين وحده فلا يجوز، لأنّه هو
محلّ العقد وفيه جهالة. ويجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا.
وأما ربح البيع نفسه،
سواء أكان بيعًا حالّا أو آجلًا، فمُسوِّغ حصولِ التاجر عليه = الخدمةُ والمخاطرة
التي يتحمّلها هذا التاجر؛ إذ هو يشتري السلعة من أسواقها التي قد تكون بعيدة أو مجهولة، بعد
البحث عن أرخص ما تُباع به، ثم يتحمّل ما يحدث لها بعد شرائه لها من تلف أو فساد،
وكذلك يتحمّل عبء نقلها وحفظها وتخزينها إلى حين بيعها، ويتحمّل ما يطرأ على سعرها
من تقلبات؛ إذ قد ينزل سعرها فيخسر، أو
يرتفع فيربح، ثمّ هو يكون موضعًا للمساءلة بعد بيعها فيما لو وَجد المشتري فيها عيبًا.
فلكلّ ذلك من جهود وخدمات ومخاطرات يحلُّ له الربح؛ لأنه يقدِّم مقابلًا له، وقيمةً
اقتصادية مضافة، وبهذا هو لا يشبه المرابي الذي لا يقدِّم أيَّ مقابل بدل الزيادة
التي يتحصّل عليها سوى التمويل نفسه، ولا يُدخِل نفسه في مخاطر التجارة، ولا يقوم
بأعبائها.
والصنف الثالث: بيع السَّلَم،
وهو بيع سلعةٍ موصوفة في الذمّة مقابل ثمن حالّ، وهو عكس البيع الآجل، والربح الذي مقابل
الزمن يقع فيه للمشتري (المموِّل) لا للبائع (المموَّل)، لأنّ تأخير تسليم السلعة
مع الدفع الحالّ يؤدّي إلى إرخاص في ثمنها مقابل أجل التأخير. وأمّا البائع فيتربّح
من بيع السلعة نفسها. ومن ثَمّ كان في هذا البيع مصلحةٌ للطرفين: البائع بتصريف
السلعة والحصول على ربحها مُقدمًّا، والمشتري بإرخاص ثمنها مقابل رضاه بتأخير
استلامها.
وثمّة عقود تحايلية نشأت
للالتفاف على تحريم الرّبا (التمويل الحرام الصريح)، بحيث يتلازم التمويل مع ضمان رأس
المال والعائد للمُموِّل، ومن دون تحمّل المموِّل المخاطرة في التجارة، ولا قيامه
بأعبائها.
فمن ذلك:
حِيَلُ ضمان رأس المال
في المضاربة، ومن ذلك تركيب عقد القرض مع عقد الشركة. بأن يقول صاحب المال للمضارب
خذ هذه الألف دينار قرضًا، وخذ هذا الدينار شركة، واتجر بالمالين فما يكون من ربح فهو
بيننا بالنصف. وفي مثل هذه الحيلة، إذا ربحت التجارة فإنّ ربّ المال يأخذ نصف
الربح الناشئ عن الألف والدينار، وأما إذا خسرت، فإن ربّ المال لا يخسر سوى
الدينار، وأمّا الألف فهي مضمونة على المضارب لأنها قرض.
ومن ذلك:
بيعُ العينة، حيث يتواطأ
المموِّل مع الممَوَّل على بيعه سلعة بيعًا آجلا بثمن ثم شرائها منه حالَّةً بثمن
أقل، فتعود السلعة للبائع (المموِّل)، وأمّا المشتري (المموَّل) فيكون مدينا
بثمنها الآجل مقابل ما حصل عليه من النقد من ثمنها الحالّ. وهذا في الحقيقة تمويل
بالنقد مقابل زيادة مضمونة، والسلعة كانت واسطة صورية لجعل عقد الربا يبدو في صورة
بيع.
ومن ذلك:
حِيَل الوساطة المالية،
كما تفعله البنوك التي تُسمّى "إسلامية" التي تقدم النقد (بطريق مباشر
أو غير مباشر) لتحصل على زيادة مقابل تأجيل السداد، بأن تتوسط بين التاجر
والمشتري، بحيث يحصل التاجر على ربح السلعة، ويحصل البنك على ربح الأجل، مع أن
الذي سوَّغ للتاجر الربح مقابل الأجل هو كون هذا الربح ربحا تابعًا لا مقصودًا
بالنسبة له، والتاجر - كما أسلفنا - يقدم خدمة ومخاطرة في التجارة تسوّغ له الربح
الأصلي والتابع، أمّا البنك فالزيادة مقابل الأجل مقصودة عنده لذاتها، وتوسُّطه
بالتمويل إنما هو لأجل الحصول عليها لا غير، وهو لا يقدم خدمة ولا مخاطرة سوى
التمويل نفسه، فكان بالمرابي أشبه منه بالتاجر، بل يكاد يكون هو والمرابي سواء، رغم
مباشرته البيع والشراء اللحظي، كما في ما يُسمّى بعقد المرابحة للآمر بالشراء،
ولذلك كره هذا العقد وحرّمه أكثر من تكلم في حكمه من فقهاء السلف.
ولو تأملنا المفاسد التي
تنشأ عن الربا لوجدناها نفسها هي التي تنشأ عن عقود الوساطة المالية، من مثل:
أوّلًا: الربح المضمون من
غير تقديم قيمة اقتصادية مضافة، لا خدمة، ولا مخاطرة، إلا التمويل نفسه. وهذا يؤدي
إلى كسل أصحاب المال وعدم استثمارهم أموالهم في المشاريع التي تقدم قيمة اقتصادية
مضافة، وتزيد الإنتاج، وتقلل البطالة، وتتضمن نوعًا من المخاطرة، كما يكون في السوق
العقارية وسوق الأسهم، ولذلك فإنه من المقرّر اقتصاديًّا أنّ العلاقة عكسية بين
ارتفاع سعر الفائدة (الربا)، والاستثمار، فكلمّا زاد سعر الفائدة (الربا) قلَّ
الاستثمار، لأن الناس تحوّل أموالها من سوق الأسهم إلى الإيداع في البنوك أو شراء
السندات، لأن البنوك والسندات ربحها مضمون بخلاف الأسهم.
ثانيا: التشجيع على
الاستهلاك البذخي، وزيادة مديونيات الأفراد، فعقود الوساطة المالية والربا سواء في
هذا الأثر، لأنها تجعل من السهل على الأفراد الحصول على التمويل لا لسدّ حاجاتهم فحسب،
بل ولتحقيق رغباتهم في اقتناء السلع والخدمات الكمالية. والاستهلاك البذخي مضر جدًّا
بحياة الناس؛ لأنّه يزيد مديونياتهم ويحوِّل الكماليات إلى حاجيات في حقِّهم بحكم
العرف؛ إذ يصبح الفرد، حتى غير الراغب في الاقتراض، في حرج؛ لأنّه غير قادر على التعايش
سويًّا مع بقية أفراد المجتمع إلا بأن يكون مثلهم في الإنفاق، وإلا تعرّض للّوم أو
النقد، أو التعيير بالبخل، بسبب عدم مجاراته لهم في عادات الإنفاق. وهذا يظهر في
العادات الاستهلاكية للمجتمعات، كما في تجديد السيارات، أو الأثاث، أو بناء البيوت
الفارهة، أو تكاليف الأفراح، أو الأتراح...الخ، فينفق المرء إنفاقًا كماليًّا في
هذه المجالات، وهو كاره في كثير من الأحيان، لا لشيء إلا ليتقي نظرة الناس الدونية
إليه، ونقدهم له، فيما لو لم ينفق بالقدر الشائع عرفًا، وما كان هذا العرف ليستقر
وينتشر لولا سهولة الاقتراض.
ثالثًا: التضخم ورفع
الأسعار. وهو أثر جلي من آثار الربا وعقود الوساطة المالية، لأن هذه العقود تجعل
من السهل توفير النقد الذي يُبذل في مقابل السلع، سواء وضع في يد الشخص مباشرة، كما
في التمويل بالربا والتورق المصرفي، أو وُضع في يد التاجر لصالح الشخص الراغب بالسلعة،
كما في عقود الوساطة المالية، من مرابحة وإجارة منتهية بالتمليك، ومشاركة متناقصة،
وغيرها، ومن ثم ترتفع أسعار السلع لإقبال كثير من الناس على شرائها والحصول عليها.
وعادةُ الحكومات في معالجة التضخُّم أن تلجأ إلى رفع أسعار الفائدة الربوية. وهذا
من قبيل معالجة الداء بالداء، لأن رفع أسعار الفائدة يقلِّل من إقبال الناس على الاقتراض
من البنوك، ومن ثم يقلِّل من استهلاكهم، فيزيد عرضُ السلع، وتقل أسعارها، لكنه في
المقابل يضر بالاستثمار؛ لأن الأغنياء يحولون أموالهم من أسواق الأسهم (الاستثمار)
إلى البنوك نظرا لارتفاع العائد على الربا وضعف المخاطرة، فيحدث الركود ويقل
الإنتاج وتزيد البطالة.
والحاصل هو أن المفاسد
الناشئة عن التمويل بالربا هي نفسها تنشأ عن التمويل بعقود الوساطة المالية للبنوك،
وما يكون من فرق فهو فرق إمّا شكلي لا يقدِّم ولا يؤخِّر، وإمّا هامشي ضئيل لا يؤثر في
حجم هذه المفاسد.
وكتبه أيمن صالح